التداخل بينهما له وجود تاريخي يدعم المصالح المشتركة القائمة
مصطفى الفقي كاتب وباحث
سألني المحاور في أحد اللقاءات التلفزيونية أخيراً: هل يكون من صالح وجهة النظر المصرية في موضوع سد النهضة أن تلجأ إلى جامعة الدول العربية لمناصرتها في مواجهة التعنت الإثيوبي؟ فكان ردي مباشرة: إنني لا أنصح بذلك لأن فيه تكريس للمواجهة المصطنعة بين الأفارقة والعرب، إذ إنه لا يجب أن يغيب عن الأذهان أن ثلثي العرب أفارقة أيضاً ويحتلون دول الساحل الشمالي لأفريقيا المطلة على البحر الأبيض، بالتالي فإنه من العبث الحديث عن التفرقة أو مجرد التمييز بين أفارقة وعرب في هذا السياق.
وأردفت: إن محاولة إقحام قضية أفريقية على الطرف العربي قد لا تكون مجدية أو مفيدة، بل على العكس قد يكون لها مردود سلبي، خصوصاً في ظل الميراث التاريخي المتراكم من الحساسيات في نقاط الالتقاء بين الأفارقة والعرب. فهناك اتهامات ظالمة حملتها الأساطير التاريخية حول دور “النخاسين” العرب في تهريب العبيد من أفريقيا، كما كانوا يسمّونه في عصور الظلام، إلى العالم الجديد بل الولايات المتحدة الأميركية تحديداً، وما زال أحد البرلمانات الأفريقية يحتفظ في مدخله بصورة “نخاس” يرتدي الزي العربي ويسحب مجموعة من الأفارقة في اتجاه السفينة الراسية التي تحملهم في عرض المحيط إلى العالم الجديد، وإذا مرض أحدهم يتم إلقاؤه في قاع البحر عبر الطريق إلى الولايات المتحدة، تحضيراً لعبودية من نوع جديد في أعمال المزارع والمصانع التي يحتاج إليها الإنسان الأبيض وهو يكتسح القارة الجديدة بعد القضاء على سكانها الأصليين من الهنود الحمر. ولا شك أن اللجوء إلى جامعة الدول العربية في مسألة سد النهضة مثلاً يمكن أن يستدعي شعوراً مؤلماً ينكأ جراحاً ويفتح باباً لا داعي له. ولعلنا نتذكر أن الرئيس الأفريقي الراحل مابوتو قال ذات يوم قبل قيام الاتحاد الأفريقي: إن منظمة الوحدة الأفريقية لم تعُد ساحة مناسبة للدفاع عن قضايا القارة لأنها مشغولة بمحاولة العرب الأفارقة إقحام الصراع العربي الإسرائيلي على أجندة المنظمة الأفريقية بشكل ملحوظ، لذلك فإنني ممن يظنون أن العلاقات العربية الأفريقية تحتاج إلى اهتمام أكثر من الجانب العربي، ولقد لفت نظري أن العاهل السعودي عيّن وزيراً في السنوات الأخيرة، مسؤولاً عن ملف العلاقات السعودية مع أفريقيا، وأعني به أحمد القطان الذي كان سفيرا للسعودية في مصر ومندوباً دائماً لدى الجامعة العربية في القاهرة، وقد يكون من المناسب أن أتطرق إلى النقاط التالية:
أولاً: إن التهافت على الدول الأفريقية وتكالب القوى الكبرى عليها، يدعونا إلى ضرورة الاهتمام بها والحرص عليها، فالأميركيون والصينيون والفرنسيون والهنود والأتراك وغيرهم من دول العالم، منغمسون في البحث عن ثروات أفريقيا وكيفية استغلالها. لذلك، فإن الأفارقة يشعرون دائماً أن الأجنبي يأتيهم عند حاجته إليهم وليس عندما يحتاجون إليه، فالقارة تعاني من الفقر وتفشي الأمراض وضعف البنية التحتية ونقص الخدمات، ومع ذلك فإنها لا تزال صامدة تتعامل مع العالم كله بانفتاح مع قدرة زائدة على استقبال الأجنبي وإكرام وفادته، ولا بد من أن أعترف هنا أنه قد ظهرت في عدد كبير من دول القارة كفاءات راقية في مجالات العلوم والآداب والفنون حتى سعت جائزة نوبل إليهم. إنها أفريقيا، قارة النضال الصلب من أجل التحرر الوطني، قارة مانديلا العظيم، وقد كان لدى الأفارقة إحساس دائم بالدونية التي لا مبرر لها والمعاملة الاستعلائية من الآخر التي تذكّرهم بعصور الغطرسة الاستعمارية.
ثانياً: إن نقاط التماس بين أفريقيا والعالم العربي، خصوصاً في شرق القارة معروفة لدى الجميع، ففي تنزانيا وكينيا فضلاً عن إريتريا وإثيوبيا والصومال وجيبوتي وجزر القمر وغيرها من نقاط الالتقاء بين الساحل الأفريقي وبحر العرب أصول عربية معروفة اختلطت لديها الدماء الأفريقية بالمشاعر العربية، فضلاً عن دور الإسلام في القارة، كما أن البحر الأحمر برمّته يعتبر خليجاً مستطيلاً يفصل بين أرض عربية وأخرى أفريقية، لذلك فإن أمن البحر الأحمر هو مسؤولية مشتركة بينهما معاً وأي منظمة إقليمية تتصل بأمن ذلك البحر ومستقبله لا بد من أن تضع في حسابها مصالحهما على حد سواء.
ثالثاً: لقد بدأت الاستثمارات العربية تتدفق على عدد من الدول الأفريقية وتلعب دوراً في ربط تلك الدول بعلاقات وثيقة مع أخرى عربية، خصوصاً في منطقة الخليج، إذ إن هناك استصلاحاً للأراضي لصالح دول خليجية في إثيوبيا والسودان وغيرهما من الدول التي تملك مساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة. فالدول العربية التي لم تعرف الأنهار بحكم مناخها الصحراوي وطبيعتها الجافة، استطاعت أن تحصل على مياه الأنهار الأفريقية من خلال الزراعات المشتركة على أراضي دول أفريقية صديقة، وبذلك تعزز نمط جديد من العلاقات المتوازية بين دول أفريقية وعربية في العقود الأخيرة.
رابعاً: يلعب السودان، شماله وجنوبه، دور همزة الوصل بين العروبة في جانب والأفريقية في جانب آخر، ولقد كان السودان ولا يزال وسيظل مفتاحاً مهماً لوسط القارة، فضلاً عن شرقها وغير بعيد من غربها، لذلك فإن أهمية الدور السوداني في توثيق العلاقات الأفريقية العربية هو دور محوري تراهن عليه كل القوى الساعية إلى تجسير الهوة وتوثيق العلاقة بين الشعوب العربية وشعوب القارة السمراء، وستظل أصداء قيادات عربية لعبت دوراً أفريقياً، على الرغم من التباين والاختلاف بينها، بدءًا من عبد الناصر وصولاً إلى القذافي حتى كان المردود إيجابياً في كثير من الأحيان، مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الحالة المصرية ورصيدها في أفريقيا بخلاف الحالة الليبية ورصيدها الذي تراجع في القارة الأم نتيجة أحداث ما سمّي بـ”الربيع العربي” وما تلاها.
خامساً: يجب أن نعترف أن عبد الناصر قد فطن مبكراً إلى ضرورة توثيق العلاقات العربية الأفريقية ودعا إلى قمم مشتركة منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، إذ استضاف في القاهرة مؤتمرات لها أهميتها جمعت بين القادة العرب والأفارقة عندما كان الإمبراطور هيلا سيلاسي وليوبولد سنجور وجوليوس نيريري وأحمد سيكوتوري وكوامي نكروما هم رموز القارة الأفريقية حينذاك، بينما كان عبد الناصر هو الزعامة العربية الأفريقية في الوقت ذاته، وقد اعتمد على الكاريزما التي تميّز بها عربياً أمام الأفارقة والدور الأفريقي الذي لعبه أمام العرب على الجانب الآخر، فاتسمت تلك الفترة بتعاون وثيق وحوار بنّاء بين القارة الأفريقية والعالم العربي، ولا بد من أن نعترف أيضاً أن دول الشمال الأفريقي، خصوصاً المغرب والجزائر قد مارست دوراً إيجابياً في توثيق العلاقات بين العرب ودول غرب القارة، اعتماداً على قاعدة إسلامية وركيزة من الإخاء الأفريقي العربي.
هذه لمحات من أساليب توثيق عرى العلاقة الوثيقة بين العرب والأفارقة في محاولة لتخطّي الحواجز التاريخية والقفز على الماضي من أجل مستقبل أفضل، خصوصاً أن التداخل بين العرب والأفارقة له وجود تاريخي في مراكز الانتقال بينهما والمصالح المشتركة القائمة، فضلاً عن المخاطر المعروفة التي تعرّضت لها القارة الأفريقية عبر القرون، ولا ينسى الأفارقة أن العرب كانوا جميعاً مناصرين لإسقاط سياسة “الأبرتايد”، أي الفصل العنصري، وأنهم وقفوا إلى جانب أشقائهم الأفارقة ضد محاولات استمرار النظر إلى الشعوب الأفريقية على أنها أدنى من غيرها، لأن ذلك غير صحيح بالمرة، بل قد يكون العكس هو الصحيح بالفعل!