هل تكون آخر طفرة؟


انخفاض نمو الطلب لا يعني بالضرورة تراجع أسعار النفط

أنس بن فيصل الحجي اقتصادي متخصص في مجال الطاقة

مع ارتفاع أسعار النفط في الأيام الأخيرة، كتب بعض الباحثين أنها الطفرة الأخيرة، وتساءلوا هل تستفيد دول الخليج منها؟

الافتراض المبطن هنا أن الطلب العالمي على النفط بلغ ذروته، أو أنه سيبلغ ذروته قريباً.

وعلى الرغم من أن هذا الافتراض مقبول في الأجواء الحالية ضمن دوائر عدة، وعلى الرغم من أن لدي عدداً من الأدلة الدامغة بعدم صحته، إلا أن هناك خمس مشكلات تقتضي رفض آراء هؤلاء الباحثين.

الأولى أن هناك فرق بين انخفاض معدلات نمو الطلب على النفط وانخفاض الطلب على النفط، والثانية أن انخفاض نمو الطلب على النفط أو انخفاض الطلب نفسه لا يعني بالضرورة انخفاض أسعار النفط، والثالثة أن انخفاض الطلب العالمي على النفط لا يعني بالضرورة انخفاض الطلب على النفط الخليجي، كونه الأقل كلفة في العالم.

الرابعة أنه مهما كان الطلب على النفط مستقبلاً، فإن معدلات النضوب تقتضي استثمار مبالغ هائلة، وهذه الاستثمارات لن تتم إلا إذا كان هناك عائد مجز منها، وهذا لا يتم إذا كانت أسعار النفط منخفضة. 

الخامسة أن التكنولوجيا تتقدم في كل المجالات والاتجاهات، وفي مجالي العرض والطلب في الوقت نفسه. مثلاً، في الوقت الذي تحسنت فيه كفاءة استخدام الطاقة بشكل كبير، سواء بسبب تكنولوجيا العزل في المباني أو بسبب استخدام تكنولوجيا “إل أي دي” في الإضاءة، أو استخدام المؤقتات وأدوات الاستشعار في المكاتب والمصانع، حصلت تطورات هائلة رفعت من استهلاك الطاقة بشكل كبير.

الانتشار الكبير للهواتف الذكية التي أصبحت تستهلك الكهرباء بشكل لم تستهلكه الهواتف الأرضية، وانتشار مراكز البيانات التي ستصبح قريباً أكبر مستهلك للكهرباء في العالم، وانتشار “بيتكوين” التي يستهلك البحث عنها كميات هائلة من الكهرباء.

باختصار، في الوقت الذي تحجم فيه التكنولوجيا الطلب على الطاقة من ناحية، تزيده من ناحية أخرى، لهذا فإن فكرة انخفاض إيرادات دول الخليج مستقبلاً بشكل كبير غير صحيحة.

هدف “أوبك”

تشير الوثائق التاريخية إلى أن الهدف من إنشاء “أوبك”، هو تخليص الدول النفطية من الاعتماد على إيرادات النفط، ويتم ذلك من طريق التعديل الدائم للإنتاج بحيث يوائم الطلب ويحقق سعراً معقولاً لمصدر ناضب، ومن ثم يتم استخدام الإيرادات لتحقيق تنمية اقتصادية يتم من خلالها تنويع الاقتصاد وإنهاء الاعتماد على واردات النفط.

من هذا المنطلق، نرى أن رؤية 2030 في السعودية تتواءم مع الرؤية الأصلية لـ “أوبك”، كما أن خفوض الإنتاج خلال الـ 12 شهراً الأخيرة، بخاصة في الشهرين الأخيرين، وتتواءم أيضاً مع الرؤية الأصلية لـ “أوبك”. 

إذاً، فكرة الاستفادة من إيرادات النفط والتخفيف من دور النفط في الاقتصاد كانت وما زالت الشغل الشاغل لمسؤولي دول الخليج، وهناك أسباب كثيرة منعت هذه الدول من تحقيق الهدف المنشود، بعضها كان من الممكن تجنبه وبعضها لا يمكن تجنبه، ولا يمكن شرح الوضع في الخليج بظاهرة “المرض الهولندي” أو “نقمة النفط” لوجود خصائص عدة في دول الخليج غير موجودة في الدول الأخرى.  

ونظرة إلى البيانات التاريخية تشير إلى أن دول الخليج مرت بطفرة واحدة فقط هي طفرة السبعينيات، تلك الفترة كانت تاريخية بكل المقاييس، ولها خصائصها التاريخية، ومن ثم فإن الحديث عن طفرة أخرى غير منطقي،  والحديث يجب أن يكون عن انتعاش اقتصادي وتحول إلى اقتصاد أقل تأثراً بتقلب أسعار النفط.

الفكرة هنا أن الحديث عن “الطفرة الأخيرة” مع ارتفاع أسعار النفط يعني أن الباحثين مازالوا ينظرون إلى دول الخليج بعقلية السبعينيات، متجاهلين عوامل تاريخية عدة، ومتجاهلين القفزات الضخمة التي قامت بها دول الخليج خلال الـ 50 سنة الماضية.

الرؤية القاصرة لأسعار النفط

يتحدد سعر النفط في السوق عند تساوي الكمية المطلوبة مع الكمية المعروضة بغض النظر عن هيكل السوق، وانخفاض الطلب على النفط من دون انخفاض العرض يعني بالضرورة انخفاض أسعار النفط، وهذا الانخفاض في الأسعار سيجبر المنتجين مرتفعي الكلفة على الخروج من السوق أو خفض إنتاجهم، وانخفاض العرض يعني بالضرورة ارتفاع الأسعار، وهذا يعني أن من يقولون بانخفاض الأسعار ينظرون للمرحلة الأولى فقط، ولا ينظرون إلى المراحل التي بعدها.

أسواق النفط ليست بالبساطة المذكورة أعلاه، فإذا كانت هذه الأسواق تتمتع بالمنافسة، فإن السعر سيتحدد بحسب الكلفة الحدية وهي عالية، وقد تتجاوز 50 دولاراً للبرميل في حال انخفاض الطلب على النفط، وتتجاوز 65 دولاراً إذا لم ينخفض، وهذا يعني أن الأسعار ستكون مترفعة نسبياً على الرغم من انخفاض الطلب على النفط، إلا أن أسواق النفط لا تتمتع بالمنافسة، فهناك قوانين صارمة وضرائب عالية في الدول المستهلكة، كما أن الدول المنتجة تقوم بتغيير الإنتاج بما يناسبها، فإذا انخفض الطلب على النفط تقوم كبار الدول المنتجة بخفض الإنتاج ومن ثم ترتفع الأسعار.

خلاصة الأمر أن انخفاض الطلب على النفط في المدى الطويل لا يعني بالضرورة انخفاض أسعار النفط.

إشكال الطلب على النفط 

كل هذا الحديث عن “آخر طفرة” مبني على فكرة انتشار السيارات الكهربائية مستقبلاً، والمشكلة أن استشراف وكالة الطاقة الدولية و”أوبك” يبيّن أن أكبر انخفاض في الطلب على النفط لن يكون من السيارات الكهربائية، ولكن من تحسن كفاءة سيارة البنزين والديزل. 

الأثر المتوقع من التحسن في كفاءة سيارات البنزين والديزل كبير جداً لدرجة أنه تجاوز الثمانية ملايين برميل يومياً خلال الـ 25 سنة المقبلة، والإشكال في هذا التوقع أنه إذا كان صحيحاً فلا حاجة لنا بالسيارات الكهربائية. 

وبفرض قيام دول الاتحاد الأوروبي بتغيير كل سيارة فيها إلى كهربائية خلال الـ 25 سنة المقبلة، فإن هذا يخفض الطلب العالمي على النفط ما بين 7 إلى 8 ملايين برميل يومياً، وهي كمية الزيادة في طلب الهند على النفط خلال تلك الفترة، ولعل من غرائب الأمور أن وكالة الطاقة الدولية تتوقع زيادة استهلاك النفط في الكونغو خلال السنوات المقبلة بسبب زيادة عمليات التنقيب عن الكوبالت اللازم لبطاريات السيارات الكهربائية، إلا أن مؤيدي السيارات الكهربائية يتجاهلون هذا التوقع تماماً، مع أن الوكالة من أكثر الهيئات تأييداً للسيارات الكهربائية.  

كما أن الحديث عن “آخر طفرة” يتجاهل رد فعل الدول النفطية وما تقوم به للحفاظ على طلب النفط، بما في ذلك تحويله إلى مواد.

الحديث عن آخر “طفرة” يوحي بوجود طفرات، والحقيقة أنه لن توجد غير طفرة واحدة هي طفرة السبعينيات، والحديث عن أن الارتفاع الذي شهدته الأسواق خلال الفترات الأخيرة والفترة المقبلة هو الارتفاع الأخير في إيرادات الدول النفطية غير صحيح، لأنه يقوم على افتراضات غير منطقية، إذ إن انخفاض معدلات النمو في الطلب العالمي على النفط أو انخفاض الطلب نفسه لا يعني بالضرورة انخفاض أسعار النفط، بل قد ننتهي بوضع يكون فيه الطلب والعرض أقل والأسعار أعلى، وإيرادات النفط أعلى. لماذا؟ 

لأن الإحلال الكبير سينتهي يوماً ما، ولا يمكن إيجاد بديل للنفط وقتها، ولكن علينا أن نتذكر أن انخفاض الطلب العالمي على النفط لا يعني بالضرورة انخفاض الطلب على النفط الخليجي بالنسبة نفسها، وقد لا يعني انخفاض الطلب على النفط الخليجي أصلاً بسبب انخفاض الكُلف. 

الحقيقة أنه مهما كان الطلب على النفط عام 2050، فإن هناك حقيقة واضحة، وهي أن كل النفط الذي سينتج وقتها سيكون من استثمارات جديدة بسبب معدلات النضوب، وهذا يتطلب استثمارات وخبرات ضخمة، ومن ثم فإن النتيجة الحتمية هي أن أسواق النفط ستستمر بالتقلب كما هي في الماضي، وعلى دول الخليج العمل جاهدة على تخفيف أثر التقلبات في اقتصاداتها.