نعيمة عبد الجواد
في الماضي كانت الدول الأوروبية الفقيرة تؤَّمن قوتها وثرواتها بالإغارة على الدول المجاورة، لكن في القرون الوسطى، قررت الدول الأوروبية أن تسعى للنهوض وتكديس الثروات، من خلال الاتحاد تحت لواء واحد، والإغارة على الدول الأكثر ثراءً، والتي كانت حينئذٍ تتمركز في دول المشرق القديمة.
وحتى تتخذ الموجات الاستعمارية الأوروبية، التي تستهدف نهب ثروات دول المشرق الغنية طابعًا مقبولًا، تم الغزو تحت ستار ديني، لتحفيز العامة للاشتراك في الحرب، وبذل قصارى الجهود لتحقيق النصر؛ لأن أغلب العامة من المزارعين واللصوص والمجرمين والمنبوذين اجتماعيا، لم يعتادوا على حمل السلاح وحياة الحرب. وكانت أفضل وسائل الإقناع أن المحاربين حماة للصليب (أي الدين المسيحي) ولسوف ينالون صكوك غفران لذنوبهم؛ فمثلًا لنيل أحدهم صك غفران لخطيئة الزنا، يجب عليه الحرب لمدة عام، وجريمة السرقة ثلاثة أعوام، وهكذا. وعلى هذا، استمرت الحروب الصليبية لعقود طويلة، بدون كلل أو ملل من المحاربين، وخرجت منها الدول الأوروبية محصنة بكيانٍ صلب البنيان، ورسخت صورتها كقوة عالمية قوية مهيمنة ومهيبة؛ لما لها من نفوذ عظيم بين دول العالم، خاصة على دول المشرق التي تهالكت، ومزَّقها الصراع الداخلي والأطماع الشخصية والفقر.
وما لبثت أوروبا أن تنهض على قدميها حتى وجدت نفسها في خضم ثورة صناعية هائلة، نقلتها حضاريًا لأبعاد غير مسبوقة، لدرجة أنها صارت قبلة للتقدم والازدهار في العالم. لكن الثورة الصناعية الأولى كان يلزمها العديد من المواد الخام، خاصة المطاط والأخشاب، وغيرها من المواد الخام، اللازمة لقيام المشروعات الصناعية الكبرى، التي لم تكن تتواجد بوفرة إلا في القارة الافريقية. وقد لفتت افريقيا نظر الغرب بشكل محدود في القرون التي سبقت نهاية القرن الثامن عشر، وهو توقيت قيام الثورة الصناعية الأولى في أوروبا، فقد كانت افريقيا المصدر الأساسي لتجارة العاج لدول أوروبا، الذي كان مفضلًا لدى الأثرياء، ويستخدمونه في صناعة الهدايا والتحف الفاخرة، ناهيك من كونها مصدرا رائجا لتجارة العبيد، ولهذا السبب لم يمتد النفوذ الأوروبي في افريقيا لأكثر من المناطق الساحلية.
المثير للسخرية حقا، أنه يتم حاليًا الترويج إلى أن جميع العقود التجارية، والشراكات الاقتصادية، والقواعد العسكرية، والسفارات العديدة التي تفتتحها الدول ذات الأطماع الاستعمارية من شأنها تحقيق الخير الوفير لسكان القارة الافريقية، وهي الشعارات نفسها، التي استخدمها المستعمرون الأوروبيون في نهاية القرن الثامن عشر.
لكن في عام 1876 تنبه ليوبولد الثاني ملك بلجيكا، لأهمية افريقيا الاستراتيجية والاقتصادية؛ لأنها تعج بالكثير من الثروات كالأخشاب والمعادن النفيسة، خاصة الذهب والمطاط، فهرول إلى افريقيا تحت ستار رجل البر والإحسان، الذي يسعى إلى إنقاذ أهل القارة من الحياة الهمجية، والأخذ بيدهم؛ لينعموا برخاء جمال الحياة المدنية. ومن ثمَّ، قام بتأسيس الرابطة الافريقية العالمية International African Association، ثمَّ أرسل إلى افريقيا الصحافي هنري ستانلي الأمريكي الجنسية ذا الأصول التي ترجع لمقاطعة ويلز في بريطانيا – مخولًا له مهمة القيام بعمل بحث شامل لتمدين سكان القارة الافريقية، وبالطبع كان ذلك الهدف المعلن. فلم تكد تطأ قدما هنري ستانلي قارة افريقيا، إلا وبدأ توطيد الأهداف الاستعمارية لمملكة بلجيكا. وفي عام 1878 قام بارساء قواعد جمعية الكونغو الدولية International Congo Society المعلنة بأنها تباشر أهدافا اقتصادية وتجارية، من شأنها تحديث القارة التعيسة، وإغداق أهلها بالمكاسب والثروات. وعلى إثر ذلك، أرسل الملك ليوبولد الثاني من خلال هنري ستانلي بعض المستثمرين، الذين مسحوا الأراضي الافريقية، وتعرفوا على حجم ثرواتها، ووضعوا أياديهم على أفضل المناطق التي تعج بالثروات الطبيعية كمستعمرين. وما أن اشتمّت فرنسا صنيع بلجيكا، حتى هرولت إلى افريقيا عام 1881 بحريًا بأسطول استكشافي رسا في حوض الكونغو الغربي، ثمَّ رفعت عليه العلم الفرنسي كمحتل فج للأرض، وأعلنته مستعمرة فرنسية سمتها برازافيل. فاستشاطت البرتغال غضبًا مما يحدث، لأنها كانت تؤثر عقد علاقات سلمية مع الممالك الافريقية الهشة. وعلى إثر ذلك، أزالت البرتغال قناعها الطيب المتسامح مع سكان القارة، ووضعت يدها على العديد من الأراضي الافريقية. وانتشرت الأخبار في القارة الأوروبية جمعاء، فهرولت ألمانيا وإنكلترا ودول أوروبية عديدة، بما في ذلك السويد، التي لا تسعى لعمل أنشطة استعمارية.
وبدأت الدول الأوروبية تتصارع في ما بينها على نهب واستعمار الأراضي الافريقية، إلى أن قرر الداهية أوتو فون بسمارك المستشار الألماني حينئذٍ فك الاشتباك بعقد مؤتمر موسع بين الدول الاستعمارية، لتنظيم مصالحها في افريقيا، وسماه «مؤتمر برلين» Berlin Conference، الذي دعى لمائدة مفاوضاته الدول الأوروبية المستعمرة جمعاء، وكذلك الولايات المتحدة، واستمر المؤتمر من 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1884 إلى 2 فبراير/شباط 1885، وصارت بعدها افريقيا القارة السمراء المغبونة، تحت سيطرة قوى استعمارية غاشمة ادعت أنها تقوم بإنقاذ القارة.
وفيما يبدو أن التاريخ يكرر نفسه مرة أخرى، وتقريبًا بالسيناريو نفسه، فما أشبه اليوم بالبارحة، لكن مع تغير رؤوس القوى الاستعمارية؛ فبدلًا من كونها أوروبية، صارت الغالبية العظمى منها آسيوية. وتتزعم القوى الاستعمارية الجديدة الصين، مصنع العالم، الجائعة دومًا للمواد الخام، خاصة تلك التي لا تتوافر لديها، وقد بنت الصين لنفسها نفوذًا هائلًا في افريقيا يفوق نفوذ أي دولة أخرى، حيث أنها وضعت يدها على العديد من الدول، من خلال عقد شراكات تجارية معها. ومن الجدير بالذكر أنه عندما قررت الصين معاقبة استراليا عند تبنيها موقف أمريكا، الذي يتهم الصين بأنها مركز وباء كورونا، قامت بفرض قيود على استيراد الحديد الأسترالي، واستبدلته بخام الحديد من غينيا. أضف إلى ذلك، وضع الأسطول الصيني يده على أهم السواحل الافريقية وهو ساحل جيبوتي، الذي كان سابقًا تحت سيطرة فرنسية خالصة، وكوَّن مع جيبوتي منطقة تجارية حرة، وبذلك وضعت الصين يدها على مضيق باب المندب الاستراتيجي، الذي سوف يقطع أغلب الطرق التجارية العالمية، حال غضب الصين على أحد الدول، أو حسب هواها، إضافة إلى ذلك، تقوم الصين بإنشاء قواعد عسكرية في العديد من الدول الافريقية تحت ستار تأمين مصالحها. وما تقوم به الصين ليس حالة فردية، فتركيا وروسيا ودول الخليج الغنية والعديد من دول شرق آسيا تحذو حذو الصين؛ بما في ذلك اليابان التي أوقفت جميع أنشطتها الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية.
المثير للسخرية حقا، أنه يتم حاليًا الترويج إلى أن جميع العقود التجارية، والشراكات الاقتصادية، والقواعد العسكرية، والسفارات العديدة التي تفتتحها الدول ذات الأطماع الاستعمارية من شأنها تحقيق الخير الوفير لسكان القارة الافريقية، وهي الشعارات نفسها، التي استخدمها المستعمرون الأوروبيون في نهاية القرن الثامن عشر. فهل ستتنبه افريقيا لورطتها الوشيكة؟ أم ستهرول إليها كما في الماضي، ويسطر التاريخ حينها في صفحاته «استعمار افريقيا كلاكيت لتاني مرة»؟
أكاديمية مصرية