“الدعوات إلى الوحدة العربية دخلت في عالم الأحلام إن لم تصبح من الذاكرة”
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
ليس في “الهلال الخصيب” بلد كان جزءًا من بلد آخر. كلها كانت ضمن ولايات عثمانية تتبدل خطوطها. وبعضها شهد مداخلات عسكرية أوروبية، بينها تدخل القيصرة الروسية كاترين الثانية لمساندة محمد علي باشا وضاهر العمر عام 1774 في أخذ دمشق من السلطنة العثمانية، فضربت مدفعية الأسطول الروسي بيروت قبل أن تستعيد السلطنة دمشق. ويروي المؤرخ برنارد لويس أن القيصر الروسي نيقولا الثاني، قال للسفير البريطاني هاملتون سيمور عام 1853: “بين أيدينا رجل مريض هو الإمبراطورية العثمانية، وحان الوقت لاقتسامها بيننا”. ردّ السفير بالقول: “المريض يحتاج إلى طبيب، لا إلى جرّاح”. لكن الوقت حان في الحرب العالمية الأولى.
ويروي سيمون سيباغ مونتفيوري في كتاب “آل رومانوف 1613-1918” أن “القوات الروسية احتلت شمال فارس وغزت العراق وكادت تحتل بغداد” في تلك الحرب. وعام 1916، كان وزير الخارجية الروسي سيرغي ساذونوف يشارك البريطاني السير مايكل سايكس والفرنسي فرنسوا جورج بيكو في اقتسام المنطقة، حيث كان المتفق عليه أن تأخذ موسكو “إسطنبول ومناطق في تركيا وكردستان وحصة في القدس”. لكن الثورة البلشفية عام 1917 سحبت روسيا من الحرب وكشفت عن الاتفاق الذي صار اسمه “سايكس – بيكو” فقط. وهكذا وُلدت بلدان “الهلال الخصيب” على أيدي المنتصرين في الحرب، الذين رسموا حدود هذه البلدان: لبنان الكبير وسوريا تحت الانتداب الفرنسي. العراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني، وضمناً فلسطين لوعد بلفور، و”الوطن اليهودي”، وشرق الأردن لما سمّاه علي المحافظة في كتاب “العلاقات الأردنية – البريطانية” المقابل “العربي” لوعد بلفور بعدما نكث الإنجليز بوعدهم للشريف حسين توحيد العالم العربي تحت قيادته. وهكذا، بمساعدة تشرشل، تولّى عبد الله بن الحسين إمارة شرق الأردن التي صارت المملكة الأردنية الهاشمية، وصار فيصل بن الحسين، ملكاً على العراق بعدما أسقط الجنرال غورو مملكته في سوريا. ثم جرى تأسيس إسرائيل، وكلها باستثناء إسرائيل صارت في المئة. وما كان خارج المألوف قول الملك فيصل عام 1921: “في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بل تكتلات بشرية خيالية خالية من أية فكرة وطنية ومشبعة بتقاليد وأساطير دينية”. ولا كان من المفاجآت، وسط بكاء بعض الأوساط على السلطنة العثمانية، أن تسود فكرة الهوية العربية، ويبدأ نشوء الحركات الداعية إلى الوحدة العربية.
خلال حديث مع زائر غربي، قال الرئيس العراقي الراحل جلال الطالباني: “لديكم الساعات، أما نحن فلدينا الوقت”. لكن الوقت لم يكن لطيفاً مع العرب في معظم الأقطار. فلا الحزب “السوري القومي الاجتماعي” الذي أسسه الزعيم أنطون سعادة تمكّن من توحيد “الأمة السورية”، بل شهد هو انقسامات داخلية. ولا حزب “البعث العربي الاشتراكي” و”حركة القوميين العرب” والأحزاب الناصرية استطاعت تحقيق شيء من وحدة “الأمة العربية”. فالوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، انهارت عام 1961. و”حزب البعث” الذي استولى على السلطة في العراق وسوريا فشل في توحيد البلدين و”نجح” في الانشقاق. مشروع المغرب العربي فشل. ومحاولات القذافي لإقامة وحدة بين ليبيا وكل من مصر والسودان وأي بلد، كانت كاريكاتيرية، بحيث انتهى بالالتفات إلى أفريقيا وإعلان نفسه “ملك ملوك أفريقيا”، قبل أن تسقطه ثورة قادت إلى حرب أهلية وتدخلات إقليمية ودولية، والتجربة الناجحة الوحيدة هي التي يمثّلها مجلس التعاون لدول الخليج.
وبكلام آخر، فإن الدعوات إلى الوحدة العربية دخلت في عالم الأحلام إن لم تصبح من الذاكرة. وما يقلق حالياً، بعد فشل الدعوات إلى الثورة على حدود “سايكس – بيكو”، هو الخطر الذي يهدد الدولة الوطنية، بحيث صار الحفاظ على حدود “سايكس – بيكو” هدفاً مهماً. والسبب هو طغيان المشاعر الطائفية والمذهبية والقبلية والإثنية والجهوية في كل بلد، وسط أوسع مروحة من التدخلات الخارجية التي يعمل بعضها للتقسيم أو الفيدرالية، ويبدو بعضها الآخر كأنه الضامن لبقاء الأنظمة ضمن حدودها من دون انتقاص. فالتجارب في ما سُمّي بـ”الربيع العربي” أكدت ما قاله فرد كابلان في كتاب “المؤمنون بأحلام النهار” من أنه “من السذاجة والغفلة الإيمان بأن إسقاط طاغية سيطلق قوى الحرية، فهو سيطلق القوى النائمة تحته”. وأربعة بلدان عربية على الأقل خسرت سيادتها لمصلحة جيوش وميليشيات خارجية تقاتل على أرضها. وكل “الحرب الكونية” على “داعش” لم تنجح في القضاء عليه، وإن أسقطت “دولة الخلافة” الداعشية جغرافياً في العراق وسوريا. والمسار الانحداري مستمر.