د.شفيق ناظم الغبرا
عندما انتخب ترامب رئيسا الولايات المتحدة عام 2016، برز عنه وعن إدارته وجه عنصري تجاه المسلمين، وذلك عندما منع المسلمين من عدة دول ذات أغلبية إسلامية من دخول الولايات المتحدة، ولقد برز وجه عنصري تجاه المسكيك واللاتينيين عموما، وبدرجة أقل تجاه حلفائه الأوروبيين ومنافسيه الصينيين. لكن أسوأ تعبير عبر عن عنصرية ترامب هو حماسه لتصفية حقوق الشعب العربي الفلسطيني وفرض إسرائيل على البلدان العربية. فقد نقل السفارة الأمريكية للقدس المحتلة ثم قام بخطوات عبثية منها اغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وغير موقف الولايات المتحدة من الاستيطان في القدس والضفة الغربية، كما أنه أيد مصادرة مزيد من الأراضي في الضفة الغربية. تلك الاراضي تصل مساحتها 30 في المئة من مساحة الضفة الغربية. وقد استمرت خطواته فأوقف الدعم الأمريكي للأونروا، وهي الوكالة الدولية المختصة بمساعدة اللاجئين الفلسطينيين في مجال التعليم والصحة والاحتياجات الأساسية. لقد توج ترامب سياساته بتضيق الخناق على السلطة الفلسطينية وبجعل عدد من الدول العربية يطلقون تجاهها التهديد وراء الآخر ان رفضت الاتفاقات الخاصة بصفقة القرن. وتوج ترامب هجمته على القضية الفلسطينية باستخدام كل النفوذ الممكن لفتح الباب لإسرائيل لدخول المنطقة العربية طولا وعرضا من خلال الاتفاقات الموقعة مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب.
تلك كانت محاولة لتصفية القضية الفلسطينية، بل ما وقع كان حربا حقيقية بوسائل الاكراه والاقتصاد والحصار والعقوبات والتهديد على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، لكن تلك الحرب لم تنجح. فبالرغم من كل العبث المتضمن في سياسات ترامب، الا أن ترامب لم يفكر في المصلحة الأمريكية، ولا في البعد الاستراتيجي لهذه الأعمال، فهذا السلام الشكلي لا يحظى بدعم الشعوب، ولا بتقبلها، بل إن نسبة رفض المشاركة من قبل المواطنين العرب في اي عمل مرتبط بإسرائيل في الدول الموقعة على الاتفاقات عالية، نجد هذا الرفض في ظاهرة الانسحاب من الوفود المشكلة في البنوك وفي المؤسسات الحكومية وغيرها الساعية لتعزيز الاتفاق مع البنوك والمؤسسات الإسرائيلية. هذا عدا عن الرفض الصامت والرفض من خلال الاحتجاجات كما يقع في البحرين والسودان والمغرب، كما أن الرفض قائم بين شعب الإمارات لكن دون وجود فرص للتعبير بسبب الحالة الأمنية فيها.
لقد أدخل ترامب الإقليم في «سلام القشرة» الذي يتميز بخلق تناقضات كثيرة ستؤدي لافشال هذه الاتفاقات وتقويضها.
كل عبث يخلق نقيضه الظاهر والمستتر، كل حرب تفتح الباب للتي تليها، كل احتلال يخلق مقاوميه، كل اذلال يخلق صلابة في الكرامة الإنسانية
إن فرض هذا النمط من الاتفاقات يسهم بفتح جروح جديدة تمس الكرامة الوطنية المحلية لكل دولة عربية كما والكرامة العربية والإسلامية لأغلبية المواطنين. ما لا تعيه هذه السياسة الأمريكية التي اقرها ترامب انها أسهمت بمزيد من إستفزاز الشعوب.
السياسات الأمريكية في السنوات الأربع الأخيرة قطعت شوطا خطيرا، فهي تسهم بتثوير الأجيال العربية الجديدة. في كل ما قام به ترامب غرس لبذور صراعات وحروب وثورات جديدة، ان بذور الصراعات القادمة تتشكل في العقول والنفوس قبل أن تجد لها تعبيرا معلنا وواضحا في الانتفاضات والساحات. ان سياسات ترامب تجاه الدول العربية، أكان ذلك في مجال الابتزاز السياسي او الوطني او الاقتصادي، أثارت عشرات الأسئلة عن مدى استقلالية الدول العربية وحالتها السياسية والاقتصادية.
ويزيد من عمق الجروح الراهنة ذلك الإعجاب المطلق الذي يبديه بعض القادة وممثليهم في عدد من الدول العربية بدولة العدو وسياساتها وبقادتها ومرويتها وأطروحاتها. هذا الإعجاب هو تخلي عن الحقيقة المرتبطة بالإحتلال والقهر والتطهير العرقي والابارثايد والعنصرية التي تمارسها إسرائيل في كل فلسطين. والواقع يؤكد لنا ان حجب الحقيقة ممكن الى حين، لكنه غير ممكن بسبب طبيعة الإحتلال وطبيعة مقاوميه. لهذا تعكس الحالة الراهنة الكثير من الرمزية، رمزية الاعجاب بالعدو، رمزية الاستسلام لتفوقه والإستسلام لعجزنا، رمزية الانصياع لرئيس أمريكي لفظه الشعب الأمريكي في الانتخابات الاخيرة. هذه أحداث ستؤدي لافرازات جديدة تفرض على إقليمنا وشعوبنا بناء النقيض للصهيونية ومشروعها الاستعماري الذي استوطن فلسطين ويسعى للسيطرة في عموم الإقليم العربي.
ورغم امكانية التراجع عن عدد من الخطوات التي اتخذها ترامب تجاه القضية الفلسطينية، الا ان الثقة بالمقدرة الأمريكية على تحقيق تطور ايجابي لم تعد قائمة. و رغم الترحيب الشديد بانتخاب بايدن خاصة وأنه سيتخذ خطوات متوازنة في بعض المجالات، إلا أن الثقة بالقيادة الأمريكية إهتزت. فمن ذا الذي يضمن عدم عودة ترامب او شبيه له عام 2024. لم يعد هناك طريق امام العرب وامام الشعب الفلسطيني سوى الاعتماد الأشمل على النفس. فالولايات المتحدة لن تستطيع لعب الدور الذي لعبته قبل عقد من الزمان.
المشهد يتغير، العالم يتغير، الولايات المتحدة تتغير، اوضاع القضية الفلسطينية تتغير والشرق الأوسط والشرق العربي سيتغير ايضا. لن يبقى شيء ثابت، خاصة في ظل المشهد العبثي الذي جاء به ترامب والطريقة التي أدت لنهاية حقبته، وطبيعة ما وقع في البلدان العربية والقضية الفلسطينية في الاعوام الاربعة الاخيرة. كل عبث يخلق نقيضه الظاهر والمستتر، كل حرب تفتح الباب للتي تليها، كل احتلال يخلق مقاوميه، كل اذلال يخلق صلابة في الكرامة الإنسانية. التاريخ لا يتوقف عند عهود العبث، بل يستمر بالبحث عن عهود الكرامة الممزوجة بالاستقرار والازدهار. لا زال البحث مستمرا.
استاذ العلوم السياسية/ الكويت