حرب محتملة مع الصين وخفض تدريب العراقيين والسوريين وتقليص مكافحة “داعش”
طارق الشامي صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية
تكشف الميزانية الأولى التي قدمتها إدارة الرئيس جو بايدن إلى الكونغرس الأميركي عن تغيرات جوهرية مقارنة بالميزانيات السابقة للرئيس دونالد ترمب، وخاصة في مجال السياسة الخارجية والدفاعية، فقد بدا أن البنتاغون يركز على حرب محتملة مع الصين عبر الاستعداد إلى معارك تحسمها نظم تسليح متطورة لمواكبة القفزة التكنولوجية للجيش الصيني، بينما يتحول بعيداً عن قتال الجماعات المتطرفة في الشرق الأوسط مثل تنظيم “داعش”، مع خفض تكاليف حروبه في أفغانستان والعراق وسوريا، في وقت تشير فيه الزيادة في ميزانية الخارجية الأميركية بمقدار 10 في المئة إلى عزم بايدن على استعادة دور أميركا القيادي في العالم عبر زيادة المساعدات الإنسانية الخارجية وتعزيز الشراكة مع الحلفاء.
خفض تدريب العراقيين والسوريين
وبعد نحو 20 عاماً من تمويل عملياتها القتالية في الشرق الأوسط، تقترح وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، تقليص تكاليف الحروب والعمليات العسكرية في العراق وسوريا وأفغانستان ودول أخرى على الرغم من زيادة طفيفة في الميزانية الدفاعية البالغة 715 مليار دولار لعام 2022.
وعلى الرغم من التصعيد الأخير في الشرق الأوسط وإرسال البنتاغون حاملة الطائرات “رونالد ريغان” ومجموعتها الضاربة من اليابان إلى الخليج لتغطية انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، يأمل بايدن التخلص مما يسمى حساب العمليات الطارئة الخارجية الذي دفع تكاليف الحروب الأميركية في كل من العراق وأفغانستان، وذلك عبر تقليص الإنفاق بنسبة 40 في المئة من خلال خفض تمويل عمليات التدريب الأميركي للعراقيين والسوريين، وكذلك خفض تمويل القوات الأميركية التي تحارب تنظيم “داعش” في المنطقة، فضلاً عن اقتطاع إدارة بايدن 800 مليون دولار أخرى من التمويل كانت مخصصة لمواجهة روسيا في أوروبا.
مواجهة الصين
بالنسبة لإدارة بايدن، تحتاج وزارة الدفاع الأميركية إلى البدء في الابتعاد عن أنظمة الأسلحة القديمة والمنصات المعرضة للخطر لمواكبة قفزة الجيش الصيني إلى الأمام في التكنولوجيا العسكرية، ولهذا تدعو الميزانية الجديدة لعام 2022 إلى تقليص المشتريات من الطائرات المقاتلة والدبابات والسفن التقليدية في مقابل مزيد من الإنفاق على تطوير السفن ذاتية القيادة والتحديث الشامل للصواريخ الفرط صوتية وللترسانة النووية الأميركية.
وتضع القوات البحرية الأميركية رهاناتها على الحاجة إلى صواريخ جديدة مضادة للسفن، ومنح سلاح مشاة البحرية القدرة على شن هجمات ضد سفن حربية معادية بعيدة من منصات إطلاق على الأرض، وبدلاً من استكمال تشييد مزيد من السفن الحربية وفقاً للنهج الذي اتبعته إدارة ترمب ليصل العدد إلى 355 سفينة، فإن التمويل الجديد لا يسمح سوى ببناء ثماني سفن جديدة في عام 2022 سيؤدي إلى زيادة متواضعة في إجمالي السفن إلى 296 سفينة، مع وقف تشغيل عدد من أقدم سفن القتال الساحلية التي ابتليت بمشاكل ميكانيكية.
تفضيل المستقبل
ومن الملاحظ أن أسلحة القوات البرية والبحرية والجوية كلها ستركز على الاستثمار في الصواريخ الفرط صوتية، وهي صواريخ ذات رؤوس حربية تقليدية متفجرة يمكنها الطيران بأضعاف سرعة الصوت وتضرب أهدافاً في نطاقات لم يكن من الممكن الوصول إليها سابقاً إلا بصواريخ “كروز” أو الصواريخ الباليستية النووية، وعلاوة على ذلك، سيسمح انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى في أغسطس (آب) 2019، بمواصلة تطوير صواريخ قادرة على تجاوز المدى الذي كانت تحظره تلك الاتفاقية في السابق.
وحسب تصريحات وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أمام أعضاء الكونغرس، يوم الخميس الماضي، 27 مايو (أيار)، فإن الميزانية سترصد أكبر إنفاق من نوعه على الأبحاث والتطوير الذي يقوم به البنتاغون لتطوير التقنيات العسكرية، وهو ما يتناقض بشكل ملحوظ عن ميزانية الرئيس السابق دونالد ترمب، التي دعت إلى زيادة عدد السفن الحربية الأميركية إلى 355 سفينة وخفضت الإنفاق على البحث والتطوير على المدى البعيد، ما يعني أن الإدارة الحالية تفضل الاستثمار في المستقبل عن الحاضر.
خلافات متوقعة
لكن إعطاء الأولوية للمستقبل على الحاضر ليس من المرجح أن يحظى بشعبية حتى بين أقران بايدن الديمقراطيين في الكونغرس، الذين يأملون في عودة إنفاق مخصصات البنتاغون المالية إلى القواعد وأحواض بناء السفن ومشاريع التصنيع داخل دوائرهم الانتخابية، ذلك أن بايدن يطلب في الميزانية 21 مليار دولار فقط لبناء سفن جديدة هذا العام، وهو انخفاض كبير عن خطط ترمب الذي طلب 27 مليار دولار لبناء 82 سفينة جديدة بحلول عام 2026، الأمر الذي من المرجح أن يثير خلافات في الكونغرس من أجل زيادة هذه الميزانية.
وقد تنشب معارك خلافية أخرى داخل الكونغرس بسبب طلب البنتاغون خفض عدد الطائرات المقاتلة التي يشتريها العام المقبل من طراز “أف 35” إلى 85 طائرة، ووقف تشغيل أربع سفن قتال ساحلية وعدد من سفن خفر السواحل بهدف الحفاظ على عدد جنود الجيش ثابتاً من دون خفض.
اعتراض الجمهوريين
ومن غير المحتمل أن تحصل الميزانية على دعم سريع من الجمهوريين في الكونغرس أيضاً، إذ عبر عدد من قادتهم في لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، عن إحباطهم تجاه الميزانية الدفاعية لأن هذا الانفاق سيترك الولايات المتحدة أقل استعداداً لمواجهة الصين.
فمن وجهة نظر السيناتور الجمهوري جيم إينهوف، لا توفر الميزانية الزيادة التي تحتاج إليها الولايات المتحدة لمواجهة التهديدات التي يشكلها الخصوم مثل الصين، كما حذر الأدميرال فيل ديفيدسون القائد السابق للقوات البحرية في المحيطين الهندي والهادي، في شهادة له أمام الكونغرس قبل شهرين من أن الصين قد تتحرك لغزو تايوان في غضون السنوات الست المقبلة.
لكن المشرعين في الكونغرس الذين كانوا يضغطون منذ إدارة ترمب من أجل تكثيف الإنفاق العسكري في المحيطين الهندي والهادي، سيجدون ما يحظى برضاهم في قائمة مطالبات بايدن.
وعلى سبيل المثال، يطلب البنتاغون نحو 5.1 مليار دولار لما يسمى مبادرة الردع في المحيط الهادي، وهي صندوق أنشأه الكونغرس خلال الميزانية الأخيرة لدعم القدرات الأميركية في آسيا عبر مزيد من الإنفاق الدفاعي، وهذا يزيد 400 مليون دولار عما طلبه ديفيدسون في الأصل ويتضمن إنفاق نحو 120 مليون دولار لتقييم عدد من الدفاعات الصاروخية الجديدة والبدء في شراء رادارات ومواد أخرى لتعزيز عمل بطاريات دفاع صاروخية متطورة، ما سيوفر غطاء للقوات الأميركية المتمركزة في جزيرة غوام في المحيط الهادي.
وعلى الرغم من أن الميزانية تتضمن 500 مليون دولار لمحاربة وباء كوفيد-19، بالإضافة إلى 617 مليون دولار لجعل القواعد وأنظمة الأسلحة الأميركية أكثر كفاءة في استخدام الطاقة، لا يزال التقدميون يرفضون الميزانية الضخمة لعمليات البنتاغون، والتي يأملون في تقليصها وإعطاء الأولوية لتمويل مشاريع محلية، ومن المرجح أن يثير تخصيص مبلغ 2.6 مليار دولار لتجديد الصواريخ الباليستية الأميركية العابرة للقارات، والذي يعادل ضعف إنفاق العام الماضي، دهشة المتشككين ودعاة الحد من التسلح في التجمع الديمقراطي.
استعادة القيادة الأميركية
وفي مقابل الزيادة المحدودة في ميزانية البنتاغون، بدت ميزانية الرئيس لعام المقبل مختلفة تماماً لوزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، إذ زادت 6.3 مليار دولار بنسبة 10 في المئة لتصل إلى 58.5 مليار دولار بهدف المساعدة في استعادة القيادة الأميركية من خلال العمل مع الحلفاء والشركاء للتصدي للتهديدات المشتركة مثل وباء كورونا والخصوم الآخرين مثل الصين وروسيا.
ومع إعطاء الأولوية لخطر كورونا، خصصت إدارة بايدن مليار دولار من المساعدات الخارجية لمكافحة انتشار الوباء وتعزيز برامج الأمن الصحي العالمية وزيادة البحوث لاكتشاف ووقف تفشي الفيروس في المستقبل.
الدبلوماسية والديمقراطية واللاجئون
وفضلاً عن الأموال المخصصة لمزيد من الإنفاق على النشاط الدبلوماسي، ستتزايد أموال البرامج التي تدعم اللاجئين وضحايا الصراع، إذ تطلب الميزانية 10 مليارات دولار من المساعدات الإنسانية للأشخاص المستضعفين في الخارج، وستقدم 861 مليون دولار كمساعدة لدول أميركا الوسطى للمساعدة في معالجة الأسباب الجذرية للهجرة من تلك البلدان إلى الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.
وطلبت إدارة بايدن زيادة برامج الميزانية الخاصة بتغير المناخ في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية إلى أكثر من 600 مليون دولار، لتوسيع نطاق برامج الوكالة وانتشارها الجغرافي بشكل كبير لمكافحة تغير المناخ، من خلال الاستثمارات في التكيف، والطاقة المتجددة.
وأعادت إدارة بايدن تنشيط الديمقراطية وحقوق الإنسان على أجندتها عبر ميزانية قدرها 2.8 مليار دولار لمعالجة التراجع الديمقراطي في العالم، وتوسيع برامج مكافحة الفساد وتوسيع الدعم لوسائل الإعلام المستقلة وجماعات حقوق الإنسان وسيادة القانون، وتوسيع الاستقلالية والرقابة مع زيادة التعاون مع الشركاء متعددي الأطراف.