يعمل على تدمير الديمقراطية عبر التحكم بالانتخابات وقمع الناخبين
باتريك كوبيرن مراسل الشؤون الدولية @IndyWorld
سلطت قمة “مجموعة السبع” [التي استضافتها بريطانيا أخيراً] الضوء على عدد من التحديات التي تواجه العالم، غير أنها لم تتعرض إلى التهديد الأشد خطورة من كل ما عداه، المتمثّل في تحول الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، حركة فاشية.
وتذكيراً، لقد دارت مناقشات كثيرة أثناء وجود الرئيس دونالد ترمب في البيت الأبيض حول إمكانية توصيفه كفاشي بالمعنى الكامل للكلمة، وليس فقط لتوجيه إهانة سياسية له. والواقع أن رئاسته حملت عدداً من العلامات الفارقة المميزة لنظام ديكتاتوري فاشي، بل كادت معالمه تكتمل لولا أن ترمب لم يستطع إعادة انتخاب نفسه تلقائياً، أو بالأحرى إعادة تعيين نفسه عملياً، على عادة الزعماء الفاشيين دائماً.
في المقابل، قد لا يضطر ترمب وأمثاله من القادة في المستقبل إلى خوض الانتخابات الفعلية التي تعتبر بمثابة العقبة الديمقراطية أمامهم. ولم يمض زمن طويل بعد على إرساء الجمهوريين اللبنة الأخيرة، في وقت سابق من هذا العام، في بناء حزبهم الجديد على شاكلة الحركات الفاشية التي انتشرت في أوروبا في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته.
وارتكز ذلك النهج على استراتيجيتين أساسيتين. وعلى الرغم من أنهما لم تغيبا كليّاً عن الحزب الجمهوري في الماضي، إلا أنهما لم تتمتعا من قبل بالأهمية ذاتها التي باتت من نصيبهما منذ أخذتا تلعبان دوراً رئيساً في تحوّله حركة فاشية. وتتمثل الأولى في الاستعداد المتزايد لاستعمال العنف، أو تقبّل استعماله، ضد الخصوم. وقد اشتُهِر ذلك التوجّه على نطاق واسع خلال غزو مبنى الكابيتول في 6 يناير (كانون الثاني).
في المقابل، نادراً ما يأتي ذكر الاستراتيجية الثانية التي عمد الجمهوريون إلى اتباعها من جديد. لكنها مع ذلك أكثر إيذاء وأهمية من سابقتها. وتتجلى [الاستراتيجية الثانية] في وضع الجمهوريين يدهم تدريجاً على الماكينة الانتخابية التي تشرف على عمليات الاقتراع وضمان نزاهتها. ولذا، بدا من اللافت أن المسؤولين الصغار عن الانتخابات اكتسبوا بصورة مفاجئة أهمية بالغة بالنسبة لمستقبل الديمقراطية الأميركية. يجدر بنا هنا أن نتذكر أن رفض هؤلاء الموظفين الثانويين الانصياع لتهديدات ترمب ونفاقه، هو في الواقع ما منعه من سرقة الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
في المقابل، لن يستطيع عديد من هؤلاء الموظفين أن يؤدوا ذلك الدور نفسه في أي انتخابات مستقبلية. إذ قد يحلّ الحزب الجمهوري آخرين محلهم، أو يسعى إلى ترهيبهم إلى درجة يقررون معها التنحي من تلقاء أنفسهم أو يُجبرون على اتخاذ ذلك القرار [التنحي]. ففي بنسلفانيا، وهي ولاية لعبت دوراً حاسماً في هزيمة ترمب، جرى تغيير الموظفين المشرفين على الماكينة الانتخابية. واتُخذت الإجراءات نفسها في عدد من الولايات التي تتأرجح فيها النتائج بشكل يجعل التكهن بالحزب الذي يمكن أن يفوز بها صعباً، على غرار ولايتي ميشيغان وويسكنسن. والأدهى أن من يحلون محل الموظفين النزيهين يكونون غالباً من الأشخاص الذين يبدون حماسة لنظريات المؤامرة، ممن سيتمتعون بصلاحيات إبطال نتائج أي انتخابات لا توأتيهم. إذ خلُص استقصاء أجراه “مركز برينان للعدالة” إلى أن واحداً من كل ثلاثة مسؤولين محليين عن الانتخابات يفيد بأنه يتعرض لمضايقات وضغوط أخرى.
وفي ذلك الصدد، تعمل الهيئات التشريعية الجمهورية على تسريع عملية النزوح الجماعي لأولئك الموظفين المعنيين، من خلال إجراءات في مقدمها سنّ قوانين تفرض غرامات باهظة على الموظفين المكلفين الإشراف على الانتخابات في حال ارتكابهم أخطاء بسيطة. وفي مثل معبّر، تصل هذه الغرامات إلى 10000 دولار (7179 جنيه استرليني) في ولاية أيوا، و 25000 دولار (17947 جنيه استرليني) في ولاية فلوريدا. وعلاوة على ذلك، قرر الحزب الجمهوري إنهاء خدمات المسؤولين الذين رفضوا القول إن ترمب قد ربح الانتخابات. هكذا يبدو أن الجمهوريين يجب أن ينجحوا في 2022 و 2024 بتحقيق الهدف الذي عجزوا عن تحقيقه في 2020، وهو إبطال نتائج الانتخابات وفق ما قد يطيب لهم، فيصبح من الممكن تجاهل الحصيلة النهائية الحقيقية للانتخابات. وهذا يعني بطبيعة الحال أن الزعيم هو من يقرر لأنه يعرف كيف وماذا يقرر بالنيابة عن الجميع، أما رغبة الشعب فلن يكون لها أي قيمة على الإطلاق.
لقد وجدت الأنظمة الاستبدادية حول العالم أن السبيل الأسهل والأكثر ضمانة لتحقيق مآربها يتمثّل في أن تعلن عن النتائج الانتخابية التي تريدها، بدلاً من تكبد مشاق الذهاب إلى الناخبين جميعاً لقمعهم وتدبير عمليات الاحتيال والغش في الدوائر الانتخابية. وحالما باتت الماكينة الانتخابية تحت سيطرتها، ستستطيع أن تأمن تماماً جانب الديمقراطية التي لن يكون بوسعها أن تشكل أي تهديد بالنسبة لأصحاب السلطة. ولذلك قد يستغل القادة الفاشيون العمليات الديمقراطية كي يحصلوا على المناصب. في المقابل، فبمجرد أن يتبوؤوا منصباً رفيعاً، فإنهم يعمدون إلى إغلاق الباب نهائياً في وجه أي راغب أو مرشح مؤهل كي يدخل منه ويحاول انتزاع المنصب من قبضتهم في المستقبل.
في هذا السياق، يعتبر إلغاء نتائج الانتخابات بمثابة الخطوة الأخيرة في رحلة الحزب الجمهوري الغريبة على طريق التحوّل حزباً فاشياً. لكن هناك خطوات أخرى تسبقها وتمهد لها. وتملك تلك الخطوات تاريخاً طويلاً، وقد جُربت من قبل في مناسبات منها تلك التي وضع فيها الرئيس ريتشارد نيكسون “الاستراتيجية الجنوبية” التي ساعدت الجمهوريين على استغلال قوانين الحقوق المدنية، لحظر التمييز على أساس العرق واللون والجنس والجنسية (1964) والتمييز في المسكن (1968)، من أجل الاستيلاء سياسياً على الجنوب الأميركي. وفي المحصلة أصبحت ولايات العبيد القديمة معاقل للحزب الجمهوري الذي حرر العبيد ذات يوم وهزم الكونفيدرالية.
من المفيد إيراد الصفات الرئيسة للحركات الفاشية حتى يصبح بالإمكان البحث عنها في سياسات الجمهوريين وممارساتهم والحكم على مدى انتشارها في أوساطهم. يأتي على رأس القائمة استغلال أنواع الكراهية العرقية والدينية والثقافية بهدف تحقيق غايات سياسية، إذ يشكّل ذلك على الارجح أبرز صفات النظام الفاشي على صعيد عالمي. وتشمل المواصفات الأخرى وجود زعيم ديماغوجي يشجع عبادة الفرد ويتباهى بها ويطلق وعوداً غامضة مثالية لها طابع تبشيري ديني بشأن المستقبل الزاهر الذي سيحققه. ويضاف إلى ذلك الإعراب عن التزام القانون والنظام في الوقت الذي يحتقر فيه النظام عملياً الشرعية، وكذلك استغلال الإجراءات الديموقراطية والتلاعب بها وتهميشها في نهاية المطاف. ويبرز في السياق نفسه، الاستعداد لاستعمال القوة البدنية، وشيطنة النخبة المتعلمة، والإعلام على وجه الخصوص، إضافة إلى عقد علاقة مشبوهة مع الأثرياء الذين يسعون إلى جني الأرباح، من تغيير النظام.
وتتوافر تلك العلامات الفارقة كلها في الحزب الجمهوري الذي تمكن من اكتساب كل أوراق الاعتماد التي تسمح له بالانتماء عن جدارة إلى الفاشية. إذ شكّلت حركة “حزب الشاي” التي انطلقت في 2009 نقطة انطلاق مهمة على الطريق إلى “الترمبية” (نسبة إلى ترمب). ويتحلى ترمب نفسه بكل مواصفات الزعيم الفاشي التقليدية، على الرغم من أنه لم يكن حراً تماماً وفق رغبته، ذلك أن الاعتبارات السياسية والمؤسساتية للحكم قيدت يديه قليلاً. مع ذلك، ستكون تلك العقبات التي منعت ترمب من ممارسة فاشيته من دون حسيب أو رقيب، أقل عدداً وتأثيراً في المستقبل، لا سيما أن الجمهوريين الترمبيين آخذين ببسط سيطرتهم على الهيئات التشريعية المحلية والمحاكم والماكينة الانتخابية والكونغرس نفسه. ثمة سابقة لتآكل الديمقراطية على هذا النحو، على اعتبار أن آل غور في عام 2000 وهيلاري كلينتون في 2016 قد مُنِعا من الوصول إلى الرئاسة مع أنهما فازا بغالبية الأصوات الشعبية. لكن لم يعد استهداف الديمقراطية حصراً على حالات استثنائية، بل بات يشكّل ما يشبه القاعدة.
تروج نظريات المؤامرة على غرار “كيو آنون” في أوساط الشعبوية المؤيدة لترمب (رويترز)
وهكذا تواصل الفاشية الأميركية صعودها. وتتميز بخصائص معينة تجعلها مختلفة عن تلك النسخ المعروفة في أوروبا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، خصوصاً أن للفاشية الأميركية إرثها من العبودية والحرب الأهلية اللتين لا تزالان تشكلان معاً أداة في صنع الشرخ الكبير داخل البلاد. وإذ أُلغِيَتْ العبودية، فإن الكونفيدرالية، أو الولايات الجنوبية المعادية التي عارضت ذلك، قد خسرت الحرب. وفي الحقيقة، لم تصبح الحرب الأهلية بعد شيئاً من الماضي، بل تتواصل على مستويات عدة.
وتذكيراً، لقد أثارت تشريعات الحقوق المدنية في ستينيات القرن الماضي ردود فعل من جانب البيض لا تزال عملياً مستمرة حتى الآن. لم تنته المعارضة للمساواة العرقية على الإطلاق. وفي 2013، أُبْطِلَ البند الأساسي لحقوق التصويت الصادرة عام 1965، من قبل قضاة في المحكمة العليا عُيِّنوا مِن قِبَلْ الجمهوريين، علماً أن ذلك البند نصّ على أن التغييرات التي تُجرى على قوانين الانتخابات على مستوى الولايات يجب أن تحظى بموافقة فيدرالية. واتصالاً بذلك، أشار جون جي روبرتس كبير قضاة المحكمة العليا، إلى أن “بلادنا قد تغيرت”. واعتبر عند إلغاء تلك المادة بموجب قرار اتخذته المحكمة بالغالبية، أن الأقليات العرقية لم تعد تواجه عوائق تمنعها من التصويت في الولايات التي لها تاريخ في التمييز بين المواطنين. لكن سرعان ما أثبتت ولاية تكساس سخافة هذا التبرير عبر تطبيقها قانون هوية الناخب رُفض في أوقات سابقة.
صحيح أن عمليات قمع الناخبين تزايدت منذ ذلك الوقت، لكنها لم تتفشَ من قبل بالطريقة التي حصلت هذه السنة. فقد سنّت 14 ولاية يسيطر عليها الجمهوريون 24 قانوناً بشأن تجريم وتسييس ممارسات معينة والتدخل في الانتخابات، بغرض تحقيق مصالح الجمهوريين.
في ملمح بارز، ربما يكمن السبب الذي يفسر هبوط الحزب الجمهوري إلى درك الفاشية، في الانقسام العرقي. ويعزّز ذلك الرأي، انقسام الثقافة الأميركية وفق الخطوط الجغرافية نفسها التي تأججت الحرب الأهلية على جانبيها. أضف إلى هذا كله، بروز ذلك التفكك المخيف الذي فرضته العولمة والتطورات التكنولوجية على الأميركيين البيض من أبناء الطبقة العاملة والمتوسطة. لقد أُطلق عنان قوى جبارة شبيهة بتلك التي دفعت يوماً الفاشية الأوروبية إلى تسلق سلم السلطة إلى القمة. والآن، تعمل تلك القوى على تحقيق الشيء نفسه في أميركا.
© The Independent