مقالات نادرة عن الفنون يهاجم فيها الحداثة العالمية ويصفها بـ”الخنفشارية”
ياسر سلطان
“إذا التمس المؤرخون في المستقبل علامة واحدة – مختصرة – على انحطاط الحضارة الأوروبية في القرن العشرين؛ فهذه العلامة تتلخص في اسم الرجل المنسوب إلى فن التصوير بابلو بيكاسو الذي يبلغ الثمانين في هذا الأسبوع، ويحتفل به لهذه المناسبة ضحايا الخبائث التي يمثلها في هذه الحضارة المنحلة: وهي الجهل والمسخ والإباحية.”
هكذا كان رأي الكاتب المصري الراحل عباس محمود العقاد في الفنان الإسباني بابلو بيكاسو، ضمن مقالة نشرها في جريدة “الأخبار” عام 1960، في ذكرى ميلاد الفنان الشهير. هذا المقال وغيره من المقالات الأخرى للعقاد يضمها الكتاب الصادر حديثاً في القاهرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، والذي جمع مادته الكاتب والفنان المصري علاء عبد الحميد.
يحمل الكتاب عنوان “عباس محمود العقاد.. مقالات نادرة عن الفنون الجميلة” ويتضمن دراسة عن العقاد وعلاقته بالفنون الجميلة وضعها مؤلف الكتاب، إلى جانب ثلاثين مقالة نادرة للعقاد حول الفن، إضافة إلى ست مقالات أخرى لكُتّاب تتضمن سجالات وردوداً لهم حول آراء العقاد وأفكاره. من بين تسعين مقالة كتبها العقاد عن الفن اختار مؤلف الكتاب ثلاثين مقالة فقط رأى أنها الأكثر ندرة.
أهمية هذا الكتاب لا تعود فقط إلى أن الآراء الواردة فيه تخص أحد أبرز رموز الفكر والأدب في مصر والعالم العربي، بل لكونها كذلك تُبرز طبيعة السجالات والأفكار التي كانت تشغل الساحة المصرية والعربية في وقت مبكر من تاريخ الحركات الفنية في مصر والوطن العربي في مطلع القرن الماضي. تزامن ظهور اسم العقاد على ساحة الكتابة في مصر مع إنشاء مدرسة الفنون الجميلة بها، إذ بدأ العقاد عمله في الصحافة عام 1907 وبعدها بعام واحد أنشئت مدرسة الفنون الجميلة في القاهرة.
كتاب العقاد (الهيئة المصرية)
ترسم المقالات التي يتضمنها الكتاب ملامح رؤية العقاد حول الفن والجمال وغيرها من الأمور المُرتبطة بعملية الإبداع، كما تلفت إلى امتلاكه رؤية خاصة وموقفاً من الفنون عامة دفعه إلى رفض الممارسات الحداثية في الفن.
لم يتقبل العقاد الحداثة الأوروبية حين ظهرت تأثيراتها في المشهد الفني المصري في ثلاثينيات القرن العشرين، فكان من أشد المهاجمين لهذه الممارسات الفنية والتيارات الحديثة.
ويرى مؤلف الكتاب أن رفض العقاد هذه الممارسات “كان ينبثق من عدة أسباب، أولها، هو الوازع الوطني القومي المقاوم للاستعمار الذي كان سائداً وقتها، والإصرار على مصرية كل شيء وألا تتنافى عنه صفة الأصالة.”
هجوم سياسي
يرى عبد الحميد أن من مفارقات هجوم العقاد على الفنون الحديثة أن موقفه تماس مع موقف النازية من هذه الفنون التي وصفها هتلر بالفن المنحط وأحرق أعمال فنانيها، ومن بينها لوحات لـ”فاسيلي كاندنسكي، وكوكشكا، وبول كلي، وماكس أرنست” وغيرهم. هاجم العقاد أيضاً أتباع هذه المدارس الحديثة وأطلق عليها في مقالاته تلك أسماء تهكمية مثل الفنون “الخنفشارية” و”الموضات” و”التقليعات” كما وجه الاتهامات إلى ممارسيها، وخص بالهجوم “الدادية، والسوريالية، والتجريدية”، فكان يراها كما يقول المؤلف من أعراض هوس التقليد الأعمى لانحرافات الحضارة الغربية الحديثة. كما انتقد العقاد نظريات فرويد عن العقل الباطن التي اعتمد عليها السورياليون في إنتاجهم الفني.
في واحدة من مقالاته الواردة في الكتاب يقول العقاد: “أما المصورون الذين يقذفون بالألوان والرسوم إلى عرض الطريق ليحدثونا باسم الوعي الباطن، فأول ما ينبغي أن يسمعوه منا أنكم يا هؤلاء لستم بأصحاب الاختصاص في هذه الأسرار، فإذا فشلتم في حمل الريشة وخلط الألوان فقد فشلتم في وظيفتكم المعترف بها، وادعيتم لأنفسكم وظيفة لا يعترف لكم بها إنسان، ولا حاجة بالناس إليها لأنهم جميعاً أصحاب وعي باطن مثلكم وزيادة”.
كان رأي العقاد أن تلك المدارس “تبطل قواعد التصوير كما عرفها أساتذة الفن في جميع العصور، وتعفي المصور من قواعد الرسم والتلوين والتشبيه، وأصول الإضاءة والتظليل” لذا كان دائماً ما يحث الدولة على اقتناء الأعمال البعيدة عن هذه الممارسات المشوهة للذوق كما وصفها.
وفي معرض تعليقه حول اختيارات اللجنة المشكلة من وزارة المعارف المصرية لاقتناء أعمال الفنانين في أحد المعارض ينصح العقاد باختيار “الصور المعقولة الممتازة من عمل الأساتذة المقتدرين، الذين لم تُفسد صناعتهم نظريات هذا الخلط المشوه الذي يسمونه الفن الحديث.”
ويرى المؤلف أن العقاد كان له تأثير واضح على الإنتاج الفني في مصر في ذلك الوقت مستشهداً بمقالين له هاجم في الأول تمثال “نهضة مصر” المثال الراحل محمود مختار قبل أن يُنَصب في أحد الميادين، لكنه يعود في مقاله الآخر ليثني على التمثال بعد إقامته شاكراً المثال محمود مختار على الالتفات لملاحظاته التي ذكرها في مقاله الأول.
كما يظهر تأثير العقاد كذلك من خلال مناقشاته واقتراحاته في البرلمان المصري وقت أن كان عضواً به، إذ كان من أكبر المساندين لبعثات الفنانين، ومن أوائل الذين اقترحوا إنشاء متحف للفنون الجميلة في مصر.
وحول تأثير العقاد على النشاط الإبداعي في مصر يذكر الكاتب واقعة تدخل العقاد لمنع الشاعرين صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي من أن يلقيا قصائدهما أثناء مشاركتهما عام 1961 في مهرجان الشعر العربي في دمشق، وكان العقاد وقتها مقرراً للجنة الشعر في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، لا لشيء سوى عداء العقاد لشعر التفعيلة الذي كان يمثله هذين الشاعرين.
يلفت عبد الحميد إلى تمرد العقاد نفسه على الكلاسيكية في الشعر التي كان يمثلها أحمد شوقي. ويشير الكاتب هنا إلى ما يسميه “إعادة إنتاج القهر والأحلام المكبوتة” حين يذكر أن الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي قد مارس الدور نفسه الذي لعبه العقاد حين هاجم بضراوة قصيدة النثر وشعراءها، ووقف حائلاً من دون ترشح بعضهم لنيل جائزة الدولة التقديرية.
علاء عبد الحميد فنان وكاتب مصري، ولد عام 1986، حصل على بكالوريوس الفنون الجميلة عام 2008، كما حصل على درجة الماجستير في ممارسات الفن المعاصر من جامعة جنيف، وله ثلاث روايات منشورة هي “كول مي، وفرد أمن، والمجسم الذي تم العثور عليه مرتين”.