المحكمة العليا الإسرائيلية تقدم لنا هدية

قدمت لنا المحكمة العليا الإسرائيلية، الأسبوع الماضي، هدية ثمينة برفضها إلغاء «قانون القومية» الذي يعتبر أهم القوانين في تاريخ الدولة العبرية وأكثرها عنصرية. رفضت حتى تعديل أي من بنوده، وأحجمت عن القيام بعملية تجميل لوجهه القبيح، وأبقت عليه كما هو. وهكذا حظي قانون القومية بشرعية كاملة من السلطات الثلاث: التشريعية (الكنيست) والتنفيذية (الحكومة) والقضائية (المحكمة العليا) وأصبح قولا وفعلا ورسميا قانون دولة، وليس قانونا يخص اليمين الإسرائيلي، الذي بادر إليه، دون غيره.
وفي الوقت، الذي يتجه فيه العالم نحو التأكيد على مبادئ المساواة وحقوق الإنسان، تنحو إسرائيل إلى تشريع العنصرية والتمييز وخرق حقوق الإنسان، ليس في الممارسة السياسية فحسب، بل في القانون أيضا.
لقد واجهتنا مشكلة كبيرة أمام هذا القانون في الساحة الدولية، حيث رفض الكثيرون اتخاذ موقف علني منه، بانتظار قرار المحكمة العليا الإسرائيلية بشأنه. إذ تحظى هذه المحكمة بمكانة محترمة في الأوساط القانونية الدولية وفي كليات القانون في أهم جامعات العالم. صحيح أن القانون مر في الكنيست يوم 19ـ7ـ 2018، أي قبل حوالي ثلاث سنوات، إلا أن المصادقة القضائية عليه الأسبوع الماضي، تغلق الباب نهائيا على إمكانية إبطاله، ويبدو أنه سيبقى ما دامت إسرائيل دولة صهيونية، فهو التعريف القانوني لجوهر الطابع الصهيوني لإسرائيل، وسيكون من الأسهل تمرير قرار في الكنيست بإنهاء الاحتلال وتفكيك المستوطنات من التخلي عن قانون كهذا، فقد أصبح التخلي عنه في عرف النظام الإسرائيلي تخليا عن الذات.

من فمك أدينك

والآن وقد اتخذ القرار، فإن هناك حاجة ملحة لتجديد الحملة ضد هذا القانون، وهي فرصة لا تفوت لفضح النظام العنصري الكولونيالي الإسرائيلي. فهذا القانون هو أكثر قانون عنصري في العالم، بعد زوال نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا. لأول مرة تضع بين أيدينا إسرائيل وثيقة تدينها وتدين نظامها بهذا الشكل المفضوح، وهي تفعل ذلك لأنها تراهن على ازدواجية المعايير في العالم وعلى حالة العرب الخائبة، وعلى «قلة الحيلة» الفلسطينية. ومع ذلك بيدنا وثيقة اعتقد أن طرحها بالشكل الصحيح أمام العالم، كفيل بتلطيخ سمعة إسرائيل كما تستحق، ويساهم في تصنيفها في خانة أنظمة الأبرتهايد، فهي وإن لم تكن نسخة طبق الأصل عن أبرتهايد جنوب افريقيا، فهي بالتأكيد من العائلة نفسها.
استثمار «قانون القومية» وبقية القوانين العنصرية الإسرائيلية لفضح الصهيونية ونظامها، بحاجة إلى حد أدنى من الإرادة الوطنية والسياسية، ويجب التحرك فورا وعدم الانتظار. وليس المقصود بالتحرك المؤسسات الرسمية فحسب، بل منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والكتاب ولجان التضامن مع الشعب الفلسطيني وغيرها. لقد دأبت إسرائيل على مدى عقود طويلة على التغطية على طابعها العنصري والكولونيالي، ويجد المؤرخون صعوبة في الحصول على وثائق الإدانة. وكان مؤسس الدولة اليهودية، دافيد بن غوريون، شديد الحرص على أن يترك خلفه ما قد يدينه أو قد يدين إسرائيل، لدرجة انه امتنع عن الإجابة المباشرة، حين أتاه من يسأله بشأن طرد أهالي اللد، فأجاب بحركة من يده، من دون أن ينطق بكلمة، حتى لا يسجل التاريخ أنه أمر بالطرد.
أستطيع القول وبناء على النص وعلى تجربة عملية في الساحة الدولية، إن هذا القانون ليس بحاجة إلى شرح طويل، ومعظم من يقرأونه يحددون موقفهم منه بناء على نصه المترجم، من دون حاجة إلى مزيد من الشرح. كل من يريد أن يساهم في فضح النظام الإسرائيلي، وفي حشد التضامن الدولي مع شعب فلسطين في مواجهة نظام الأبرتهايد الإسرائيلي، يستطيع أن يقدم نص قانون القومية، دليلا على ما يقول، في وثيقة قانونية رسمية إسرائيلية، لو كتبناها نحن قبل، لنصف ونعرف بها إسرائيل، لاتهمونا بمعاداة السامية.

ما هو قانون القومية اليهودية؟

أقر الكنيست الإسرائيلي قانون «إسرائيل: الدولة القومية للشعب اليهودي» بأغلبية 62 مقابل 55 عضو كنيست. وهو ينص في بنوده الأولى على المبادئ المؤسسة للكيان السياسي الإسرائيلي، وينطلق من مقولة «أرض إسرائيل (فلسطين التاريخية) هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي» ومن أن «دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وفيها يجسد حقه الطبيعي والثقافي والديني والتاريخي في تقرير المصير». وبعد ذلك يأتي التشديد على أن «ممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل حصرية للشعب اليهودي». ينسف هذا النص القصير حقوق وحتى وجود الشعب الفلسطيني. أل التعريف في كلمة «الوطن» لا تترك مجالا للشك في أن المشرع الإسرائيلي يرى في كل فلسطين التاريخية ملكا للشعب اليهودي، في أرجاء العالم كافة، إضافة إلى ابتداع حق «طبيعي وتاريخي وثقافي وديني» لا علاقة بحق تقرير المصير مع تجاهل مقصود لكلمتي «قانوني وسياسي». كما ينص القانون على أن «القدس الكاملة والموحدة هي عاصمة إسرائيل». وعلى أن «الاستيطان اليهودي هو قيمة قومية» والدولة ملزمة بدعمه وتطويره، إضافة لذلك يحدد القانون الأسس الصهيونية للدولة والمجتمع فالعبرية هي اللغة الرسمية، وكذلك الشعار والعلم والنشيد القومي والعلاقة مع يهود العالم والأعياد وأيام العطلة، تستند إلى نظام الدولة اليهودية.
القانون موجه ضد كل الشعب الفلسطيني أينما تواجد، لكن يخلو القانون من أي ذكر له، ولا حتى لفلسطينيي الداخل الذين هم من الناحية الرسمية مواطنون في الدولة، التي يتحدث عنها القانون. كما لا يوجد في نصه أي تطرق للديمقراطية ولمبدأ المساواة ولحقوق الإنسان. والحقيقة أن هذا القانون يأخذ ما يسميه «حقوق اليهود» والقصد أيضا يهود العالم جميعا، حتى حد الإشباع ولا يبقي للفلسطيني شيئا ولا حتى الفتات. هناك ادعاء أن ليس لهذا القانون قيمة عملية، وأن له طابعا «بيانيا» فقط، وأنه سن ليس للتطبيق بل للتعبير عن موقف عام. هذا الادعاء لا يستوي مع المكانة الخاصة لقوانين الأساس في إسرائيل، وقانون القومية هو قانون أساس.

قانون فوق كل القوانين

قوانين الأساس في إسرائيل لها مكانة دستورية، أي أنها مرجعية كل القوانين، ويحق للمحكمة العليا الإسرائيلية إلغاء أي قانون تراه مناقضا لقانون أساس. وتعود هذه القوانين إلى الخمسينيات، بعد فشل الكنيست في الاتفاق على دستور، وكان المخرج سن سلسلة من قوانين أساس تكون لاحقا جزءاً من الدستور الإسرائيلي. إسرائيل هي دولة بلا دستور. وإذ تحل قوانين الأساس مكانه، فإن قانون القومية هو أهم هذه القوانين، وله مكانة فوق كل القوانين الإسرائيلية، أساسا أو غير أساس، لأنه يعبرن لغة ومضمونا، عن جوهر الدولة وعن نواة عقيدتها ومبدئها الناظم. قانون القومية ليس تصويرا للوضع القائم فحسب، بل يمنح ما هو قائم أساسا قانونيا ويفتح الباب واسعا لمرحلة أكثر عنصرية، تكون فيها إسرائيل يهودية أكثر وديمقراطية أقل، في المظهر وفي الجوهر.

الالتماس ورفض الالتماس

قدم الالتماس لإلغاء قانون القومية من قبل القائمة المشتركة، ولجنة المتابعة العليا لفلسطينيي الداخل واللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، بواسطة «عدالة» – المركز القانوني لحماية حقوق الأقلية العربية في إسرائيل. وجاء في الالتماس أن «قانون القومية هو قانون عنصري كولونيالي له خصائص أبرتهايد واضحة.» ويتناقض والمبادئ الديمقراطية الأساسية، ويخرق بشكل خطير «نواة حقوق الإنسان» التي لها مكانة فوق دستورية.
ويتناقض أيضا مع القوانين والمواثيق والقرارات الدولية، التي تحرم العنصرية والتمييز والفصل العنصري، كما أنه مخالف لقرارات الشرعية الدولية بشأن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وعدم جواز ضم القدس وعدم شرعية الاستيطان. كما جرت الإشارة في الالتماس إلى أن القانون لا يذكر لا الديمقراطية ولا المساواة، ويتجاهل في نصه حقوق الإنسان. رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية الأسبوع الماضي هذا الالتماس (بأغلبية 10 ضد قاض واحد عربي هو العضو الوحيد في هذه المحكمة) بادعاء أن قانون القومية سيكون جزءا من دستور إسرائيل المستقبلي، وفي هذا الدستور المستقبلي ستكون بنود تنص على المساواة، أو يمكن تفسيرها بأنها تضمن المساواة. وعلى الرغم من أن كتاب القوانين الإسرائيلية برمته لا يتطرق إلى المساواة، وليس فيه أي ضمانة للمساواة، إلا أن المحكمة الإسرائيلية ادعت بأن لها تفسيرا خاصا للقوانين، وعلى أساس هذا التفسير ادعت أن قانون القومية لا ينقض مبدأ المساواة، كما ادعت المحكمة أن ليس فيه خرق للقانون الدولي، من دون أن تقدم الدلائل المقنعة بهذا الشأن.