بسام ناصر
لا تنفك الخلافات المذهبية والعقائدية تعصف بوحدة أتباع الاتجاهات الدينية الإسلامية المختلفة، فبدل أن يكون الدين جامعا وموحدا ومؤلفا لقلوب أتباعه من مختلف الاتجاهات، أضحى في وجدان وممارسات كثير منها قديما وحديثا سببا للاختلاف والافتراق والتنابذ بين أتباع الدين الواحد؟
ما الذي حدث بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام حتى بدأت سوسة الخلافات تعصف بوحدة الجيل الأول في تجلياتها السياسية، مرورا بجيل التابعين إلى أن تفرقت الأمة إلى مذاهب واتجاهات عقدية متنافرة، اعتقد كل اتجاه منها أنه يمثل الدين الحق الذي يجب اتباعه، وأن أتباع الاتجاهات الأخرى تلبسوا بالضلال والانحراف عن منهج الدين القويم؟
وخلافا لما يدعو إليه بعض المصلحين من إبقاء خلافات الاتجاهات الإسلامية العقائدية في سياقاتها التاريخية، وأطرها الزمانية، فإن أتباع تلك الاتجاهات، وما يمثله بعضهم من امتداد لها في واقعنا المعاصر، يكثفون جهودهم لإحياء تلك الخلافات وبث الروح فيها من جديد، وهم في ذلك كله يستمدون ذخيرتهم في مساجلاتهم العقائدية الساخنة من كتب المتقدمين، ويقتاتون عليها وفق باحثين في الفكر الإسلامي.
ويشير الأكاديمي السعودي، المتخصص في العلوم الشرعية، الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي إلى أن “اختلاف التضاد هو ما حصل من الفرق الضالة بسبب الأهواء والسياسة والمصالح والفهم الخاطىء والشبه والتقليد والجهل بالنصوص، وهذا هو الخلاف الذي حذر منه القرآن والسنة في أدلة كثيرة معروفة”.
وأضاف: “والدافع لحصوله أمران، الأول: كسبي بسبب الناس أنفسهم، ومداره على ثلاثة أدواء (الجهل والظلم والعجلة)، والثاني قدري متعلق بمشيئة الله، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستفترق وأرشدنا حينذاك إلى لزوم الجماعة وهم أهل الحق الذين يسيرون في منهجهم على ما كان عليه هو وأصحابه”.
وتابع: “أما النوع الثاني فهو اختلاف تنوعي كما هو بين المذاهب الفقهية في فروع المسائل، وقضايا الأحكام وهذه لا توجب افتراقا ولا تدابرا، ومن حيث الأصل هي جائزة كما في حديث “لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة”، وإن كان يدخلها الذم من باب آخر ألا وهو التعصب المذهبي، والتشديد في النكير على المخالف”.
وأوضح أن “الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة أو بغضاء، ولكل مجتهد أجره، ولكن حظوظ النفوس وقلة الإنصاف والتعصب للمشائخ والمذاهب هي التي توجد التنابذ والتباغض والتدابر”.
وعن إمكانية التوصل لفهم موحد للدين يجتمع عليه أتباعه ويتآلفون عليه، ويتعاونون على خدمته ونشره والدفاع عنه، وصف الغامدي ذلك بـ”أمنية كل مخلص” مستبعدا إمكانية وقوعه خاصة مع الطوائف والفرق (الأهوائية) وفق عبارته.
وأردف: “من الممكن حدوث ذلك بين أصحاب المذاهب الفقهية، لا سيما إذا التزموا بجملة قواعد قد تفضي إلى توحدهم كاتفاقهم على مبدأ شمولية الإسلام، فهو نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا.. وبالاتفاق على أن المرجعية هي القرآن والسنة التي يجب أن تكون مرجعا لكل مسلم في تعرف أحكام الإسلام، إضافة إلى إحياء فقه التزكية، فللإيمان الحي والعبادة الصحيحة والمجاهدة نور وحلاوة يقذفها الله في قلب من يشاء من عباده”.
من جهته قال أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، الدكتور أحمد المحمدي “الخلاف سنة كونية وهو أحد الإفرازات الطبيعية في الحياة، حيث يختلف الناس في طبائعهم وأمزجتهم، لعدة عوامل منها البيئة والعادات والشدة والرخاوة والقرب من الدليل والبعد عنه، والأخذ بظاهر النص أو بمقصده، وعليه فمن المستحيل جمع الناس على رأي واحد، وقول واحد، ومزاج واحد، وتفكير واحد”.
وأردف: “وليس هذا مراد الإسلام، وما قصة بني قريظة عنا ببعيدة، وعليه فليس المراد جمع الناس على قول واحد بل المطلوب تعلم وإتقان فن إدارة الخلاف، مع ضرورة توضيح أي الخلاف هو المقصود إذ ينقسم الخلاف إلى قسمين: مذموم وهو القول الصادر عن اجتهاد غير مأذون فيه شرعا”.
وردا على سؤال “عربي21” حول توضيح المقصود بالاجتهاد غير المأذون فيه شرعا ذكر المحمدي من صور ذلك أن يكون الناظر في المسألة الشرعية ليس أهلا للاجتهاد، وأن يكون الناظر مجتهدا لكنه قصّر في اجتهاده في تلك المسألة بعينها، وأن يكون اجتهاده وخلافه في مسألة عليها دليل قطعي الدلالة، وأن يكون دافع الناظر للاختلاف اتباع الهوى، وأن يترتب على تلك المسألة عدواة وبغضاء بين المختلفين”.
ووصف هذا الخلاف بأنه “أصل كل داء، إذ المتحدث به لا قواعد تحكمه ولا أصول تسنده ولا منهجية يصلح معها أن تتعامل معه، أما الآخر وهو الأكثر والأشهر فهو الخلاف السائغ وهو ما كان صادرا عن اجتهادا مأذون فيه شرعا، وهذا الخلاف إن وضعنا له ضوابط حاكمة سهل علينا التعايش، ووسعنا ما وسع سلف هذه الأمة”.
وطبقا للمحمدي فإن من تلك الضوابط الحاكمة أنه “لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وليس من لوازم وجود الخلاف السائغ في المسألة الفقهية؛ أن يكون الخلاف حجة من حجج الإباحة في الفعل أو الترك، كما ينبغي أن تناقش الأقوال وأدلتها بموضوعية وإنصاف من أجل الوصول إلى الحق، ولا يكتفى بالقول: إن المسألة خلافية، وليذهب كل شخص إلى حال سبيله، وكذلك فإن من حق الناظر في المسألة الخلافية أن يضعف القول المخالف لقوله بشرط أن يشفع ذلك بالأدلة والبراهية على صحة قوله..”.
وشدد على ضرورة أن يتم ذلك كله “في إطار كلية جامعة: مفادها أنه لا يجوز الحط من أقدار العلماء، ولا تنقصهم بسبب مخالفتهم في مسألة خلافية، يكون الخلاف فيها سائغا، كما لا يجوز جعل المسائل التي يكون الخلاف فيها سائغا مادة للنزاع والهجر والولاء والبراء”.
وفي ذات الإطار رأى الداعية والباحث الأردني، المقيم في أمريكا، محمد الحايك أن “الخلاف بكل صورة العلمية والفكرية الفروعية وما فوقها إنما يحدث لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية معروفة، وهي قائمة وستظل كذلك لأنها من طبيعة البشر وضرورة اجتماعهم، وتضارب مصالحهم واختلاف أفهامهم”.
وأكدّ في حديثه على “ما امتاز به العهد النبوي من اجتماع الكلمة ووحدة الصف، وحسم الخلاف المذموم كي لا يؤدي إلى التنازع والفرقة” لافتا إلى أن “هذه المزية انقطعت بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، لكن هديه وما جاء به من الوحي المنزل المتضمن لجملة من القواعد والأصول الواضحة والصريحة ما زال حاضرا، وهو ما يعنينا، ولا يزال بإمكانه معالجة هذا الخلاف بمستوياته المختلفة بما يحول دون تمزيق الأمة”.
وركز الحايك في مقاربته على أن “الخطوة الأولى في معالجة هذا الأمر تتمثل في ضرورة تطبيع الاختلاف والتكيف معه، إذ لا مجال لرفعه بين أتباع هذا الدين، وأن الدعوة لرؤى موحدة أو فهم موحد ونحو ذلك هو نوع من اليوتوبيا ودعوة غير عملية، فما هو عملي بل ما يجب شرعا يتلخص في (ميثاق شرف) بين الكتاب والمدونين والدعاة وعموم العاملين.. يؤكد على المحاور الثلاثة: حق الاختلاف، وأخلاقياته وآدابه، وأخيرا علم إدارة الخلاف”.
وتوقع في ختام كلامه أن “يسهم هذا الميثاق لو صدقت النوايا في ضبط الاختلاف بحيث لا يتحول إلى استقطاب حاد يهدد وحدة الأمة، ويمزق الأخوة الإسلامية وهو ما لا يرضاه الله ولا رسوله ولا مؤمن.. كما يرجى من هذا الميثاق لو تهيأت له أسباب الانتشار والقبول أن يسهم كذلك في توظيف الاختلاف بشكل إيجابي يعزز التنوع والتعدد في إطار الدين الواحد، والولاء لكل مؤمن في ظل الأخوة الإيمانية الجامعة”.