بعثة تحقيق دولية في الصين لكن الأدلة الرسمية التي تقدم إليها قد لا تمكنها من كشف الحقيقة
كيم سنغوبتا مراسل الدفاع والأمن
غصت الشوارع والأزقة بالعائلات وأضيئت المباني باللون القرمزي وارتفعت البالونات المضيئة والمتشحة بألوان زاهية عالياً نحو السماء. ولما دقت الساعة الـ 12 بعد منتصف الليل، صدحت الهتافات والتهاليل مالئة كل الأرجاء. تلك باختصار مشاهد احتفالات ليلة رأس السنة (الصينية) الفاخرة التي تميزت بها مدينة “ووهان” عن معظم مدن العالم الضعيفة والمتخبطة في زمن كورونا.
وبهذه المناسبة، ألقى رئيس الصين خطاباً متلفزاً مفعماً بالإيجابية والأمل بالعقد الجديد، رفع فيه راية الانتصار على “كوفيد-19″، ودعا الأمة طولاً وعرضاً للالتفاف حول الحزب الشيوعي الحاكم. وبحسب شي جين بينغ، “أنا فخور جداً بوطننا العظيم وشعبنا الصامد وروحنا الوطنية الراسخة. فبالتضامن والتكاتف كتبنا معاً ملحمة تاريخية في مكافحة الجائحة”. وفي الخطاب الذي دام قرابة 12 دقيقة، لم ترد سوى جملة تعاطف وحيدة إزاء “كل المنكوبين بفيروس كورونا”.
وفي اليوم نفسه، أعلنت صحيفة “غلوبال تايمز” المتحدثة باسم الحزب الشيوعي الصيني، إنه “من ووهان إلى بكين ومن داليان إلى أورومكي، الصين توقف الانتشار الفيروسي بأقصى سرعة حرصاً على السلامة العامة. وبين الإقفالات التامة على نطاق المدن واستراتيجيات الوقاية الدقيقة، تمكنت الحكومة المركزية من محاربة الفيروس من دون عرقلة حياة الناس إلا ضمن الحد الأدنى”.
وعلى نحو مماثل، احتفت وسائط الإعلام الحكومية بالتوقعات التي ذهبت إلى أن الصين ستتفوق على الولايات المتحدة فتصبح أكبر قوة اقتصادية في العالم مع حلول 2028، أي قبل خمس سنوات مما توقعته الدراسات في وقت سابق. كيف لا واقتصاد الصين يمثل الاقتصاد الرئيس الوحيد الذي لم ينكمش في 2020، لا بل سجل نمواً بـ 2.3 في المئة. وفيما رزحتْ اقتصادات العالم تحت ثقل الإقفالات وموجات الفيروس المتكررة، وقفت الشركات الصينية على أهبة الاستعداد للاستفادة من الجمود العام.
وفي أوقات سابقة، اُتهمت الحكومة الصينية بإخفاء مصدر كورونا عن بقية العالم خلال فترة دقيقة وحرجة، وإنه بسبب هذا التأخير القاتل انتشر الفيروس خارج البلاد وحول العالم مسفراً عن تأثيرات وتداعيات وخيمة. ويزعم أيضاً أن الفيروس لم يتأت من أسواق السمك في “ووهان” وفق ما اعتقد في البداية، إنما تسرب عن طريق الخطأ من “معهد ووهان لعلم الفيروسات” Wuhan Institute of Virology الذي كان يجري اختبارات على الفيروس، ولذا حاولت السلطات الصينية طمس كل ما تيسر من أدلة وبراهين تثبت صحة هذه الفرضية.
وبعد فورة البحث المكثف في منشأ فيروس كورونا العام الماضي، تحول اهتمام الإعلام والرأي العام نحو الغرب المنشغل بالوباء والحكومات التي فشلت في التعامل معه، وبعدئذ انهمكت الوسائط الإخبارية بقضايا أخرى بالغة الأهمية، نذكر من بينها احتجاجات “حياة السود مهمة” و”بريكست” والانتخابات الرئاسية الأميركية مع ما أعقبها من تداعيات عنيفة واستثنائية.
وفيما كان التركيز العالمي منصباً على الهجوم الذي تعرض له مبنى الكابيتول في واشنطن، أقدمت السلطات الصينية على منع بعثة “منظمة الصحة العالمية” من بدء التحقيق في مصدر الجائحة، وفق ما اُفترض قبلاً، بحجة عدم استحصال أفرادها على تأشيرات الدخول اللازمة، ولم يجر الاتفاق على الزيارة إلا بعد مقاومة شديدة من جانب بكين التي لم تقبل بها إلا تحت وطأة مطالبات دولية متنامية.
وإذ تحددت زيارة “منظمة الصحة العالمية” بعد مفاوضات شاقة دامت أشهراً عدة، اعتبر كثيرون أن رفض بكين السماح للبعثة بالدخول إلى أراضيها في اللحظة الأخيرة يشكل تصرفاً معرقلاً. وفي هذا الصدد، أعرب المدير العام للمنظمة، تيدروس أدهانوم غبريسوس، عن “خيبة أمله الكبيرة إزاء هذا الخبر”، لافتاً إلى أنه “قد سبق لاثنين من أفراد البعثة أن وصلا إلى الصين وشرعا في مهمتهما التحقيقية، فيما منع الباقون من الانضمام إليهما في اللحظة الأخيرة”.
وإن لم تكن تلك الكلمات إدانة مدوية، فإنها حتماً أول انتقاد لاذع يوجهه غبريسوس للصين بخصوص فيروس كورونا، ففي بداية الجائحة اُتهم المسؤول الإثيوبي بالتواطؤ مع بكين واشتراكه معها في الخديعة، لمجرد مغالاته في الثناء على “انفتاحها المفترض في تبادل المعلومات” و”إرسائها معايير جديدة للسيطرة على الأمراض”.
وفي الذكرى الأولى لأول عزل عام في “ووهان” الأسبوع الفائت، شنت هيئة المراجعة الدولية المستقلة بقيادة رئيسة الوزراء النيوزلندية السابقة هيلين كلارك ورئيسة ليبريا السابقة إيلين جونسون سيرليف، حملة انتقادات على المسؤولين الصينيين بسبب عدم اتخاذهم تدابير الصحة العامة في مواجهة “كوفيد-19” فور ظهوره. وكذلك انتقدتا منظمة الصحة العالمية بسبب عجزها عن إعلان حال طوارئ دولية في الوقت المناسب. وفي ختام تلك الحملة، طالبت الهيئة بضرورة إجراء إصلاحات طارئة على منظمة الصحة العالمية.
وبعدها بأسبوع، أصدرت تأشيرات لعشر علماء من أفراد البعثة، فحضروا إلى الصين ومكثوا في الحجر الصحي أسبوعين قبل أن ينكبّوا على درس العينات والأدلة التي خصهم بها المسؤولون الصينيون، ثم بدأوا في جمع شهادات المتورطين المحتملين في تفشي فيروس كورونا داخل أماكن ميسّرة لهم في “ووهان” وخارجها.
وتذكيراً، حينما اتهمت الحكومة الصينية بالتخلص من أدلة مادية تجرمها، أنكرت بغضب وزعمت في أكثر من مناسبة ومن دون أي دليل موثوق بأن الفيروس لم ينشأ على أراضيها بل في الولايات المتحدة وأستراليا وإيطاليا وإسبانيا وروسيا وماليزيا والهند وبنغلاديش، أو أي مكان آخر في العالم. وتتماشى هذه المزاعم مع محتوى الملصقات التي تتوزع في أنحاء القاعة المركزية في “ووهان” وتروج لفكرة أن “كوفيد-19” يأتي من “مواقع مختلفة حول العالم”.
وفي السياق أيضاً، علمنا أن النظام الصيني انتقم شر انتقام من الذين اعترضوا على روايته الرسمية في شأن فيروس كورونا على المستويين المحلي والعالمي، ففي إطار الاستعدادات لاحتفالات رأس السنة الجديدة، أصدرت محكمة في “شانغهاي” حكماً على محامية سابقة ومواطنة صحافية تدعى زانغ زان بالسجن أربع سنوات بتهمة تغطية أخبار تفشي الوباء.
وتذكيراً أيضاً، شكّلت زانغ واحدة من المواطنين الصحافيين الذين أخذوا على عاتقهم تغطية أول ظهور لفيروس كورونا في مدينة “ووهان”. وآنذاك، كشفت زانغ عن أن الأوضاع الفعلية على الأرض أكثر تردياً مما تقر به السلطات الصينية، وكذلك سلطت الضوء على أُسر الضحايا التي سعت إلى مطالبة المسؤولين بتحديد المسؤولية عما أصاب أفرادها، لكن تلك الأُسر تعرضت للمضايقة من المسؤولين.
واعتقلتْ زانغ داخل “ووهان” في مايو (أيار) ونقلت منها إلى “شانغهاي” الواقعة على بعد 640 كيلومتراً، واتهمت بـ “السعي إلى إحداث بلبلة وإثارة المتاعب”، وتلك تهمة يشيع توجيهها للناشطين في الصين.
ويمكن القول إن زانغ شكلت آخر من دَفعته الدولة الصينية ثمن “كوفيد-19″، فمن بين ضحاياها الأوائل الدكتور لي ونيليانغ الذي حاول تحذير زملائه الأطباء من خطر انتشار مرض فيروسي جديد في ديسمبر (كانون الأول) 2019، لكنه اعتقل على يد عناصر “مكتب الأمن العام” بتهمة “الإدلاء بأقوال كاذبة” “تخل بالنظام الاجتماعي” بعد تسلمه مستنداً تضمن “نحن نحذرك رسمياً. إذا استمريت على موقفك ووقاحتك ولم تتخل عن نشاطك غير القانوني هذا فسنحيلك إلى القضاء. هل هذا مفهوم؟” توفي الدكتور لي البالغ من العمر 35 عاماً جراء إصابته بفيروس كورونا في فبراير (شباط) الماضي.
هذا في الشق الداخلي، أما في الشق الخارجي فاعتمدت بكين نهج المكافأة والمال، وبفضل سيطرتها على بعض خطوط إمدادات معدات الوقاية الشخصية التي تستخدمها الطواقم الطبية في سياق مواجهتها جائحة كورونا، وإنتاجها حوالى 50 في المئة من الكمامات في العالم، تمكنت من التقرب من الحكومات الأجنبية بوصفها فاعلة خير، ثم اتضح في ما بعد أن قسماً من معداتها لا يوافي المعايير والآخر لم يكن مجانياً.
بهذه الطريقة عادت مظاهر الحياة الطبيعية إلى صالات السينما في المدينة التي شهدت بداية عدوى “كوفيد- 19” (غيتي)
وعلى نحو مماثل، جاء سريعاً الانتقام من الدول التي شككت في الرواية الصينية للجائحة، على غرار أستراليا التي قوبلت مطالبتها إجراء تحقيقات دولية بوابل من التهديدات الصينية وقيود تجارية موجعة على وارداتها. وكذلك جاء رد فعل الدبلوماسيين الصينيين الملقبين بـ “المحاربين الذئاب” wolf warriors، سريعة تجاه كل من تجرأ على انتقاد بلادهم في موضوع كورونا.
ففيما حذر السفير الصيني لدى السويد وتوعد مشيراً إلى أنه “لأصدقائنا النبيذ الفاخر، ولأعدائنا البندقيات والبندقيات وحدها”، أبى نظيره في لندن منذ فترة طويلة، ليو شياو مينغ، إلا أن يرد على الانتقادات الواسعة التي طالت بكين بخصوص “كوفيد-19” وعمليات القمع في هونغ كونغ وقمع جماعات الإيغور المسلمين، ووصل به الأمر إلى حد تهديد بريطانيا “بتحمل عواقب” تعاملها مع الصين باعتبارها بلداً عدائياً.
وانتشرت أيضاً ادعاءات عن إمكان أن تكون اللقاحات المنتجة خارج الصين غير آمنة، إذ اتهمت “غلوبال تايمز” و”شبكة تلفزيون الصين الدولية” CGTN، المحطة الإنجليزية لـ “تلفزيون الصين المركزي” CCTV، الإعلام الغربي بتجاهل أخطار لقاح “فايزر”، واتقدت نيران تلك الاتهامات، بحسب دراسة صادرة عن “معهد السياسية الاستراتيجية الأسترالي”، بعدما ادعى باحثون في البرازيل أن فعالية لقاح “سينوفاك” الصيني لا تتجاوز الـ 50.4 في المئة، مما يقل بكثير عن الـ 78 في المئة التي روجت لها الشركة المصنعة.
وفي ذلك السياق، حلّت إدارة ترمب في طليعة مهاجمي الصين بسبب الجائحة. وفي مرحلة من المراحل، فكر دونالد ترمب في استخدام موقفه من بكين سلاحاً انتخابياً ضد جو بايدن الذي قد ينتهج سياسة مغايرة بحجة نجله هانتر وعلاقاته التجارية القديمة معها، لكنه سرعان ما تخلى عن فكرته وخفف لهجته، وصولاً إلى حد الإشادة بشي جين بينغ، على الرغم من ظهور أدلة عن تفشي المرض خارج حدود الصين وتسلله إلى الولايات المتحدة.
وفي 24 يناير (كانون الثاني) العام الماضي، كتب ترمب على “تويتر” تغريدة تضمنت، “عملت الصين بجد من أجل احتواء فيروس كورونا والولايات المتحدة تقدر جهودها وشفافيتها جلّ تقدير”، معبراً عن قناعته بأن “الأمور ستكون على خير ما يرام” وشاكراً “الرئيس شي باسم الشعب الأميركي”.
وفي 10 فبراير (شباط) 2020، غرد ترمب، “أعتقد أن الصين كما تعلمون محترفة جداً في طريقة سيطرتها على كل شيء، وأنا أؤمن فعلاً أنها ستحكم قبضتها على الوضع قريباً جداً”. وفي 29 فبراير من العام نفسه، كرّر ترمب، “يبدو أن الصين حققت تقدماً مهولاً في معركتها ضد الفيروس، فعدد الإصابات فيها إلى انخفاض، وأظن أن علاقتنا بالصين جيدة جداً”.
واستطراداً، ثمة من يروج أن ترمب سعى إلى الحصول على مساعدة الصين حتى يصار إلى انتخابه لولاية رئاسية جديدة. وبحسب ادعاءات مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، فقد التقى الرئيس الأميركي مع الرئيس الصيني شي على هامش “قمة الدول العشرين” في مدينة “أوساكا” اليابانية، وناشده مواصلة شراء المحاصيل الزراعية الأميركية نظراً لما تمتلكه أصوات المزارعين من أهمية بالنسبة إليه.
وفي الوقت الذي فرضت فيه الصين عقوبات تجارية على أستراليا، استمرت في شراء المحاصيل الزراعية الأميركية على سبيل الضمانة السياسية فيما لو بقي ترمب سيد البيت الأبيض.
ويرى بولتون أنه كان ممكناً أن يغير ترمب موقفه من الصين مرة جديدة ويسقط ادعاءاته في شأن “كوفيد-19” لقاء مصالح شخصية وفرصة بعقد اتفاق تجاري، لو أنه فاز بإعادة الانتخاب.
فقد سبق لترمب أن ادعى بأن فيروس كورونا من صنع الإنسان ومصدره مختبر للفيروسات في مدينة “ووهان”، وكذلك فعل وزير خارجيته مايك بومبيو. وفي مناسبات عدة، أكد الرجلان أنه سيكشف عن معلومات استخبارية تثبت صحة ادعاءاتهما، لكن هذا لم يحصل لأن وكالات الأمن الأميركية لم تعثر على أدلة قاطعة للفصل في المسألة، وتالياً فإنها احتاجت إلى إجراء مزيد من التحقيقات.
وعلى نحو مشابه، ظهرت ادعاءات بأن بومبيو سيفصح عن هذه المعلومات الاستخباراتية فور مغادرته منصبه، وهذا فعلاً ما حدث. فخلال الأسبوع الماضي صرّح وزير الخارجية السابق أن الباحثين في مختبر “ووهان” أصيبوا بالمرض في خريف 2019 وظهرت عليهم أعراض شبيهة بأعراض فيروس “كوفيد-19″، مع التأكيد على أنهم عملوا آنذاك على كورونا الخفافيش المماثل لـ “كوفيد-19” بنسبة 96.2 في المئة.
وعلى الرغم من أن مختبر “ووهان” مؤسسة مدنية، إلا أنه عمل على مشاريع سرية لمصلحة الجيش الصيني، فقد ورد في بيان صادر عن وزارة الخارجية الأميركية أن مختبر “ووهان” أجرى بحوثاً على كورونا الخفافيش المعروف “آر إيه تي جي 13” RaTG13 منذ العام 2016 على الأقل. ومن الناحية الجينية، يعتبر هذا الفيروس الأقرب إلى تركيبة فيروس “سارس- كوف- 2” إحدى المسميات العلمية لفيروس كورونا. وقد استقدمت عينته في 2013 من كهف في مقاطعة “يونان” الصينية حيث توفي عدد من عمال المناجم جراء إصابتهم بمرض يشبه الـ “سارس” أو الالتهاب الرئوي الحاد.
وفي ذلك الملمح، يصح القول بأن لدى المختبر في ووهان سجلات منشورة في شأن أبحاث “تحويلية”، بمعنى إدخال تعديلات في تركيبته الجينية أجراها على الفيروس بهدف زيادة خطورته وقدرته على التفشي، لكنه، برأي وزارة الخارجية، لم يكن شفافاً أو متسقاً في سجل درسه بشأن فيروسات شبيهة بـ “كوفيد-19″، من ضمنها فيروس “آر إيه تي جي 13”.
وبحسب بومبيو، “تستمر بكين إلى اليوم في إخفاء معلومات حيوية يحتاجها العلماء كي يحموا العالم من هذا الفيروس المميت، وما قد يأتي بعده”.
واستطراداً، وفق بومبيو أيضاً، تظهر تلك المعطيات ضرورة “تيسير وصول المحققين التابعين لـ “منظمة الصحة العالمية” إلى سجلات “معهد ووهان لعلم الفيروسات” والسماح لهم بالتدقيق في تجاربه على كورونا الخفافيش وما سواه من سلالات كورونا، قبل تفشي “كوفيد-19″، كجزء من تحقيق شامل. وكذلك نادى بومبيو بـ “ضرورة أن يُمنح المحققون قدرة كاملة على مساءلة المختبر في شأن سجلاته الإلكترونية عن “آر إيه تي جي 13″ وفيروسات أخرى، أي تلك التي عدلها قبل أن يزيل سجلاتها عن الإنترنت”.
ولأن إفصاحات بومبيو لم تقدم دليلاً حاسماً عما إذا كان الفيروس نشأ فعلاً في مختبر “ووهان”، فإنها لم تلق التغطية الإعلامية المتوقعة، واعتبرت أقرب إلى كونها رد فعل إزاء “الإنذارات الكاذبة” التي اعتاد فريق ترمب إطلاقها، إضافة إلى وجود تشكيك عام في ادعاءات صادرة عن إدارة باتت سيئة السمعة بأنها تفتقر إلى الصدق.
تفاخر الرئيس الصيني شي جين بينغ بتمكن بلاده من تخطي الأسوأ في وباء كورونا (أ ف ب)
في غضون ذلك، انطلقت حملة لإجبار الحكومة الصينية على دفع التعويضات عن دورها في الجائحة، وفي الوقت الراهن ثمة 10 دعاوى مرفوعة ضد بكين سواء من شركات خاصة في أوروبا والولايات المتحدة أو ولايات أميركية مثل “ميزوري” و”مسيسيبي”، ومن المتوقع أن تليها دعاوى أخرى، وفق تقارير عدة.
في ذلك المسار، صدرت تشريعات أميركية تتيح للكونغرس معاقبة المسؤولين على أفعال يرتكبونها بقصد “تعمد إخفاء أو تحريف معلومات تتعلق بحال طوارئ صحية عامة ذات أهمية دولية”، وقد صيغت هذه التشريعات على نمط “قانون ماغينتسكي الدولي” الذي ينص على معاقبة المتهمين بالفساد أو انتهاك حقوق الإنسان حول العالم، وقد أبصر النور على خلفية وفاة محام متخصص في فضح المخالفات داخل سجنه في روسيا.
ثمة سؤال عن مدى نجاح تلك الدعاوى، إذ إن ذلك مسألة مختلفة تماماً، يضاف إلى ذلك أنها مسألة تشكيك في إمكان أن تقبل بكين حكماً يصدر عن محكمة دولية، ففي يونيو (حزيزان) 2016 تبنت الصين إعلاناً في شأن تعزيز القانون الدولي، لكن بعدها بشهر خسرت قضية بارزة حول نزاع إقليمي ضد الفيليبين في بحر الصين الجنوبي، ولم تأخذ بالحكم الصادر عن المحكمة، معتبرة إياه “مجرد حبر على ورق”. وبالفعل، لم يكن باليد وسيلة لتنفيذ الحكم باستثناء اللجوء إلى تحرك عسكري.
ويبرز أمر مماثل بالنسبة إلى الدعاوى المرفوعة ضد الصين في أميركا، فقد تقدم السيناتور جوش هاولي بمشروع قانون “العدالة لضحايا فيروس كورونا” لنزع الحصانة السيادية من الملاحقة القضائية عن الصين وتكليف وزارة الخارجية مهمة التحقيق في طريقة تعاطي بكين مع المرض وانتزاع التعويض اللازم من الحكومة الصينية، أما اقتراح “ماغينتسكي” فقد تقدم به سيناتور جمهوري آخر يدعى توم كوتون.
واستطراداً، يعرف عن الرجلين أنهما من أشرس مؤيدي ترمب، إذ دعا كوتون إلى استخدام التحركات العسكرية ضد احتجاجات “حياة السود مهمة” في صيف 2020، ويخضع حالياً لرقابة محرجة جراء ادعائه زائفاً بأنه خدم في الجيش الأميركي في أفغانستان والعراق، وكذلك يواجه هاولي تحقيقات أخلاقية محتملة من قبل الكونغرس بتهمة التورط في التحريض على أعمال التخريب التي نفذها مناصرو ترمب في واشنطن. ومن هذا المنطلق، يمكن الإشارة إلى أن صدقية اثنين من قادة الحملة الأميركية على الصين و”كوفيد-19″ متدنية إلى حد كبير.
ولا يزال من غير الواضح بالضبط ما الذي يمكن لفريق “منظمة الصحة العالمية” أن يحقق فيه ومتى. يبدو لي أنه قد لا يتمكن من فحص المختبر أو التحدث إلى الأشخاص الذين أطلقوا صفارات إنذار مبكراً في ظل طبيعة التفويضات المتفق عليها، وبالتالي قد تستغرق التحقيقات بأكملها وقتاً طويلاً جداً.
وكخلاصة، إذا اختارت إدارة جو بايدن محاربة الصين في شأن مواضيع عدة تتراوح بين حقوق الإنسان والتجارة، فمن غير المرجح أن تدخل في تفاصيل دورها أو تورطها في نشوء الجائحة، ومع استمرار العالم في الكفاح من أجل التعافي من الوباء على المدى المنظور، من المحتمل أن يتضاءل التركيز على كيف بدأت الأزمة التي هزت البشرية جمعاء، فيبقى مصدرها مطموساً ومدفوناً في الأسرار والأكاذيب إلى أبد الآبدين.
© The Independent