إسماعيل جمال
تعيش تركيا في الأشهر الأخيرة حالة غير مسبوقة من الانشقاقات في الأحزاب السياسية الكبرى في البلاد وسط تشكيل غزير لأحزاب سياسية جديدة تعيد رسم المشهد السياسي الداخلي في البلاد وتجعل من التحالفات سمة جديدة للتركيبة السياسية التركية بعدما ساد لسنوات طويلة تفرد حزب العدالة والتنمية بالحكم بمفرده.
وعلى الرغم من أن الانشقاقات وتشكيل أحزاب سياسية جديدة بتوجهات فكرية وسياسية مختلفة يعبر عن حالة ديمقراطية طبيعية، إلا أنها تنذر بأزمة حقيقية تواجه الأحزاب والحياة السياسية في البلاد وذلك لما يمثله ذلك من تشتيت لأصوات الناخبين وتعقيد أكبر للتركيبات البرلمانية المقبلة.
وعلى الرغم من أن تحول البلاد من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي أبعد شبح الحكومات الائتلافية التي كانت تنتج عن تشتت أصوات الناخبين لأحزاب سياسية مختلفة وما نتج عنه من انعدام الاستقرار السياسي والاقتصادي في البلاد، إلا أن انعدام قدرة حزب سياسي واحد أو حتى حزبين فقط على تأمين الأصوات اللازمة لانتخاب الرئيس في الانتخابات المقبلة، يتوقع أن يولد حالة مشابهة من حيث اضطرار الرئيس لتشكيل تحالف مما لا يقل عن ثلاثة أحزاب سياسية من أجل الفوز وتشكيل حكومة.
ومنذ سنوات، لم يعد حزب العدالة والتنمية في الحكم بمفرده، وإنما بتحالف أساسي مع حزب الحركة القومية وعدد من الأحزاب الصغيرة الأخرى، في المقابل، فإن المعارضة شكلت تحالفاً آخراً وهو الذي تمكنت من خلاله الفوز ببعض البلديات الكبرى في البلاد بالانتخابات البلدية الأخيرة، وذلك قبيل الانشقاقات الأخيرة التي عصفت بعظم الأحزاب.
وعقب هذه الانشقاقات، يتوقع أن تتراجع حصة الأحزاب الكبرى، ليذهب جانب من أصواتها إلى الأحزاب الجديدة وهو ما سيؤدي بطبيعة الحال إلى حاجة تحالفي الموالاة والمعارضة إلى ضم أحزاب جديدة إلى تحالفاتهم، كما يتوقع أن يظهر تحالف سياسي ثالث جديد يتشكل من عدد من الأحزاب لا سيما الجديدة منها، وهو ما سيجعل من التركيبة السياسية في البلاد أكثر تعقيداً من السابق.
تتشكيل غزير لأحزاب سياسية جديدة يعيد رسم المشهد السياسي في البلاد ويجعل من التحالفات سمة جديدة للتركيبة السياسية التركية بعدما ساد لسنوات طويلة تفرد حزب العدالة والتنمية بالحكم بمفرده
وفي أحدث الانشقاقات، أعلن النائب عن حزب الجيد “أيي بارتي” أميت أوزداغ استقالته من الحزب، مؤكداً أنه بصدد تشكيل حزب سياسي جديد، حيث هاجم قيادة الحزب الحالية، حيث يتوقع أن يتبع ذلك استقالة نواب آخرين من الحزب وربما من أحزاب أخرى للانضمام إلى الحزب الذي ينوي “أوزداغ” تشكيله قريباً.
وسبق ذلك بأسابيع قليلة، إعلان محرم إنجي القيادي البارز في حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة التركية استقالته من الحزب، قبل أن يعلن 4 نواب عن الحزب في البرلمان استقالتهم، وسط توقعات بمزيد من الاستقالات استعداداً للانضمام للحزب الجديد الذي ينوي إنجي تشكيله قريباً.
وخلال العام الماضي، أعلن القيادي البارز في حزب الشعب الجمهوري مصطفى ساري غول الانشقاق وتشكيل حزب جديد باسم “حزب التغيير التركي”، كما انشق القيادي بالحزب أوزتورك يلماز مشكلاً حزبا جديداً باسم “حزب التجديد”، وهو ما أدى إلى انخفاض لافت في عدد نواب حزب الشعب الجمهوري في البرلمان.
هذا الحراك الكبير داخل أطر حزب الشعب الجمهوري، سبقه حراك أكبر داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي انشق عنه عدد ليس قليل من القيادات التاريخية الكبيرة، حيث انشق رئيس الوزراء السابق احمد داود أوغلو مشكلاً “حزب المستقبل”، قبل أن ينشق وزير الاقتصاد السابق علي باباجان مشكلاً “حزب التقدم والديمقراطية”، وسط ابتعاد للرئيس السابق عبد الله غول وعدد من القيادات عن حزب، وتكهنات بإمكانيات انضمام الأحزاب الجديدة المنشقة من رحم العدالة والتنمية إلى تحالف المعارضة الانتخابي أو تشكيل تحالف انتخابي ثالث.
وسبق ذلك أيضاً، الانشقاق الذي عصف بحزب الحركة القومية حليف أردوغان في السلطة، حيث انشقت نهاية عام 2017 القيادية البارزة ميرال أقشنار مشكلة “حزب الجيد” الذي نجح في دخول البرلمان والتحالف مع المعارضة التركية، وحديثاً توجد تكهنات حول إمكانية حصول حراك داخل حزب الجيد الذي قد يشهد هو الآخر انشقاقاً جديداً.
ورغم أهمية كافة الانشقاقات السابقة، إلا أن الحراك المتصاعد داخل أروقة حزب الشعوب الديمقراطي -الكردي- يعتبر الأبرز في هذه الفترة، حيث تدور تكهنات حول إمكانية حصول انشقاق كبير داخل أروقة الحزب بسبب الاتهامات له بالتعاون مع “بي كا كا”، وهو الانشقاق الذي قد يمهد الطريق أمام الحكومة لإغلاق شق الحزب الأصلي، حيث أن أي انشقاق داخل البيت الكردي -الشعوب الديموقراطي- سيعزز رواية الحكومة بأن أجنحة بالحزب تقدم الدعم فعلياً لتنظيم بي كا كا.
ومن شأن أي انشقاق أو إغلاق لشق من الحزب أن يؤدي لأكبر تغيير في التركيبة السياسية في البلاد، حيث كانت أصوات الأكراد في الانتخابات المختلفة في السنوات الأخيرة هي المتغير الأهم والحاسم، ومن شأن تفكك حزب الشعوب الديمقراطي الكردي وارتباك دعمه لتكتل المعارضة أن يؤدي إلى تسهيل مهمة أردوغان في حسم أي انتخابات مقبلة.
وبشكل عام، فإن هذه الانشقاقات وما نتج وسينتج عنها من أحزاب جديدة سيفرض بلا شك على التكتلات الكبرى إعادة حساباتها وتكتلاتها الانتخابية كما يتوقع بقوة أن تفرز تكتل انتخابي ثالث بعيداً عن تكتلي الموالاة الذي يضم العدالة والتنمية والحركة القومية، وتكتل المعارضة المدعوم من الشعب الجمهوري و”الجيد” والشعوب الديمقراطي، ليعاد رسم الخريطة الحزبية والسياسية في البلاد من جديد، وهو أمر يجعل من تكهن نتيجة الانتخابات المقبلة أمراً معقداً لحين اكتمال المشهد السياسي الجديد في البلاد.