إميل أمين كاتب ومحلل سياسي
في اليوم العالمي الأوّل للاحتفال بالأخوة الإنسانيّة، والذي دعت إليه هيئة الأمم المتّحدة في ذكرى بلورة الوثيقة الأهم في العقد الماضي من غير تزيد، يتساءل المرءُ: هل جاءت تلك القراءة لتفتح مسارات وتُنشِئ مساقات للسلام العالميّ، انطلاقًا من أن البشر في أوّل المطاف وآخره إخوة، وقد جربوا الحروب والصراعات، الموت والدماء، ولم تُغنِهم عن السلام أبدًا، وقد عادوا إليه مستدفيئن بحرارة المحبّة وضوء الوئام؟
أثبتتْ التجربةُ الإنسانيّة خلال القرن العشرين، أنّ الحروب العالميّة نجمتْ عن غياب الرؤية الأخويّة، وقد حَلَّتْ أفكار العزل والإقصاء مَحَلَّ التلاقي والتضامن. ومن هنا، اكتسبت وثيقةُ أبو ظبي عن الأخوّة الإنسانيّة، والتي وُلِدت برعاية دولة الإمارات العربيّة المُتّحدة، وفي حضور كلٍّ من بابا روما البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، نقول اكتسبتْ مصداقِيّتها في عالم تشهد أجزاءٌ كثيرة منه الحاجة إلى دروب سلام تقود إلى التئام الجروح، عطفًا على العوز الشديد إلى صانعي السلام المُستعِدّين للشروع في عمليّات الشفاء والتلاقي ببراعة وجرأة، كما يشير إلى ذلك حبر روما الأعظمُ في رسالته البابويّة الأخيرة: “كُلُّنا إخوة”.
ما الذي تصنعه الأُخُوّة في عالمنا المعاصر لجعل السلام طريقًا مُعَبَّدًا للسير عليه؟
حتمًا إنها تتيح للقاصي والداني مسارات التلاقي، والذي لا يعني العودة إلى ما قبل الصراعات، فقد تَغَيّرنا جميعًا بمرور الوقت، لقد غَيَّرَنا الألمُ والمواجهات، وكذلك لم يعدْ هناك مكانٌ للدبلوماسيّة الفارغة والتمويه والخطب المزدوجة والتّستُّر، ولا للسلوكيّات الحسنة ظاهريًّا التي تُخفِي الواقع؛ فالذين تواجهوا بقوّة فيما بينهم يتحدّثون انطلاقًا من الحقيقة الواضحة والمُجَرَّدة، وعليهم أن يَتَعلّموا كيف يُنَمّون ذاكرةً تساعدهم على الصفح، وقادرة على تَحَمُّل مسؤوليّة الماضي كي يُحَرّروا المستقبل من أيّ استياء.
حين تُحَلِّق في السماوات العلا أفكارُ الأخوّة، تبدو آفاقُ السلام أقربَ من أجواء الحروب، ففي باطن الأخوّة مساحاتٌ شاسعة وواسعة للصفح والغفران، الأمر الذي يمكن السلام من الاستمرار بوصفه التزامًا يدوم مع مرور الوقت، لا سِيِّما وأنّه عملٌ صبور من البحث عن الحقيقة والعدالة.
هل تساعد الأُخوّة في طريق هندسة السلام العالميّ؟
يبقى جوهرُ الأخوّة قائمًا على إتاحة الفرصة للعمل معًا، وليس شرطًا أن يكون الواحدُ مرآة للآخر، فكلُّ إنسانٍ له خصوصِيَّتُه وكرامته المُتفرِّدة، بمعنى أنّ التجانس أو الانصهار في البوتقة الواحدة أمرٌ ليس مطلوبًا، لا سِيَّما وأنّ البعضَ يتخَوَّف من أنّ يكون فكر الأخوّة الإنسانيّة هو الطريق إلى “تسييل الهُوِيّات”، إن جاز التعبيرُ، وهو أمرٌ يثير مخاوفَ كثيرةً لدى أمم شتى، لا سِيَّما بعد أن أضحت الاستقطاباتُ قائمةً على الهُوِيّة العِرْقيّة، بعدما كان الصراعُ من قبلُ يتمحور حول الهُوِيّات الأيديويولوجيّة.
الأخوّة الإنسانيّة يمكنها أن تجمع الكثيرين في السَّعْي وراء بحث مشترك يستفيدُ منه الجميعُ، وإزاء هدف مُعَيَّن، يمكن الوصول إليه عبر مقترَحات تقنيّة وخبراتٍ مختلفة، والعمل من أجل الخير العامّ.
تدعونا الأخوّة إلى تحديد معالم الصراعات التي تحوم حول العالم، والقبول بحقيقة مقدرتنا كإخوة على إيجاد حلول لها، فالسبيل إلى تعايش أفضل يعني دائمًا الاعتراف بإمكانيّة أن يأتي الآخرُ بمنظور شرعيّ، على الأقلّ جزئيٍّ، أي بشيءٍ يمكن قبولُه، حتى إذا كان قد ارتكب خطأً أو تصرَّفَ بشكل سيئٍ، لأنه يجب ألا نسجن الآخرَ في أقواله أو أفعاله، ولكن يجب أن نعتبره وفقًا للوعد الذي يحمله في ذاته، الوعد الذي لن يترك دومًا بصيصَ أمل.
يأخذنا فكرُ الأخوّة في طريق المصالحة الحقيقيّة، الأساس العميق لبنيان السلام العالميّ، تلك المصالحة التي تتحقَّقُ بشكل استباقيّ من خلال تكوين مجتمع جديد قائمٍ على خدمة الآخرين والتعاون والتضامن معهم، وليس الرغبة في الهيمنة، مجتمع معولمَ أساسه مشاركةُ ما نمتلكه مع الآخرين، بدلاً من أن يناضل كلُّ فردٍ بطريقة أنانيّة في سبيل الحصول على أكبر ثروةٍ ممكنة، مجتمع تكون فيه قيمةُ التواجد معًا كبشر أكثرَ أهميّةً بالتاكيد من أيّ مجموعة ثانويّة. جاءت وثيقةُ الأخوّة الإنسانيّة على أرض الإمارات لتعزِّزَ المعزَّزَ وتُؤَكِّد المُؤَكَّدَ، وتشير إلى أنّ السلام الحقيقيّ لا يمكن تحقيقُه إلا عندما نكافح من أجل العدالة من خلال الحوار والسعي لتحقيق المصالحة والتنمية المتبادَلة.
رسمتْ الإماراتُ طريقًا مضيئًا لسلام العالم عبر رؤيتها للأخوّةِ، وهذا ما حَدَا بالمنظَّمَة الأمميّة لاعتبار يوم توقيع الوثيقة يومًا عالميًّا يرتبط جذريًّا بإفشاء السلام حول العالم، فالأخوة تعني الحوار، والحوار يكسر مغاليق العداوات، ويُهَيِّئ الأجواءَ لتوفير إمكانيّات ملموسة للسلام.
في هذا السياق، يرى فرنسيس أنّ العمليّات الفَعّالة لتحقيق سلام دائم هي قبل كلِّ شيءٍ تحوّلاتٌ نفسيّة وذهنيّة تقوم بها الشعوبُ، حيث يستطيع كلُّ إنسان أن يكون خميرة فَعَّالة عبر نمط حياته اليوميّ.
يمكن القَطْع بأنّ مُعطَى السلام هو أحد أهمّ التّغَيُّرات الجذريّة في حياة الأمم والشعوب، وأنّه من نوع التغيُّرات الجوهريّة التي لا تجري بها المقاديرُ خلف المكاتب أو الشركات. ولهذا يلعبُ الجميعُ دورًا أساسيًّا في مشروعٍ إبداعيٍّ واحد، بهدف كتابة صفحة جديدة من التاريخ؛ صفحةً مليئة بالرجاء ومليئة بالسلام ومليئة بالمصالحة.
يمكن القولُ دون تهوين أو تهويل إنّ وثيقةَ الأخوّة هي الأساس العمليّ لهندسة السلام العالميّ، ذاك الذي تشترك فيه مختلَفُ المؤسَّسات الوطنيّة والإقليميّة والدوليّة، كلٌّ حسب اختصاصها من أجل بلوغ غاية سامية ومقامٍ عالٍ، يتمثَّلُ في تحسين جودة حياة البشر، والقفز على أخطاء وخطايا الماضي وعثراته.
لا سلامَ بين الأمم والشعوب من غير سلام بين أتباع الأديان، هكذا تَحَدَّث المُفَكِّر السويسريّ الكاثوليكيّ الشهير “هانز كينج”، في مشروعه الأخلاقيّ للعالم، وعليه فإنّ الشعوبَ تبقى دومًا الركيزةَ الرئيسة للسلام حول العالم، وهي القادرة على صناعته وبلوغه.
تقودُنا الأخوّة إلى مفهوم السلام الواسع، وليس مُجَرَّد الحديث عن اتّفاقيّات دوليّة، فهناك السلام المجتمعيّ، وهذا ليس له نقطة نهاية، بل إنّه عملٌ دؤوب مستمرّ، عملٌ متواصل، وهو واجب لا يعرف الكللَ، يَتَطَلَّب التزامَ الجميع. إنّه عملٌ يقتضي مِنّا عدم توفير أيّ جهد من أجل بناء وحدة الأمم، على الرغم من العراقيل والاختلافات والمقاربات المتنوّعة حول طريقة التوصُّل إلى التعايش السلميّ، والمثابرة على النضال من أجل تعزيز ثقافة اللقاء التي تستوجب أن نضع الشخص البشريّ وكرامته السامية واحترام الخير العامّ في محور كلّ نشاط سياسيّ واجتماعيّ واقتصاديّ.
الأخوّة الإنسانيّة تهيّئ قلوبَنا للسلام الحقيقيّ، مُتَخطِّين الاختلافات في الأفكار، واللغة، والثقافة، والدين. ولهذا تبقى التطويباتُ قائمةً وقادمة لصُنَّاع السلام أمس واليوم وإلى الأبد.