اغتيال كينيدي سرع ظهور “كيو أنون” ومنكري كورونا

حريّ بنا أن نطوي اليوم صفحة نمط التفكير نفسه الذي يغذي نظريات المؤامرة عن تلك الجريمة والقصص المسممة التي ينسجها خيال اليمين المتطرف

جيمس مور كاتب

تعد مشاهدة فيلم “جي أف كيه” للمخرج الأميركي أوليفر ستون في عصر “كيو أنون” وإنكار وجود فيروس كورونا ونظريات المؤامرة المناهضة للقاح، تجربة مختلفة تماماً عن مشاهدة الفيلم عندما وصل إلى دور السينما قبل ثلاثة عقود.

حينما صدر الفيلم، أثار جدلاً بسبب نزعته المؤامراتية ومعالجته الحرة للتاريخ بهدف تعزيز روايته وادعائه بأنّ اغتيال الرئيس جون إف كينيدي في دالاس عام 1963، تمخض عن مؤامرة واسعة النطاق.

في المقابل، جاءت الردود النقدية آنذاك في غالبها إيجابية. إذ حاز  (الفيلم) تقييم 88 في المئة على موقع “روتن تومايتوز” (موقع تصنيف الأفلام والمسلسلات) و72 في المئة على موقع ” ميتاكريتك”، وكانت “مؤاتية بشكل عام”. كذلك ظهر الفيلم نفسه في نهاية ذلك العام، على أهم 10 قوائم لعدد من النقاد، ورُشّح إلى ثماني جوائز أوسكار وفاز باثنتين (في التصوير السينمائي وتحرير الأفلام).

علاوة على ذلك، جاءت عائدات شباك التذاكر جيدة، إذ حصد الفيلم ما مجموعه 205 ملايين دولار أميركي ( حوالي 148 مليون جنيه إسترليني) ما جعله سادس أكبر فيلم في 1991، على الرغم من طول مدته التي بلغت ثلاث ساعات.

لقد ساهمتُ في مجموع تلك العوائد عندما صدر الفيلم. وبينما بدا مبالغاً ادعاؤُه أن المؤامرة وصلت إلى نائب الرئيس ليندون بي جونسون، أصاب تماماً في انتقاده “لجنة وارن” التي أسسها جونسون للتحقيق في الاغتيال، وإصرارُه [الفيلم] على أن [المتهم] لي هارفي أوزوالد لا يمكن أن يكون قد تصرف بمفرده.

وذلك شأن غالبية عظمى من الأميركيين، إذ تُظهر استطلاعات الرأي أنه حظي (الفيلم) باهتمام مختلف الأعراق والأجناس والمشارب السياسية، اقتنعتُ بفكرة أنه لابد من ضلوع أكثر من مجرد مطلق نار واحد، كان مضطرباً ومختلاً واستغل سهولة الحصول على الأسلحة النارية في بلاده، وكذلك تدريبه العسكري، كي يكتب اسمه في التاريخ.

لقد وَلَّدَتْ تلك النظرية مئات الكتب وثقافة شعبية واسعة، وشجّعتْ بروز عدد لا يحصى من العروض والأفلام حول السفر عبر الزمن أو العوالم الموازية أو الغرابة العامة التي تطرقت للحدث وأعادت النظر فيه، وكان آخرها مسلسل “أكاديمية المظلة” Umbrella Academy على منصة “نتفليكس”.

لقد أصبح اغتيال كينيدي نظرية مؤامرة محترمة تقريباً، بعدماعزّزها الفيلم.

لكنها في الحقيقة ليست كذلك. وتوضح نظريات المؤامرات الخبيثة اليوم أن التفكير الذي تشجع عليه، يمثل مشكلة. في ظاهر الأمر، قد لا يبدو أن هناك صلة كبيرة بين نظرية المؤامرة بشأن مقتل كينيدي ونظرية “كيو آنون” [إحدى نظريات المؤامرة الشائعة في أوساط اليمين الأميركي المتطرّف].

إذ تعتبر نظرية المؤامرة [الخاصة بـ اغتيال كينيدي] إحدى النظريات عن مزيج من الأشخاص الذين ربما كان لديهم ما يُبرر مقتل كينيدي، كالعصابة والقطاع الصناعي العسكري، والكوبيين المناهضين لكاسترو، و”وكالة الاستخبارات المركزية”، و”مكتب التحقيقات الفيدرالي” تحت قيادة إدغار هوفر، والشيوعيين، والكوبيين الموالين لكاسترو، والروس، وليندون جونسون وفقاً لفيلم أوليفر ستون، وكذلك والد السيناتور الجمهوري تيد كروز بحسب ادعاء دونالد ترمب، وقد قدّموا لي هارفي أوزوالد كبش فداء، بينما اختبأ رجلهم خلف التلة العشبية الشهيرة عندما فعل فعلته، ولاذ بالفرار في خضم الفوضى التي أعقبت ذلك.

في سياق متصل، تدّعي نظرية أخرى أنّ ترمب انخرط في حرب سرية ضد عصبة من “عبدة الشيطان” يملكون ميولاً جنسية تشتهي الأطفال، وتضم شخصيات بارزة في الحزب الديمقراطي يحميها عملاء “الدولة العميقة”.

من السهل رؤية الاختلالات في النظرية الأولى بمجرد النظر إلى طول تلك القائمة، ومن حقيقة أن القضية، في جوهرها، لا تستند كثيراً إلا إلى الشعور بأن رجلاً واحداً لا يمكنه ببساطة أن يغيّر مجرى التاريخ بمفرده، وفق ما فعل أوزوالد.

في المقابل، تبدو [نظرية المؤامرة بشأن اغتيال كينيدي] منطقية إلى حد ما، بالمقارنة بجنون النظرية الأخرى التي هي بمثابة رواية خيالية مسممة يُروّج لها عبر الإنترنت اليمين المتطرف، ولا تملك أدنى أساس في الواقع. وينطبق الشيء نفسه على إنكار فيروس “كوفيد- 19” والمزاعم الهستيرية من الغوغاء المناهضين للقاح.

مع ذلك، ليس مختلفاً تماماً عنها ذلك النوع من التفكير الذي يغذي نظرية كينيدي حتى الآن، بعد الإفراج عن الوثائق الحكومية، ومراجعة خبراء المقذوفات وعلماء الفيزياء الأدلة واستنتاجهم أن الرصاصة القاتلة جاءت من مبنى مستودع الكتب في تكساس حيث جهّز أوزوالد نفسه.

يكفي تخيل قوى ظلامية وغامضة من مجرمين يتواطأون مع عملاء الدولة (العميقة) لفعل أشياء سيئة، كي تنتشر نظرية ما كالنار في الهشيم. إذ يتطلب كل ما ذكرته [من مؤامرات] من المرء الدخول في نسق تفكيري من اللامنطق، ولا يبقى بعد ذلك سوى مسألة عمق المضي فيه.

من جهة أخرى، لا يعني ذلك ضرورة التخلي عن كل الشكوك المتعلقة بالحكومة والسياسيين والمجرمين (وهم أحياناً الشيء نفسه) والشركات وما شابه ذلك.

بعد سنوات قليلة من مقتل كينيدي، ظهرت مؤامرة حقيقية وصلت حتى الرئيس آنذاك، وليس نائب الرئيس، وقد اتّخذت شكل الرئيس ريتشارد نيكسون. ورمت إلى اقتحام مكاتب “اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي” في مبنى “ووترغيت” والتنصت عليها.

وبفضل تقارير دؤوبة من الصحافيَّين بوب ودوورد وكارل برنستين من صحيفة “واشنطن بوست”، جرى التحقق من المؤامرة وإثباتها، ودانت محكمة قضائية بعض المتورطين فيها من قِبل محكمة قضائية.

إذن، هناك حكومات وشركات ترتكب أعمالاً سيئة ثم تحاول إخفاءها. وقد ثبت نجاح محاولات الصحافيين والمحققّين والمحامين والسياسيين، في فضحها. لذا، تستحق المحاولات المستقبلية من هذا النوع أن تنال دعمنا، لأن الديمقراطية تعتمد عليها.

في المقابل، تعاني ثقافة الإعلام التي نعيشها حالياً جملة مشاكل منها صعوبة تمييز عامة الناس بين فضيحة حقيقية وكلام فارغ يُختَلق لمصلحة أغراض سياسية.

ولا يؤدي ذلك سوى إلى تعزيز تجاهل خرافات التاريخ، إلا إذا استطاع أحد أن يثبت بشكل قاطع أنها أكثر من ذلك.

على الرغم من كل الجهود التي بُذلت أثناء التحقيق في اغتيال كينيدي، لم يجد أحد دليلاً قاطعاً غير الذي يفيد بأن أوزوالد هو من قتل كينيدي. وينطوي ذلك الأمر على دلالة كبيرة.

استطراداً، فإنّ إعادة مشاهدة فيلم “جي إف كيه” الذي يحمل قدراً كبيراً من الكراهية تجاه مثليي الجنس، يوضح شيئاً واحداً يتمثل في ضرورة دفن نظريات المؤامرة التي يطرحها، إلى الأبد.

لقد فعلها لي هارفي أوزوالد من تلقاء نفسه. وبحسب جيرالد بوسنر في كتابه المستفيض، وهو جزء من مساع قليلة حاولت كشف زيف نظرية المؤامرة، فـ”القضية أغلقت”.

© The Independent