بوتين يؤكد تمسك بلاده بشبه الجزيرة وأنه لم يفعل سوى الاستجابة لرغبات مواطنيها
سامي عمارة كاتب وصحافي
قد يبدو غريباً أن تعود المواقع الإلكترونية العالمية إلى الاهتمام بفيلم وثائقي أنتج وبث محلياً وعالمياً بعد نحو ست سنوات، لتفرض عليه قيودها، التي سرعان ما ساهمت في الترويج له ورفع نسبة مشاهدته التي تجوزت عشرات الملايين داخل روسيا وخارجها.
هذا الفيلم هو “القرم… الطريق إلى الوطن”، الذي أنتجته القناة الأولى للتلفزيون الروسي للمرة الأولى في 15 مارس (آذار) 2015، في الذكرى الأولى لإعلان “انضمام شبه جزيرة القرم” إلى روسيا بعد سنوات طويلة بلغت نحو ستين عاماً تحت التبعية الإدارية لأوكرانيا. وما إن أعلنت إدارة موقع “يوتيوب” عن قيودها على مشاهدة الفيلم الذي وصفته بأنه “غير مقبول” و”مهين لقسم من الجمهور”، حتى انتفضت الأوساط الإعلامية في روسيا لتشجب هذه القيود.
وقال أندريه كوندراشوف، الذي تولى إعداد وتقديم كثير من فقرات الفيلم ومشاهده ويشغل منصب المعلق السياسي للقناة الأولى إن الفيلم “يحظى باهتمام تلامذة المدارس وطلاب الجامعات”.
وكانت هيئة “روس كوم نادزور” (الرقابة الروسية)، قد انضمت إلى الأوساط الإعلامية الروسية التي تطالب برفع القيود المطروحة على الفيلم الوثائقي الروسي، بوصفها “إجراءات تبدو بمثابة الرقابة ضد وسائل الإعلام الروسية والقيود المفروضة على حق الروس في البحث بحرية عن المعلومة”.
رواية بوتين
وكان الفيلم الوثائقي الروسي “القرم… الطريق إلى الوطن”، الذي كانوا ينوون ترجمته إلى 36 لغة من لغات العالم، قد أثار في حينه كثيراً من الاهتمام والصخب بما تضمنه من معلومات وتصريحات عن تاريخ تبعية القرم ومجريات العملية التي كشف الرئيس فلاديمير بوتين عن كثير من جوانبها، وأسفرت في نهاية المطاف عن “ضم” القرم وسط دهشة الأوساط السياسية والاجتماعية في أوكرانيا والعالم. وقد أعربت، ولا تزال، عن احتجاجها على محاولات استعادة تاريخ تبعية القرم منذ سنوات الإمبراطورية الروسية، ومنذ تحقيق كاتيرينا الثانية انتصاراتها في حربها ضد قوات الإمبراطورية العثمانية في سبعينيات القرن الثامن عشر، والتي آلت القرم بموجبها إلى روسيا.
واستمدت عملية “ضم بوتين للقرم”، على حد تعبير الساسة الأوكرانيين ومن يدعم مواقفهم في الغرب، بدايتها من الأحداث الداخلية في أوكرانيا وما ارتبط بها من “انقلاب” على الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، والتراجع عن اتفاقه في 21 فبراير (شباط) 2014 تحت رعاية وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبولندا. وكان يانوكوفيتش قد قرر مغادرة العاصمة كييف إلى مدينة خاركوف للمشاركة في إحدى الفعاليات السياسية، على غير نصيحة الرئيس الروسي بوتين الذي كشف له في مكالمته الهاتفية مع رئيس أوكرانيا عن أنه يستحسن ألا يغادر العاصمة في مثل تلك الظروف. وعلى الرغم من عدم استماع يانوكوفيتش إلى نصيحة بوتين، فقد عاد ليستنجد به لحمايته من مطاردة لاغتياله. ومن هنا، بدأ بوتين حديثه الذي استهل به كوندراشوف المعلق التلفزيوني مشاهد فيلمه الوثائقي الذي تبلغ مدته نحو ساعتين ونصف الساعة.
وقال بوتين إنه لم يكن يستهدف ما قام به من خطوات ضم شبه جزيرة القرم، لكنه أضاف أنه فاتح من كانوا معه خلال متابعته الأحداث في أوكرانيا والقرم: “إننا قد نكون مضطرين إلى إعادة القرم إلى روسيا”.
محاولات “الناتو” والولايات المتحدة
وفي حين عرض الفيلم كثيراً من مشاهد المواجهة المسلحة بين القوات الحكومية والمعارضة التي انضمت إليها الفصائل القومية، اعتباراً من 18 فبراير حتى تاريخ توقيع اتفاق 21 فبراير حول التهدئة وتنظيم الانتخابات الرئاسية المبكرة في خريف 2014، عاد كوندراشوف إلى حواره مع بوتين الذي كشف فيه عن أن تحركات قواته اتسمت “بقدر كافٍ من الشدة”.
أما في ما تعلق بالعملية العسكرية التي أسفرت عن فرض السيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم، فقد استعان الجانب الروسي فيها بما كان لموسكو من قوات وهيمنة عسكرية في المنطقة تستند إلى وحدات قواتها المسلحة وأسطولها البحري في سيفاستوبول بموجب اتفاقية استئجار هذا الميناء التي كانت روسيا نجحت في عام 2010 في تمديد فترتها حتى عام 2042، وأقرها البرلمان الأوكراني على الرغم من احتجاجات القوميين وما صاحب ذلك من خلافات بلغت حد الاشتباك بالأيدي بين أعضاء مجلس الرادا الأوكراني.
وقد حرص مؤلف الفيلم على إبراز محاولات “الناتو” والولايات المتحدة الأميركية التي كانت تستهدف استباق السيطرة الروسية العسكرية على شبه الجزيرة، ومنها ما تعلق بمحاولة المدمرة الأميركية “دونالد كوك” الاقتراب من شواطئ شبه الجزيرة. ونقل كوندراشوف عن الأدميرال ألكسندر فيتكو، قائد الأسطول الروسي في البحر الأسود، ما قاله عن أن “شبه الجزيرة وجدت نفسها في مرمى نيران صواريخ كروز التي كانت تتسلح بها المدمرة الأميركية، ما اضطر الروسي إلى تفعيل منظومات صواريخ باستيون بما أطلقته من بعض نيرانها في اتجاه المدمرة الأميركية، التي سرعان ما ولّت الأدبار”، حسب قوله. وقد سارعت وزارة الدفاع الأميركية إلى إعلان أنها لا تعرف عن ذلك الحادث شيئاً. وكان الرئيس بوتين، ورداً على سؤال كوندراشوف عن احتمال استخدام روسيا أسلحتها النووية، قد أعلن صراحة “أجل… كانت روسيا على استعداد لرفع درجة استعداد قواتها النووية في حال تدخل طرف ثالث في هذه العملية”.
التحدي والاستجابة
وقد بدا الرئيس بوتين في ذلك الحديث أكثر صراحة من ذي قبل، في تحديده ما كان أضمره في شأن القرم خشية وقوعها في شباك “الناتو”، ومن منظور رغبة شعبية في استعادة القرم التي كان الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف قد حول تبعيتها الإدارية إلى أوكرانيا في عام 1954، في وقت يواصل فيه جهوده من أجل تصفية تبعات التفريط في حقوق روسيا ومواجهة تحديات الحاضر، سعياً وراء مستقبل قال إن بلاده تستحق أفضله.
وفي “مؤتمر الأمن الأوروبي”، في ميونيخ في فبراير 2007، أعلن بوتين رفضه عالم القطب الواحد وعدم جواز استمرار زحف الناتو شرقاً.
وأكد الرئيس الروسي أنه لم يفعل سوى الاستجابة لرغبات أبناء القرم التي كشفت عنها نتائج الاستفتاء الشعبي. وبهذا الصدد نعيد إلى الأذهان أن مواطني القرم كانوا قد أعربوا عن رغبتهم في بقاء الاتحاد السوفياتي دولة اتحادية، في مارس 1991، ورفضوا الموافقة على انفصال أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي التي أكدتها غالبية الشعب الأوكراني بنسبة تزيد على 95 في المئة، وانفصلت بموجبه في العام نفسه “بما يتفق مع الشرعية في إطار القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
رأي آخر
لكن هناك رأياً آخر أعربت عنه القيادة الأوكرانية الحالية التي “تعتبر القرم جزءاً من أراضيها يخضع لاحتلال مؤقت”، في الوقت الذي تعرب فيه بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عن آراء مماثلة تقول إن روسيا “ضمت” شبه جزيرة القرم من غير طريق الشرعية”.
ونقلت المصادر عن الجهاز الصحافي للرئاسة الأوكرانية ما قالته عن اتصال هاتفي أجراه الرئيس فلاديمير زيلينسكي مع يانس ستولتنبرغ، تناول دعوته إلى المشاركة في احتفالات أوكرانيا في الذكرى الثلاثين لاستقلالها وفي قمة منصة القرم في 23 أغسطس (آب) من هذا العام، إلى جانب “دعمه توسيع نطاق أنشطة الناتو في منطقة البحر الأسود”، مؤكداً اهتمام بلاده بزيادة وجود قوات الدول أعضاء الحلف في البحر الأسود. وكشفت المصادر عن أن ستولتنبرغ أكد أن “الناتو سيبذل جهوده لزيادة وجوده في البحر الأسود، وأن ذلك قد بدأ بالفعل”. وإذ أشار الأمين العام لحلف الناتو في تصريحاته خلال مؤتمره الصحافي في كييف إلى أن “الناتو” يعتبر أن هذه المنطقة تتميز بالأهمية الاستراتيجية، وقال إن “الناتو يعزز حضوره في البحر الأسود، فخلال الأسابيع الثلاثة الماضية فقط كانت ثلاث سفن للقوات البحرية الأميركية في مياه البحر الأسود. وجرت هناك مناورات مشتركة مع القوات البحرية الأوكرانية”.
وكان زيلينسكي قد وصف فقدان أوكرانيا شبه جزيرة القرم بأنه “خطأ فادح يحتاج إلى تصحيح”. ونقلت وكالة أنباء “نوفوستي” عن زيلينسكي تصريحاته التي كشف فيها عما سيتم اتخاذه من إجراءات لتصحيح ذلك الوضع، مشيراً إلى أن القمة الدولية حول “عودة السيطرة على شبه جزيرة القرم”، والمسماة بـ”منصة القرم”، التي دعت كييف إلى عقدها في أغسطس المقبل، ستصبح “منبراً يوحد الشركاء الدوليين لدعم وحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها”. وتحول زيلينسكي إلى اللعب على أوتار مشاعر مواطنيه بتصريحات على غرار أن “القرم هي قلب أوكرانيا”، وأن غزو روسيا لها “يمزق القلب”، وأنه لا أحد في أوكرانيا يمكن أن ينسى من فعل ذلك”، مؤكداً ضرورة استعادة القرم. وفي الأثناء، انضم وزير خارجيته دميتري كوليبا إلى هذه التصريحات ليدعمها بتهديدات تقول بـ”تحويل موضوع القرم إلى ما هو أشبه بجهنم بالنسبة إلى روسيا”، إلى جانب فرض كثير من العقوبات على الشركات والمؤسسات الروسية بما فيها التي ساهمت في بناء “جسر القرم” الذي يربط روسيا بشبه جزيرة القرم.
الدبلوماسية والصواريخ
ولم تكن القيادة الروسية ومعها السلطات المحلية في القرم لتغفل هذه التصريحات التي سرعان ما واجهتها بتصريحات مماثلة تحمل بين ثناياها التهديد والوعيد، على حد قول يوري جمبل، نائب رئيس مجلس الدولة في شبه جزيرة القرم. وأضاف أن “القوات الروسية قادرة على حماية المجال الجوي على نحو تام فوق شبه الجزيرة وحدودها، والتي توجد فيها الإمكانات الدفاعية اللازمة. في شمال شبه الجزيرة وغربها وشرقها وجنوبها، تتمركز فرق من أنظمة الصواريخ المضادة للطائرات من طراز S-400. وليس بعيداً عن بالاكلافا، تم إحياء كتيبة الصواريخ الساحلية منجم أوتيوس. وهي تغطي ساحل شبه الجزيرة في دائرة نصف قطرها مئات عدة من الكيلومترات.
أما القيادة السياسية والعسكرية في موسكو فاتخذت منحى آخر عميق المغزى بعيد المدى، بما أقرته روسيا في استفتائها الشعبي الذي أجرته في العام الماضي حول التعديلات الروسية التي طرحها الرئيس بوتين. ومن هذه التعديلات ما يتعلق بعدم مشروعية النظر في أي مسائل تمس وحدة أراضي روسيا الاتحادية، بما يعنى عدم جواز التطرق في أي مباحثات إلى أي موضوع يتعلق بمشروعية ضم روسيا أي أجزاء من أراضيها. وهو ما ينسحب على شبه جزيرة القرم، وجزر كوريل المتنازع عليها مع اليابان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وإذا كان بوتين قد أشار في وقت سابق إلى أن بلاده كانت بصدد رفع درجة استعداد قواتها النووية، لدى إحكام الطوق حول شبه جزيرة القرم بعد استفتائها الشعبي الذي أقر انضمامها إلى روسيا، فإنه عاد وأعلن أكثر من مرة، عما هو أبعد من تأكيد تبعية القرم لروسيا. ويذكر المراقبون ما كرره خلال الأسابيع الماضية حول أن روسيا لن تتخلى عن دعم سكان منطقة دونباس، في إشارة إلى تأييده مواطني جمهوريتي الدنيبر ولوجانسك غير المعترف بهما. وكان عدد من أحزاب المعارضة في روسيا قد كشف عن تأييد انضمام هاتين “الجمهوريتين” إلى روسيا الاتحادية، انطلاقاً من تاريخ قديم يقول إن فلاديمير لينين، زعيم ثورة أكتوبر (تشرين الأول)، كان أعلن ضم أراضي منطقة دونباس الروسية الأصل إلى أوكرانيا دعماً لفكرة إنشاء طبقة عاملة في مناطق مناجم الفحم، وتعزيزاً لدور البروليتاريا. وإذا كان ثمة من يعتبر هذه الفكرة مجرد “أحلام ليلة صيف”، فإن هناك في روسيا من يظل يقول إن تاريخ هذه المناطق مترامية الأطراف متعددة القوميات وعلى مدى قرون طويلة، شهد ما يتصور البعض أنه من “المستحيلات”!