حصل، وتمّ، وتحقّق ما أطلقه أيمن عودة كشعار، وما طبّقه ونفّذه غريمه، (حالياً) وحليفه، (الى ما قبل أشهر معدودات) الدكتور منصور عبّاس. صحيح أن ما حصل وتمّ وتحقّق مليء باختلافات جدّية عمّا نادى به ودعى إليه الصديق أيمن عودة، (رئيس قائمة «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» ورئيس «القائمة العربية المشتركة» للانتخابات العامة الأخيرة في إسرائيل) وطبّقه الدكتور منصور عبّاس، (رئيس»القائمة العربية الموحَّدة» في تلك الانتخابات). لكن تلك الاختلافات، على أهميتها، لا ترقى الى المسّ بجوهر الفكرة والدعوة الى المشاركة في رسم ووضع السياسة في إسرائيل.
لا بدّ لكل من يتعاطي مع العمل السياسي في إسرائيل، من التدقيق والمتابعة الدائمة، لمعرفة قوانين وشروط وظروف التحرّك على خريطة هذه الساحة، المليئة بالخطوط المتعرجة والمتقاطعة، وبالدهاليز والحواجز وحقول الألغام في تلك الخريطة الطبوغرافية من جبال وتلال ووديان وسهول، وصحارى ايضا.
للكنيست، (البرلمان الإسرائيلي) مثل كل البرلمانات في العالم، (خاصة في الدول الديمقراطية الحقيقية) دوْران اثنان: 1ـ دور توفير منبر حر لأعضائه لإبداء الرأي، تأييداً ومعارضة، وهو دور مهم؛ و2ـ دور جوهري بالغ الأهمية، هو رسم السياسة، ومتابعة تطبيقها، ومنح الثقة للحكومة، أو نزع الثقة منها، وإسقاطها.
اقتصر دور الأحزاب العربية في الكنيست، منذ 1949 وحتى إلى ما قبل سنتين على النشاط في مربّع الكنيست كمنبرٍ لإعلان المواقف، (مع استثناء واحد ووحيد فقط، يوم شكّلت «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» برئاسة الراحل الوطني الكبير، توفيق زيّاد، و«الحزب العربي الديمقراطي» برئاسة عبد الوهاب دراوشة، شبكة أمان لحكومة اسحق رابين، حمتها من السقوط، ومكّنتها من اقرار اتفاقية أوسلو). وظل هذا الوضع قائماً الى ما قبل بضع سنين، عندما بدأ أيمن عودة يردّد قناعته/شعاره، موجها كلامه الى أحزاب «اليسار الصهيوني» (!): لا نستطيع وحدنا إسقاط حكومة اليمين العنصري المتطرف برئاسة بنيامين نتنياهو، لكنكم لن تستطيعوا ذلك بدوننا». ثم جاءت، قبل سنتين تقريبا، (23.8.2019) المقابلة التي خصّ بها أيمن عودة الصحافي الإسرائيلي المعروف، ناحوم بارنياع، في جريدة «يديعوت احرونوت» وقال فيها أنه لا بد من نقلة نوعية، و«لم يُلغِ أيمن عودة امكانية أن تقترح «القائمة المشتركة» التي يرأسها، على رئيس الدولة، رئوبين ريفلين، القاء مهمة تشكيل الحكومة على بيني غانتس، والإنضمام الى ائتلاف حكومة «وسط ـ يسار» برئاسة غانتس، إذا التزمت الأحزاب الأخرى في ذلك الإئتلاف بالتجاوب مع عدد من المطالب الأساسية للعرب (الفلسطينيين) في إسرائيل، وبالعملية السياسية» كما جاء في نص تلك المقابلة. وكان لهذه النقلة النوعية في الدور الذي تسعى الأحزاب العربية للعبه في الكنيست الإسرائيلي، تأثير حاسم وفوري في رفع عدد المقاعد التي كانت تعطيها استطلاعات الرأي في تلك المرحلة، من عشرة مقاعد فقط الى خمسة عشر مقعداً، وتم ذلك بفضل نسبة غير مسبوقة لمشاركة المواطنين الفلسطينيين العرب الذين يحملون بطاقة الهوية الإسرائيلية، في الانتخابات العامة التي جرت هناك بعد اسابيع قليلة.
ذلك التطور الكبير على صعيد دور الأحزاب العربية في الكنيست الإسرائيلي، مكّن اعضاء الكنيست الفلسطينيين من الإنتقال من «مقاعد المتفرّجين» الى «مقاعد لاعبي الإحتياط «. لكنهم لم يتمكنوا من إحراز أكثر من ذلك، بسبب خطأ وخطيئة غانتس، وسقوطه في مصيدة نتنياهو، وهو ما كاد ان يؤدي الى اختفاء غانتس من ساحة العمل السياسي في إسرائيل.
انشقّت «القائمة العربية الموحدة» برئاسة الدكتور منصور عبّاس عن «القائمة العربية المشتركة» في الانتخابات العامة الأخيرة هناك، والتي جاءت بعد اقل من ستة اشهر على الانتخابات المذكورة. وأثبت عبّاس حنكته السياسية باستقطاب الصديق مازن غنايم، رئيس بلدية سخنين سابقاً، ورئيس اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية في إسرائيل سابقاً، حيث عرض عليه إشغال الموقع الثاني في قائمته الإنتخابية للكنيست، وباستقطاب مازن غنايم، نجحت «القائمة الموحّدة» في تخطي نسبة الحسم، وأدخلت اربعة من أعضائها الى الكنيست، وانضم هؤلاء بشكل مباشر، (ولكن مؤقتاً فقط) الى الاعضاء الستة من «القائمة المشتركة» على «مقاعد الإحتياط» واقتنص الدكتور منصور عبّاس أوّل فرصة سنحت أمامه، وقفز بقائمته من «مقاعد الإحتياط» الى الملعب، عضواً مشاركاً في «الإئتلاف الحكومي» الجديد، لأول مرة في تاريخ الكنيست، ليكون بذلك الحزب العربي الأول، الذي يشارك ويلعب عملياً في ملعب السياسة الإسرائيلية، بعد عقود متتالية من المتابعة من مقاعد المتفرّجين.
حققت هذه الخطوة لـ«القائمة الموحّدة» إنجازات ووعوداً كبيرة، وليس من الحكمة التقليل من أهميتها والاستهتار بها، من جهة، كما ليس من الحكمة إطلاقاً اعتبارها إنجازات كافية، من جهة ثانية. هي خطوة أولى على الطريق، وتصبح خطوة خاطئة، بل وقاتلة، إذا اقتصرت على تأمين مكاسب محلية مادية فقط، ولم تنطلق لتأمين مكاسب حقيقية ملموسة على صعيد المساواة ونبذ التمييز والإجحاف بحقوق الأقلية القومية العربية والوطنية الفلسطينية في مناطق الـ48، من جهة، وإلزام الحكومة بتبني سياسة حكيمة، تطبّق وتحقّق السلام مع بقية مكوّنات الشعب الفلسطيني، في مناطق الـ67 ودول اللجوء والشتات، تماما كما نادى بذلك أيمن عودة، وما ثبت بالدليل القاطع أن الغالبية العظمى للجماهير الفلسطينية العربية في إسرائيل تؤيده بشكل واضح، من خلال مشاركتها الكثيفة وغير المسبوقة في الانتخابات العامة قبل الأخيرة في إسرائيل.
«حكومة الرأسين» الحالية في إسرائيل: حكومة يائير لبيد ونفتالي بينيت نالت الثقة في الكنيست، لكنها حكومة غير مستقرة. هذا الأمر يجعل من «القائمة المشتركة» مرشحاً قوياً للإنتقال من مقاعد «لاعبي الإحتياط» الى لاعبين فعليين عملياً في ملعب السياسة الإسرائيلة، وليس بديلاً عن اعضاء «القائمة الموحدة» بل تعزيزا لاستقرار تلك الحكومة، وبثمن سياسي ممكن ومعقول وقابل للتحقيق؛ وفي «القائمة المشتركة» برئاسة أيمن عودة، كفاءات وطنية عاقلة وحكيمة، قادرة على تحقيق هذا الهدف الوطني الفلسطيني العام.
طبيعي هو أن التقدم على هذا الطريق المثمر، وطنياً، يستدعي كبح جماح بعض قياديين في الحزب الشيوعي، العريق، وفي جريدته «الإتحاد» تناكف أيمن عودة، وتضع العراقيل، (لأسباب أنانية) أمامه، وأمام «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» بل وتستعين بأعضاء في القائمة المشتركة في سبيل ذلك.
قد يعارض البعض هذا التوجّه؛ وقد يعرض هذا البعض أسباباً ودوافع ذات أهمية وطنية بالغة، في سياق تفضيلهم للبقاء في «صحراء السياسة الإسرائيلية» مكتفين بالمعارضة، واقتصار دور أعضاء الكنيست في الأحزاب العربية على إعلان مواقفهم، (وهي صحيحة ومُحِقّة) بعيداً عن الخوض في «أوحال السياسة العنصرية الصهيونية».
على أن ذلك أمر غير حكيم، ويفتقر لشجاعة المواجهة والإشتباك. يذكّرني هذا بما نقله الزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، عن المناضل الفلسطيني الكبير، الراحل هو الآخر، كمال ناصر، (ايام كان النقاش حول مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في مؤتمر دولي للأُمم المتحدة، في جنيف، غداة حرب تشرين أول/اكتوبر 1973) من أنّ «المناضلون الوطنيون الصادقون، قد يضطرون الى المشي في الوحول، لكنهم لا يتدنّسون».
في هذه المرحلة الصعبة والمعقّدة، وحيث يُشكِّل المكوّن الفلسطيني في إسرائيل رأس الحربة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والصراع العربي الصهيوني، يصبح لزاماً على كل مناضل وطني فلسطيني صادق، دعم «رأس الحربة» هذا، بالنصح والتشجيع، ودفعهم لإعادة توحيد صفوفهم، وخوض معاركهم الإنتخابية المقبلة موحّدين، (إذا أمكن ذلك) في أحسن الأحوال، أو الإلتزام بعدم المواجهة والتخوين ومحاولة الإضعاف، في أسوأ الأحوال، وذلك حرصاً على تماسك وتناغم جماهير هذا المكوّن الأساسي من مجموع مكوّنات شعبنا الفلسطيني، على ارض فلسطين وفي دول اللجوء والمنافي، الذين وحّدتهم «هبّة الأقصى والشيخ جراح في القدس» في رمضان الماضي، التي أثمرت تماسكاً فلسطينياً مشرِّفاً وواعداً؛ وأثمرت تضامنا عالمياً شاملاً مع شعبنا وحقوقه المشروعة، وإدانة لإسرائيل وسياساتها العنصرية، ولإستعمارها بالطبع؛ وأثمرت بإعادتها لقضية شعبنا العادلة، الى رأس سلّم الإهتمامات على الصعيد الدولي.