الثورة الإيرانية تغير النظام والهدف واحد: تكريس التفوق الفارسي


بالرغم من الاختلاف الظاهر بين طهران الشاه والجمهورية الإسلامية الخمينية فإنهما واقعياً وجهان لعملة واحدة تتشابهان في تطلعاتهما وطموحاتهما

كريم عبديان ناشط حقوقي 

يصادف شهر فبراير (شباط) 2021 الذكرى الثانية والأربعين للثورة الإيرانية التي اندلعت عام 1979، وأدت إلى سقوط الشاه وانتصار النظام الديني الذي قاده الخميني ومن بعده دائرته الضيقة القوية.

لقد أطاحت الثورة إمبراطورية الشاه بعد 38 عاماً من الحكم الملكي المطلق، ثم نصّب الخميني نفسه إماماً وولياً فقيهاً. بعد ذلك، وفي استفتاء يراه المعارضون مزور، أُعلن تأسيس نظام “الجمهورية إسلامية”.

وعلى الرغم من الاختلاف الظاهر بين إيران الشاه و”الجمهورية الإسلامية الخمينية”، فإنهما في الواقع وجهان لعملة واحدة تتشابهان في تطلعاتهما وطموحاتهما، وإن كان الشاه أكثر براغماتياً وأقل أيديولوجياً من الخميني. فقد أسقط الخميني نظام الشاه لكنه ورث عنه الرغبة في أن يصبح شرطيّ المنطقة والقوة الأبرز فيها.

تكريس التفوق الفارسي

لقد سعى كل من الشاه والخميني إلى تحقيق التفوق الإقليمي، وبنى كل واحد منهما نهجه على أساس القومية الفارسية واستبعاد وتهميش العرقيات الإيرانية الأخرى، مثل الأتراك والعرب والأكراد والبلوش والتركمان واللور وغيرهم. وادعى كلاهما الإيمان بالعقيدة الإيرانية الشيعية (التي يطلق عليها الشيعة غير الفرس “التشيع الصفوي”)، وهي الطائفة الجعفرية الاثني عشرية. كان الخميني يدعو إليها، في حين روّجها الشاه واعتبرها النسخة الفارسية من الإسلام. لقد سعى النظامان إلى تحقيق التفوق السياسي والثقافي والحضاري وبلوغ مقام القوة الأبرز في المنطقة التي تسمو على نحو عشرة من جيرانها. وكان لدى كل من الشاه والخميني نزعة أيديولوجية قوية للغاية، وهي ديكتاتورية استبدادية شديدة وإيمان باستخدام القمع والعنف في نهجهما للحكم وفي سبيل تحقيق أهدافهما وغاياتهما.

خلال القرن الماضي، لم يتغير الهدف النهائي لإيران، والمتمثل أساساً في التفوق والهيمنة الإقليمية. لقد بقيت الحال على ما هي عليه في ظل النظام الملكي لكل من بهلوي الأب والابن شاهنشاه (ملك الملوك)، وكذلك في ظل نظام ولاية الفقيه الحالي.

09.jpg

متظاهرون يحملون صورة للخميني خلال تظاهرة ضد الشاه عام 1979 (أ ف ب)

كانت طموحات الشاه تناشد الإمبريالية الأميركية التي برزت بعد الحرب العالمية الثانية (باكس أميركانا)، بينما أدى تفكك الإمبراطورية البريطانية بعد الحرب إلى تغيير السياسة العالمية. ففي يناير (كانون الثاني) 1968، أعلنت بريطانيا عزمها سحب قواتها من السويس ومنطقة الخليج لأسباب اقتصادية. وكان من الواضح أن الفراغ الذي خلّفه ذلك الانسحاب بحاجة لمن يملأه.

تزامن القرار الإنجليزي بالانسحاب مع خسارة ليندون جونسون الرئاسة أمام الجمهوري ريتشارد نيكسون في الانتخابات الأميركية عام 1968. ترشح نيكسون ضد جورج ماكغفرن، السيناتور القوي المناهض للحرب من ماساتشوستس، الذي يُمثّل الجناح التقدمي للحزب الديمقراطي. وبعد سقوط نحو 50 ألف ضحية في حرب فيتنام، وعد نيكسون هو أيضاً بإنهاء الحرب في إطار عقيدته التي كانت تهدف أساساً إلى جعل القوى الإقليمية مسؤولة عن الدفاع عن نفسها. وعلى الرغم من أن ذلك كان يرمي في البداية إلى “فتنمة” حرب فيتنام، إلا أنه امتد أبعد من ذلك إلى مناطق أخرى، بينها الخليج.

وبموجب عقيدة نيكسون، أتاح تكليف الشاه بدور شرطي الخليج، فرصة ذهبية لكيسينجر، الذي كان مستشاراً للأمن القومي ولاحقاً وزيراً للخارجية، ولسياسة نيكسون المتشددة للحدّ من القوة المتزايدة للاتحاد السوفياتي، بخاصة لمنع وصول السوفيات إلى الخليج والشرق الأوسط.

الشاه وكيل السياسة الخارجية الأميركية

بعد الانقلاب الذي قادته وكالة الاستخبارات المركزية ضد محمد مصدق، رئيس الوزراء الإيراني عام 1953، مالت طهران بشكل أساس نحو الولايات المتحدة في مختلف جوانب الحكم تقريباً: السياسية والعسكرية والأمنية. ولقد تأسّس جهاز “السافاك”، الشرطة السرية الإيرانية الشهيرة، من قبل وكالة الاستخبارات المركزية والموساد الإسرائيلي. وبصفة أساسية، أصبح الشاه وكيلاً للسياسة الخارجية الأميركية، واستمر هذا الوضع طوال الحرب الباردة. ولقد توافق التنافس القوي بين نيكسون وكيسينجر على مناهضة السوفيات بشكل جيد مع طموحات الشاه الفارسية-الآرية في الهيمنة.

في هذا الصدد، أتذكر المشاركة في حملة جورج ماكغفرن الانتخابية المناهضة لحرب فيتنام عام 1972 ضد حملة التخويف التي كان يقودها نيكسون والتي كانت تستند إلى نظرية الدومينو، أي أنه إذا سقطت دولة واحدة تحت السيطرة السوفياتية، فإن المنطقة بأكملها ستسقط في براثن الشيوعية.

فاز نيكسون في الانتخابات بفارق عريض، ثم أدركتُ كيف تأثر الشعب الأميركي بوسائل الإعلام اليمينية واقتنع بموقف نيكسون القاسي وغير الواقعي المناهض للشيوعية.

ومن هذا المنطلق ذاته، كان يُنظر إلى مهمة الشاه في الخليج على أنها جزء من التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وفي صالح الأولى. لذلك قدّم الكونغرس الأميركي الدعم إلى الشاه ليكون شرطي الخليج.

مع الارتفاع الهائل في أسعار النفط، مُنح الشاه تفويضاً مطلقاً من واشنطن لشراء المعدات والأجهزة العسكرية لتحقيق طموحاته التوسعية الفارسية. وعلى سبيل المثال، انخرط في “حرب ظفار”، المعروفة أيضاً باسم “الحرب الأهلية العمانية”، بدعم من وكالة الاستخبارات المركزية وأرسل إلى هناك ما يقرب من 20 ألف جندي بين 1972 و1979 لدعم سلطان عمان. وفي تلك الحرب، دعم الشاه سحق “حركة ظفار” وكان له الفضل في منع استيلاء الماركسيين على دولة خليجية عربية.

كما واصلت جمهورية الخميني الإسلامية، كما فعل الشاه الإمبراطوري، السعي لتحقيق هدفها الاستراتيجي لتصبح القوة الأبرز في المنطقة وزعيمة ليس فقط للعالم الشيعي (الذي يبلغ تعداد سكانه 100 إلى 150 مليوناً في أحسن الأحوال على مستوى العالم أو 10 في المئة من إجمالي المسلمين). لكن الخميني لم يرضَ بأقل من قيادة العالم الإسلامي السني بأكمله.

وعلى عكس الخميني، كان الشاه صريحاً في آرائه وفي اعتبار نفسه “آريامهر”، أي آخر ملوك الإمبراطورية الفارسية الممتدة على مدى 2500 عام. كما كان يعزز ويروج للفكرة العنصرية المبنية على تفوّق العرق الآري وكراهية العرب. ولقد وفرت له الثروة النفطية المستجدة الموارد اللازمة لتحقيق هدفه العظيم.

010.jpg

شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي وزوجته في طهران (أ ف ب)

في المقابل، كان الخميني في البداية أكثر حكمة في هذا الصدد، ولكن مع فقدان النظام دعم الشباب الإيراني وبعد رؤية غالبية الإيرانيين يغادرون الحسينيات والمساجد بشكل جماعي، عاد نظام الملالي هو الآخر إلى توظيف أسطورة الانتماء الآري والقومية الفارسية. وهذا الخطاب هو الذي دعم استيلاء النظام الإيراني على العراق العربي وسوريا ولبنان واليمن – وتم توظيفه لتبرير الكراهية ضد العرب.

وأخيراً، حصل علي خامنئي تحت قيادة مرشده الخميني على فرصة تبوّؤ مكانة القوة الإقليمية البارزة والمهيمنة خلال الفترة 2009-2017 مع رئاسة أوباما.

عملت إيران واللوبي الداعم لها في واشنطن جاهدَين لإقناع الديمقراطيين في الكونغرس الأميركي والرئيس أوباما والغرب بشكل عام بأن الأرستقراطية الإيرانية الشيعية الفارسية، وليس العرب السنة، هي الجديرة بأن تكون قوة نووية سلمية. ولقد اقتنع أوباما بوعود الملالي وعمل على إقصاء دول عربية مجاورة في التفاوض والتوقيع على الصفقة النووية مع طهران عام 2015.

علاوة على ذلك، وافق أوباما على منحها 150 مليار دولار مقابل لجم طموحاتها النووية والحيلولة دون تطويرها قنبلة نووية (سواء كان ذلك حقيقية أو متصوراً). كما انتهى الأمر بإدارة أوباما إلى إعطاء تفويض مطلق لإيران للتوسع في العراق ولبنان وسوريا واليمن. وفي الأساس، سُمح لها باحتلال أربع عواصم عربية من دون عقاب.

كان تمدد الجمهورية الإسلامية مدفوعاً أيضاً بالقومية الفارسية التوسعية ذاتها، المسلحة بالتشيع الإيراني والإسلام السياسي.

تطوير البرنامج الصاروخي

بعد الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، طوّرت طهران برنامجاً صاروخياً دفاعياً يعوّض افتقارها لقوة جوية ضاربة. لكن لاحقاً، وسّعت مشروعها الدفاعي الأولي، إلى برنامج هجومي يشمل صواريخ باليستية متوسطة ​​إلى طويلة الأمد.

خلال سنوات السبعينيات كان ينظر الشاه إلى البعثيين العراقيين وصدام حسين كمنافس عسكري. لذلك بدأ دعم المعارضة الكردية العراقية وإثارة تطلعاتهم إلى الاستقلال. وفي هذا الصدد، زوّد جهاز السافاك الأكراد بالسلاح ودرّب قوات البيشمركة في الأكاديميات العسكرية الإيرانية بطهران. بالتزامن مع ذلك، أطلق الشاه حملة عنصرية واسعة النطاق معادية للعرب كخلفية أيديولوجية تصوّر القتال باعتباره مساعدة إيرانية للأمة الكردية الآرية الشقيقة ضد العدو العربي.

في وقت لاحق، بنى الخميني على حملة الشاه الضخمة المعادية للعرب والعراقيين ودخل في حرب استنزاف دامية مع صدام حسين استمرت ثماني سنوات (1980-1988) وأودت بحياة ما يقرب من 600 ألف جندي إيراني و500 ألف عراقي. وبطبيعة الحال، كانت كراهية الخميني لصدام حسين والعراق شخصية كذلك، إذ إن صدام كان مَن طرده من النجف.

الخطاب المعادي للعرب

لقد وظفت الأنظمة الإيرانية المتعاقبة، سواء كانت ملكية أو دينية، خلال القرن الماضي منذ الإطاحة بالقاجاريين وتتويج رضا شاه عام 1925، الخطاب المعادي للعرب وكراهية العرب كلما أرادت إثارة الشعب وحشد دعمه. وخلال الحرب العراقية الإيرانية، وقفت القوى العربية خلف العراق البعثي، مخافة أن تشملها تداعيات الثورة الإسلامية.

وعام 2001، شنّت الولايات المتحدة حرباً على حركة طالبان في أفغانستان ثم على البعثيين في العراق عام 2003. وهكذا ساعدت الولايات المتحدة خامنئي في التخلص من جارَيه غير الودودَين. في غضون ذلك، بدأت إيران بتصدير منهجها الثوري وبناء “هلال شيعي” وتشكيل ما سمّته بـ”محور المقاومة” ضد إسرائيل، من خلال دعم “حزب الله” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي”، تحت ذريعة التعاطف مع الفلسطينيين. لكن هذه الاستراتيجية لم تلقَ تجاوباً في أوساط الأمة العربية المسلمة وفشلت في الغالب.

وتنفيذاً لسياسة طهران التوسعية، شرع “فيلق القدس” بقيادة قاسم سليماني في بناء ممر بري متصل من إيران عبر العراق وسوريا إلى لبنان. وبررت إيران استعراض عضلاتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن باعتبار هذه الدول تابعة لها وتقع في دائرة نفوذها.

وبحسب الخبير نادر أوسكوي، الذي أمضى سنوات من البحث الميداني في العراق والشام، في كتابه “ارتفاع درجة الحرارة”، فإن “تدخّل إيران في الدول العربية لا يقتصر فقط على حماية النظام من التهديدات الخارجية المحتملة، بل أيضاً على نشر نفوذ الجمهورية الإسلامية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، تطبيقاً لقول الخميني بأن الثورة لا تخصّ إيران وحدها وإنما المنطقة بأكملها”.

ويقدّم أوسكوي أدلة قوية في كتابه على أن الميليشيات الإيرانية في الشرق الأوسط يُراد لها أن تستمر حتى في حال انتهاء الجمهورية الإسلامية، وذلك في إطار المشروع الذي خطط له وطوّره وعمل على تنفيذه قاسم سليماني.

لقد نفّذ سليماني إرادة المرشد الأعلى للبلاد، وأسس الجمهورية الإسلامية كقوة رئيسة في الشرق الأوسط، حيث كان العقل المدبر للتدخلات الإيرانية في أفغانستان والعراق ولبنان وسوريا واليمن. ولهذا السبب، يعزو بعض المحللين مقتل سليماني على يد وكالة الاستخبارات المركزية إلى رغبة واشنطن في إنقاذ المنطقة من هلال نفوذ شيعي قد تتعرّض فيه المصالح الأميركية للخطر.

ففي بعض ربوع المنطقة، قام “فيلق القدس” التابع لسليماني بتجنيد وتدريب وتسليح وتنظيم مجموعات شيعية أفغانية وباكستانية وهندية. وتتمتع قوات المرتزقة الشيعية هذه، مثل فاطميين وزينبيين، بخبرة عالية وتعمل كقوات خاصة أو شبكات إرهابية على طريقة منفذي هجمات 11 سبتمبر (أيلول). وتحظى بالدعم المالي من أكثر من 500 بنك وغيرها من المؤسسات المالية التي تستخدمها إيران لتمويل العمليات في جميع أنحاء المنطقة.

تغيّر النظام والهدف واحد

لذا، فإن التشابه بين نظامَيْ الشاه والخميني، المتعارضين ظاهرياً، واضح على أكثر من صعيد. لقد سعى كل واحد منهما إلى زعزعة استقرار الخصوم المجاورين وتعزيز مكانة نظامه في العالمين العربي والإسلامي وعلى الصعيد العالمي ككل. وسعياً وراء هذا الهدف، اعتمد الشاه على الدعم الغربي، بينما يعتمد النظام الإيراني الحالي على الصين وروسيا.

ولقد أظهرت تصرفات الشاه على مدى عقود أن نواياه كانت مبنية إلى حد كبير على أساس القومية الفارسية، بالرغم من تقاربه في النهاية مع بعض الدول العربية بعدما كان لسنوات متحالفاً مع إسرائيل، حيث أدرك حاجته لكسب ودّ ودعم العرب ليكون قوة معترفاً بها في المنطقة.

ولتحقيق الاعتراف به كقوة مهيمنة في المنطقة، أنفق الشاه عشرات المليارات في احتفالات بذكرى تأسيس مملكة فارس عام 1972، بالرغم من أن نصف شعبه كانوا من الفقراء والأميين. وعلى نحو مماثل، ينفق الملالي اليوم المليارات للدخول إلى النادي النووي، وفي دعم وكلائهم مثل “حزب الله” و”حماس” و”الجهاد”… بينما تعيش غالبية الإيرانيين في فقر مدقع.

لقد ذهب كل من الشاه وخامنئي إلى أبعد مدى في اتخاذ خطوات أساسية للحفاظ على أمنهما القومي واستقرار نظاميهما، ولم يتغير نهجهما المعلن في السعي لتحقيق الهدف المشترك المتمثل في تعزيز التفوق القومي الفارسي.

ويبقى أن نرى ما إذا كان المثقفون الفرس سيظلون متمسكين بقوميتهم “الفارسية المجيدة” واتخاذا مواقف معادية لباقي الشعوب، مع ما ينطوي عليه ذلك من فقر وتخلف وعيش في دولة منبوذة، أو أنهم سيتوقفون عن دعم نظام الملالي والتخلص من قوميتهم ذات النتائج العكسية والمدمرة، التي لم تتكشف بعد بصورة مكتملة.