باتت الولايات المتحدة في السنوات الأربع الأخيرة أضعف مما كانت عليه وعلى جو بايدن أن يتعامل مع الفوضى التي خلفها وراءه سلفه
باتريك كوبيرن مراسل الشؤون الدولية
تقول الحكاية إن اثنين من عتاة المؤيدين لدونالد ترمب لقيا حتفهما وذهبا إلى الجنة. وبُعيد وصولهما، يسارعان إلى سؤال أحد الملائكة “من فضلك، هل يمكنك أن تخبرنا… إذا كان الرئيس ترمب قد فاز حقاً في الانتخابات الرئاسية أم أنه قد خسرها بسبب حصول تزوير؟”.
فيأتي الجواب “أستطيع أن أقول لكما بصورة قاطعة إن جو بايدن قد فاز بشكل عادل بنسبة 306 إلى 232 صوتاً في المجمع الانتخابي وإنه لم يكن هناك أي تزوير على الإطلاق”. وهنا، يحدّق فيه هذان الاثنان من أنصار ترمب بارتياب قبل أن يلتفت أحدهما إلى الآخر، قائلاً “أستطيع أن أرى أن المؤامرة تصل إلى مستويات أعلى بكثير مما اعتقدنا”.
والمغزى من هذه الحكاية هو أنه ستكون هناك على الدوام نواة من أنصار ترمب الأميركيين ممن سيكونون مقتنعين أن بطلهم كان ينبغي أن يبقى في البيت الأبيض، وذلك على الرغم من مدى النقص الذي تشكو منه الأدلة الداعمة لهذه القناعة.
وثمة محللون يتوقعون على نحو متشائم بأن “الترمبية”، كتوجّه ينسب إلى الرئيس المنتهية ولايته، ستعمّر أكثر من ترمب الشخص نفسه، مشيرين إلى أن 74 مليون ناخب قد صوّتوا له وإلى غالبية الجمهوريين ممن يصدقون مزاعمه السخيفة عن فوزه في الانتخابات.
من جهة أخرى، يعرب كثيرون عن أملهم في أن ترمب سيكون مجرد حالة شاذة في التاريخ الأميركي، وحادثاً سياسياً مشوّهاً لن تشهد مثله الولايات المتحدة مرة أخرى على الأرجح، وأن هزيمة أسلوبه في العمل السياسي ستكون نهائية.
شخصياً، شعرت على امتداد السنوات الأربع الماضية أن خصوم ترمب قد أساؤوا، فهم مواطن القوة والضعف لديه، فقلّلوا من شأن هذه المواطن كما بالغوا في تقديرها في الوقت ذاته. قبل كل شيء، إن الرجل مهووس بالترويج لنفسه، وهي سمة شائعة بما فيه الكفاية بين السياسيين. غير أنه مختلف باعتباره يتمتع بقدرات استثنائية للهيمنة على أجندة الأخبار حين يتعلق الأمر بذلك، وهو يسيطر عليها من خلال استعماله منصة “تويتر” للتواصل الاجتماعي، فضلاً عن شبكات التلفزيون المتعاطفة معه مثل “فوكس نيوز”، بمهارة.
ولا ننسى أن القيام بذلك هو أمر صعب، ناهيك عن المضي في تأديته لسنوات، واصل خلالها نشر سيل من التغريدات الموجهة بدقّة بالغة لإثارة الاهتمام إلى درجة تكفي لشدّ انتباه وسائل الإعلام وإبراز ما يريده في عناوين الأخبار التي تتصدر صفحات الجرائد أو نشرات الأنباء الأخرى. كادت الأكاذيب الفظيعة والفضائح الشخصية ألا تلحق أي قدر من الأذى به، لا بل أسهمت في رفع شعبيته التلفزيونية الفائقة. وهذا سيكون نموذجاً من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يأتي بمثله القادة الجمهوريون الذين يناورون حالياً كي يرثوا الدعم الذي يتمتع به ترمب.
يخشى كثيرون من أن ترمب لن يبقى على الدوام وفي السنوات الأربع المقبلة بعيداً من الميدان، بل سيكون متربّصاً في منتجعه “مارالاغو” Mar-a-Lago الكائن في بالم بيتش بولاية فلوريدا، كما لو أنه نسخة أميركية من الجنرال شارل ديغول، يمكث في مكان مثل كولومبي-ليه – دو- إيغليز Colombey-les-Deux-Eglises (القرية التي اتخذها ديغول مقراً لإقامته كلما قرر الاعتكاف بعيداً، وقضى فيها آخر أيامه ثم دفن هناك) بانتظار العودة إلى السلطة. بيد أن تحقّق سيناريو العودة هذه يكاد يكون مستحيلاً حالما خرج ترمب من البيت الأبيض ولم يعُد يتمتع بسحر صلاحياته التنفيذية لاجتذاب أنصاره المخلصين. كما أنه سيصبح أكثر عزلة من أي وقت مضى باعتباره بات ممنوعاً من استخدام “تويتر”، كما لم يعُد بوسعه الوصول إلى “فوكس نيوز” في اللحظة التي يشاء فيها ذلك.
من المهم أيضاً أنه لم يعُد يُنظر إليه على الدوام كشخصية طريفة، وهي ميزة ضمنت له حضوراً مستمراً حتى على شاشات التلفزيون التي كانت تمقته. وهو استطاع بفضل هذه الصفة أن يهيمن على أجندة الأخبار في الولايات المتحدة وفي بقية دول العالم، إلى درجة باتت معها سيطرته هذه تبدو طبيعية للأصدقاء والأعداء على حد سواء. ولكن تراجعت قيمته الترفيهية منذ الانتخابات الأخيرة، إذ أصبح يبدو عليه التشوش أكثر فأكثر وهو يجعجع بصخب عن كيفية سرقة منصبه منه.
تكمن المشكلة التي تواجهها “الترمبية” في أنها لن تكون مؤثرة جداً من دون ترمب نفسه وفهمه الغريزي لكيفية الهيمنة على الأجندة في عصر يفيض بالمعلومات، وهو فهم صقلته السنوات الطويلة التي قضاها كنجم لبرامج تلفزيون الواقع. والحقيقة أن “الترمبية” لم تكن يوماً أيديولوجية على شاكلة الفاشية الأوروبية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، بل هي مجرد مجموعة من المخاوف والأحقاد والأحلام التي لا تنسجم مع بعضها بعضاً. لهذا، وخلافاً لمعظم الحركات المشابهة، تحتاج “الترمبية” إلى زعيم يقودها.
والسؤال هو إلى أي مدى سيستطيع جو بايدن أن يُصلح من الضرر الذي أنزله ترمب بأميركا؟ لا شك أن الحقيقة البسيطة المتمثلة في كون البلاد لا تُدار من قبل معتوه غريب الأطوار، سيكون من شأنها أن تعزز كفاءة الحكومة داخل البلاد وتقوّي تأثيرها في الخارج أيضاً. ولعل دموع الفرح تكاد تنهمر من عيون المؤسسة السياسية في كل مكان، بسبب الارتياح التي تشعر به جرّاء رحيل ترمب.
مع ذلك، فحقيقة أن أميركا تستطيع أن تنتج زعيماً من هذا النوع الذي كان عليه أن يسيء إدارة أزمة كوفيد-19 ما أدى إلى وفاة حوالى 400 ألف أميركي، هي في حد ذاتها أمر لا يمكن لأحد أن يشطبه من ذاكرة العالم الجماعية.
تعتمد القوى العظمى كلها إلى حد ما على الخداع والافتراضات المبالغ بها عن تفوقها. لكن خضع ذلك الخداع في حالة أميركا للاختبار، وهذا سيضعف أميركا إلى الأبد. كان ينبغي أن يكون من الواضح على الدوام أن الولايات المتحدة تعاني من انقسامات عميقة ناجمة في المقام الأول عن القضايا العرقية إلى جانب إرث العبودية والحرب الأهلية. اعتُبر ذلك في يوم من الأيام أنه مجرد فترة تاريخية انقضت ولم يعُد لها صلة بالحاضر. بيد أن المستقبل سيشهد دائماً توقعات بأن غزو مبنى الكابيتول الذي وقع مرة واحدة في 6 يناير (كانون الثاني) 2021 يمكن أن يقع مرة أخرى.
اللافت أن أعضاء المجموعات الغوغائية اليمينية المتطرفة، ممن يواجهون عقوبات بالسجن لفترات طويلة، يزعمون بشيء من العقلانية أنهم فعلوا ما فعلوه تنفيذاً للتعليمات التي أصدرها الرئيس ترمب، وحسبما فهموا تعليماته تلك. ولن يكون من السهل بالنسبة إليه أن يتنصّل من هؤلاء اليمينيين بصورة كاملة.
وعلى الرغم من خطابه المتطرف، لم يكَد ترمب يفعل شيئاً (خلال ولايته)، ما عدا تعزيز برنامج الجمهوريين التقليدي لجهة خفض الضرائب والتقليل من القواعد التنظيمية (الحكومية). كما كان جلّ ما فعله بالنسبة إلى الحشود الكبيرة من أنصاره “المهملين” ممن تخلّفوا عن الركب جراء الإهمال الحكومي المفترض، لم يتعدَّ الكلام المعسول والوعود التي بقيت حبراً على ورق.
كان هناك زيف في صميم مشروع ترمب برمّته. وثمة ما يبعث على الرضا في أن تلك الديماغوجية العداونية ذاتها التي أبداها يوم غزو الكابيتول، ومن دون أن يتوقع على الأرجح أنها ستؤخذ على محمل الجد، هي التي قد تدمره حالياً.
© The Independent