هذا النموذج ديالكتيكي فهو مركب جنون عظمة وشعور بالنقص ويتطلع للأعلى لكن بالنظر إلى الأسفل
أحمد الفيتوري كاتب
سيماهم على وجوههم أو كمال يُقال، هكذا ترى التنمّر، في الصور وبخاصة التلفزيونية منها، حيث يتمشهد كنمر ينفخ صدره وأوداجه، يضع قدماً على الأرض، لكن نظره في السماء، متبرماً صموتاً صلداً. تُفتح له الأبواب كأنما يقتحمها، له قصر ضخم لا يدخل إلا النزر القليل من غرفه، ولا تُفتح الكثير من أبوابه. تمظهره كديك رومي ليس له من داعٍ، كما امتلاكه قصراً لا مثيل له، لكنه التنمّر، حيث لا مصلحة ولا نفوذ، ولكن إظهار القدرة الخارقة، أن يكون نصف إله، لمّا لم يعد العصر عصر فرعون. هكذا أراد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يكون، وهكذا شاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعدما تمسكن حتى تمكن، إنهما وجهان لعملة واحدة، هما “أردوتين” أي روح واحدة في جسدين. الجسدان كما تمثال جامد لكنه قادح بفكرة أن ليس بالضرورة أن تكون هناك مصلحة ما أو داعٍ لإظهار النفوذ، وراء ما تفعل هذه الدولة أو تلك، وهذا ما يوصَم بالشطط في تأويل المفكرين والباحثين لبعض أفعال هذه الدول، التي لا تُحسب مصالحها في الشأن الداخلي، كما لا يُعد لنفوذها أهمية عند النموذج “أردوتين”. هذا النموذج ديالكتيكي فهو مركَب جنون عظمة وشعور بالنقص، وهو يتطلع للأعلى ولكن بالنظر إلى الأسفل، يبتغي ابتداع مستقبل على شاكلة الماضي، ما هو مأسور به ويتلبّس روحه. إنه سليل روح عظيمة، في تقديره، ويقتضي وجوده في أن يزيلها ليكون هو: بوتين/لينين، أردوغان/أتاتورك، جونسون/تشرشل، ماكرون/ديغول، وما في حكم ذلك، مع الأخذ في الاعتبار، الفوارق بين النموذجين الأولين والأخرين.
إذاً “أردوتين” هو نموذج العصر السبراني، لأنصاف الآلهة في القرن الحادي والعشرين، ومن هذا تتضارب أحياناً أفعال النماذج ومصالح بلدانهم، بل وحتى تسهم في خلخلة نفوذها. وهذا النموذج يمتلك قدرات عالية، في توظيف خصائص البلاد المشابهة لروحه، وغالباً إن في هوس النموذج بالعظمة ما يلبس تصرفه في الشأن الخارجي، الذي يعتمده باعتباره امتداداً للشأن الداخلي، فعنده الوسائل الناجحة تنفع في السبيلَين. وخاصيته الأبرز أنه وليد أزمة متفاقمة، إذ الشعبوية ركيزته بتنوع الظروف والمعطيات، ومن هذا فإنه نهّازٌ للفرص، متقلّب كما البصل لا قلب له، فتتماهى عنده ذاته والدولة، وعليه فإن التنمّر أصيل فيه، وفي الدولة التي يقود.
التنمر الأصيل في “أردوتين”، يدفعه إلى رد فعل مبالَغ فيه ضد المعارضة، وتسفيه الأزمات والتقليل من شأنها كما جائحة كورونا. وإذا كان كذلك، فإنه يصدر تنمره للدولة، التي تتمثل به في محيطها وفي غير محيطها، حتى أنه يجعل الدولة تتضارب مع مصالحها، فتتنافس وحلفاءها، وفي عراك معهم كأنهم بديل الخصوم. فالتنمر هنا ليس إظهاراً للقوة عند اللزوم، ولا بديلاً عن السياسة الحاسمة. وكان التنمر في ما مضى سائداً، لأن العصور تلك كانت بعنوان “أنا الدولة والدولة أنا”. هكذا نموذج “أردوتين” يعقّد مسائل بلده وعلاقاتها، كما يمنح الدول القادرة، فرصة توظيف هذا الشأن لمصلحتها وتقوية نفوذها.
الدول المتنمرة على خلاف، حتى وإن كان مشتركها قوياً، ولهذا تكون كما روسيا وتركيا، في قتال دائم بالوكالة مثلما في ليبيا وسوريا. وهي على شفا مواجهة ساخنة وفي مواجهة باردة دائمة، وإذا كانت دوافع المواجهة الدائمة، تنمرهم. وإذا كانت باردة فحسب، فمرد ذلك إلى أن الزعيمين متشابهان، في أنهما لا يذهبان بعيداً في تنمرهما، فهما ليسا جسورين، ويحسبان للأخطار ألف حساب، مثلما حدث في المواجهة عند إسقاط تركيا الطائرة الروسية، فظهر في التلفزيونات أن الحرب آتية وإذا بهما على العكس. كما نذكر عراك الديكة ما بين أردوغان وماكرون.
إن المشكل البارز في هذه المرحلة هي الدول المتنمرة، التي لا تصدّها مصلحة ولا يدفعها نفوذ، وتعيث بتنمّرها فساداً، لا يسوسه عقل بل دافعه سيكولوجي، أو أن الدولة تقول “ها أنا ذا”. في عصر المتغيّرات، حيث القادة مجرد موظفين، ولا حدود للدول، تكون السيادة في القدرة على الانفتاح، في ظل غياب مطّرد لعالم القطب الواحد وحتى تعدد الأقطاب، عالم فيه الوحدة في الانقسام. ومن هنا يبدو أن “أردوتين” يستمد وجوده، فيكون تنمّر الدول في غير عصرها.