أعاد جلالة الملك عبدالله الثاني التركيز على أهمية الاصلاح السياسي من خلال مقابلة مع وكالة الانباء الاردنية. وبعد تجاهل أغلب اركان الحكم في الأردن هذا الموضوع، بل والتقليل من أهميته، جاءت مقابلة جلالة الملك لتعيد بث الروح في امكانية أن تستجيب السلطة التنفيذية لهذه الرغبة في تطوير الحياة السياسية في البلاد.
إلا أن إشكالية الاصلاح السياسي في الاردن تكمن في التفاصيل. فقد برع من لا يريد للإصلاح السياسي أن يتقدم في البلاد بإلتقاط اشارات جلالة الملك، ثم تحويلها الى سياسات وقوانين يحمل ظاهرها عنوان الاصلاح السياسي فيما ينجح باطنها في عرقلة أي توجه اصلاحي جاد. وهو ما حمل جلالة الملك الى القول “إن هدفنا منذ سنوات طويلة هو الوصول الى حياة حزبية برامجية راسخة، تُمثّل فكر الاردنيين وانتماءاتهم”، في اشارة ضمنية إلى عدم رضاه عن وتيرة مسيرة الاصلاح السياسي في البلاد.
وحتى لا يتكرر هذا الأسلوب في وضع العصى في الدواليب وافشال المحاولات الاصلاحية المؤسسية العديدة التي قامت في البلاد بتوجيه من جلالة الملك عن طريق تحريف مقاصده، لا بد من اقران كلام جلالته بالأوراق النقاشية السبع التي اصدرها في العقد المنصرم، والتي تشكل رؤية اصلاحية لا مجال للشك فيها لإعداد الاردن لدولة حداثية تعددية في مئويته الثانية. فمن شأن تلازم كلام الملك مع ما جاء في الاوراق النقاشية، قطع الطريق أمام كافة التأويلات السابقة التي أدت إلى الحياد عن طريق الإصلاح الذي رسمه جلالة الملك.
حين يدعو جلالة الملك الى “النظر بالقوانين الناظمة للحياة السياسية، كقانون الانتخاب وقانون الاحزاب وقانون الادارة المحلية” فمن الواضح عدم رضاه عن القوانين الحالية. ولكن كيف نستشف الاتجاه الذي يرغب جلالته للدولة الاردنية السير به من خلال تطوير هذه القوانين؟ يكمن الجواب في الاوراق النقاشية.
منذ الورقة النقاشية الثانية، يتكلم جلالة الملك عن الحكومات البرلمانية، وتطوير نظام من الفصل والتوازن بين السلطات الثلاث بحيث لا تتغول سلطة على أخرى، وتشرح الورقة الثانية بأن “الاصلاح الديمقراطي لا يختزل بمجرد تعديل للقوانين والانظمة، انما يتطلب تطويراً مستمراً للنهج الذي يحكم العلاقة بين المواطنين والجهاز الحكومي”؛ و تعرب عن التزام جلالة الملك “برعاية و تعزيز مبدأ التعددية السياسية” كما في “الانتقال الى الحكومات البرلمانية الفاعلة، بحيث نصل الى مرحلة يشكل ائتلاف الاغلبية في مجلس النواب، الحكومة”.
ليس هناك أوضح من هذا الكلام، فلا قيمة تُذكر لأي تعديل على القوانين الناظمة للحياة السياسية، الا إذا ادى الى تعظيم مشاركة الاحزاب السياسية في مجلس النواب وصولاً لتشكيل الاغلبية النيابية الحزبية التي يتحدث عنها جلالة الملك، وهي أغلبية مؤسسية تقوم على أساس تغليب المصالح الوطنية لا الفردية. فلا مجال للحكومات البرلمانية الحقة إلا من خلال التعددية السياسية والحزبية، فالتعددية السياسية من السمات الأساسية لأي نظام ديمقراطي وليس هناك من تعددية سياسية بدون تعددية حزبية.
إذن، دون الدخول في اقتراحات تفصيلية حول تطوير القوانين التي اشار اليها جلالة الملك، فإن من الواضح أن كافة التعديلات يجب أن تصب في خانة تطوير وتشجيع ورعاية المشاركة الحزبية، وليس المشاركة الفردية، واي تعديلات لا تقوم بذلك لا تنفذ رغبات جلالة الملك الواضحة.
حان الوقت لنبذ السلطة التنفيذية خوفها من الولوج بعملية اصلاح جادة تنبع من الداخل، وتهدف ليس لقدوم فئة أخرى تستفيد من امتيازات تمنح لها على حساب باقي الفئات، وانما تبني نهج جديد يقوم على أساس سيادة القانون على الجميع ومحاربة الفساد وتكبير “الكعكة” وعدالة توزيع المكتسبات على كافة الفئات.
حان الوقت للتركيز على عوائد الاصلاح بدلاً من التخوف غير المبرر من كلفته، لأن بناء المجتمعات لا يقوم على الخوف من التغيير، وانما على بناء الثقة المشتركة بين مكونات المجتمع لإحداث التغيير السلس والمتدرج والايجابي.
إن من شأن الولوج في عملية اصلاحية جادة ومتدرجة إحداث فروقات إيجابية متعددة في المجتمع الأردني أبرزها:
اولاً: اعادة بناء الثقة بين المواطن وكافة مؤسسات الدولة، وردم فجوة الثقة التي لم يعد بإمكان أحد تجاهلها، والتي لا يمكن أن يؤدي استمرارها لأثر ايجابي في المجتمع.
ثانياً: التأسيس لنظام من الفصل بين السلطات الثلاث وتحقيق التوازن بينها يؤدي إلى ترسيخ مبدأ الشفافية في تسيير مهامها ومنع التجاوزات ومحاربة الفساد بصورة منهجية.
ثالثاً: التأسيس لمجتمع تعددي يتم فيه احترام كافة الآراء السلمية وحماية الحقوق الفردية والجماعية لكافة فئات المجتمع واحترام مواطنة كل هذه المكونات وفقاً للمادة السادسة من الدستور.
رابعاً: الانتقال بيسر من المجتمع الريعي الى المجتمع الانتاجي الكفيل بحل مشكلتي البطالة وتدني نسب النمو، بما في ذلك اعادة النظر في النظم التربوية وتشريعات الاستثمار بما يؤسس لخلق فرص عمل حقيقية وتعظيم الانتاجية.
لا يقع كل ما سبق ضمن باب الاحلام او التمنيات، بل يمكن تحقيقه في غضون عقد أو عقدين من الزمن، ولكن يجب تبني ثقافة جديدة يتم التخلي فيها عن الخوف من التغيير، على أن تشمل اتفاقاً تشاركياً على التأسيس لمئوية ثانية تكون الغلبة فيها لمن يتطلع للاستفادة من فرص المستقبل، وليس لمن يتشبث بسياسات الماضي.