“قنبلة” بشرية جاهزة للانفجار في أي مكان وأي وقت
أمين الزاوي كاتب ومفكر
لمدرسة، يحدث هذا منذ العشرية الأولى للاستقلال، هي أول وأكبر تنظيم إسلامي صارم في الجزائر. إنها التنظيم الأكثر قوة وانضباطاً، والأكثر احتراماً للتسلسل الهرمي، جميع وسائل الدولة متوافرة لها، المادية منها والبشرية، وبهذا المفهوم فالمدرسة حزب سياسي إسلامي معترف به، ينشط بشكل علني حتى قبل اعتماد التعددية الحزبية في الجزائر العام 1989.
وإذا كان حزب “جبهة التحرير الوطني”، بحسب تسميته القديمة، هو جهاز الدولة، فإن المدرسة هي الرضّاعة السخية لجميع الأحزاب الإسلامية في الجزائر، فلقد ولد التيار الإسلامي من المدرسة وفيها ولها.
إن المدرسة، وحتى قبل الاعتراف بالتعددية الحزبية وجوازها، كانت الحزب الإسلامي الأكثر تأثيراً في السياسة والمجتمع وفي الفرد والجماعة، وهي الحزب الذي يجمع أكبر عدد من المنخرطين، أزيد من 10 ملايين منخرط ومتعاطف وصديق، والعدد في تصاعد مستمر.
وعلى الرغم من وجود حوالى 10 أحزاب سياسية إسلامية، يديرها الإخوة الأعداء، بين المعترف بها والمعارضة وتلك التي تنشط في مربع الممنوع، إلا أن المدرسة تظل هي الحزب الإسلامي الذي أرسل جميع هذه الأحزاب إلى قاعة الانتظار أو التقاعد المبكر.
وتظل المدرسة كحزب سياسي إسلامي هي التي تطعّم الأحزاب الإسلامية التي تنشط في الساحة السياسية باستمرار وتجدد، وتمنحها الطاقة وتحمي وجودها على اختلاف مواقفها الأيديولوجية والمصلحية، من إسلامية معتدلة وأخرى متطرفة وثالثة تعيش على “مَعْلَفِ” السلطة، وكل هذه الفسيفساء السياسية الإسلامية التي تدعي “الدفاع عن الله” خرجت من رحم المدرسة الجزائرية.
لماذا يا ترى استطاعت المدرسة أن تكون الحزب الإسلامي الأكبر في الجزائر؟
إن المدرسة الجزائرية، وهي في ذلك لا تختلف عن مثيلاتها في الدول العربية والمغاربية، تشبه من حيث هيكلتها إلى حد ما، النظام الأيديولوجي الذي قامت عليه النازية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، لأنها مدرسة مخترقة من قبل حزب “الإخوان المسلمين” الذي يشبه حزب النازية في تراتبيته.
أيديولوجياً تتولى المدرسة الطفل من سن الرابعة إلى الـ 18، من مرحلة المدرسة القرآنية مروراً بأطوار التعليم جميعها وصولاً إلى شهادة البكالوريا، وفي هذه المسيرة التربوية التي عمرها 14 سنة تقريباً، يتعرض عقل التلميذ إلى غسيل دماغي، هدفه شحن جاهزية المتعلم بأيديولوجية أعرق حزب إسلامي، وهو حزب “الإخوان المسلمين”.
ففي المدرسة يتعلم الطفل رفض العلمانية ويعتبرها زندقة وكفراً، وفيها يتعلم بأن الديمقراطية متعارضة مع الإسلام، وفيها يتعلم بأن حقوق الإنسان العالمية معادية لمبادئ الإسلام، وفيها يتعلم الخوف من الآخر ورفض العيش المشترك مع معتنقي الديانات الأخرى في العالم، وبهذا التكوين يصل الشاب إلى هذه الأحزاب “قنبلة” بشرية جاهزة للانفجار في أي مكان وأي وقت، ومستعداً للانتحار “الداعشي” أو “الإخواني”.
إن المجتمع الجزائري، شأنه شأن المجتمعات العربية والمغاربية، لم يتم تطعيمه بأيديولوجيا التعصب والإسلاموية من طريق الأحزاب السياسية، فتلك أثرها محدود جداً، وإنما تم ذلك أساساً وبشكل عميق من طريق البرامج المدرسية المتطرفة والمعمّمة، فأمام ما تقوم به المدرسة من تشويه للعقول يبدو عمل الأحزاب السياسية الإسلامية على اختلافها شكلياً وبدائياً، وبمجرد أن حاولت الوزيرة السابقة للتربية الوطنية بالجزائر السيدة نورية بن غبريط الشروع في إصلاح البرامج المدرسية والمس بالأيديولوجية الإخوانية فيها، حتى شُنّت عليها حرب شاملة وعنيفة، استعملت فيها كل الأسلحة الأخلاقية والسياسية والعرقية والدينية، فقد شُنت أول حرب عليها بأن بدأوا في تسريب أخبار كاذبة عن أن “أصلها يهودي”، ثم انتقل الحديث والتشكيك في وطنية جدها الشيخ قدور بن غبريط أول مدير لمسجد باريس، ثم شنت عليها حرب “البسملة” حين ادعى خصومها بأن الوزيرة أسقطت “البسملة” من الكتب المدرسية، ثم حرب أخرى باسم “إسقاط اسم فلسطين” في واحد من كتب برنامج الجغرافيا، ثم حرب أخرى باسم “صلاة النكاية” وهي الصلاة الجماعية للتلاميذ في المدارس، وقد أولوا تصريحات الوزيرة في سبب منع هذه الصلاة داخل الأقسام جميع هذه المعارك، وكان محركها هو الاقتراب من البرامج المدرسية والشروع في تجديدها، وهي الأسس الصلبة التي يقوم عليها “حزب المدرسة الإسلامية”، وكان القصد من وراء هذه الحروب العمل على تشتيت اهتمام الوزيرة وفتح جبهات ضدها من داخل المدرسة ومن خارجها، بتجييش الشارع والإعلام.
وقد تحالفت الأحزاب الإسلامية جميعها، أحزاب الإخوة الأعداء من دون استثناء، ضد قرار الوزيرة في تجديد البرامج، لأن التغيير الذي كانت تسعى إليه يهدد الرأسمال البشري والفكري والأيديولوجي لهذه الأحزاب، إذ إن المدرسة ببرنامجها القائم هي الحقل الطاقوي والأيديولوجي المتطرف الذي يسند وجودها ويحافظ على استمراريته.
أعتقد أن الحرب ضد الإسلاموية والتطرف ليست حرباً سياسية في المقام الأول، بل هي بالأساس وقبل كل شيء حرب “بيداغوجية”، تبدأ من البرامج المدرسية في جميع أطوارها، وهي حرب يجب أن تكون جراحية وبكل جرأة، إذ يستحيل التخلص من التطرف الإسلامي من دون ثورة حقيقية وطويلة، تمتد على جيلين مدرسيين، ساحتها المدرسة هي البرامج وتكوين المُكَونِين. إن الأحزاب السياسية الإسلامية في العالم العربي وفي البلدان المغاربية ليست بأكثر من ذلك الوعاء الذي تصب فيه المدرسة نفاياتها الأيديولوجية.
المقالة تعبر عن راي كاتبها فقط
اندبندنت