“ضرورة تحتمها ظروف المنطقة وأطماع الجيران حتى ولو لم تكن بيننا وبينهم حالة حرب”
مصطفى الفقي كاتب وباحث
هو تعبير شاع على ألسنة الساسة العرب وكبار المسؤولين في جامعة الدول العربية، وخصوصاً قبيل مؤتمرات القمة التي كانت تعقد دورياً على المستوى القومي، وأتذكر أن أول مرة سمعت فيها تعبير “المصالحة بعد المصارحة” كانت من الدبلوماسي الراحل أحمد عصمت عبد المجيد، نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية المصرية، ثم الأمين العام لجامعة الدول العربية في تسعينيات القرن الماضي، وفي ظني أن هذه العبارة تلخص إلى حد كبير جوهر المشكلة التي يدور حولها العمل العربي المشترك، الذي لا يحقق نتائج إيجابية في أغلب الأحوال، إذ إننا بالفعل ننتمي إلى أمة تحول فيها العرب إلى ظاهرة صوتية تبحث عن الشكل دون المضمون وتهتم بالمظهر دون الجوهر وتدور حول نفسها في فضاء قومي واسع من دون أن تتلمس قلب المشكلات التي تحيط بها والأزمات التي تمر عليها حتى أصبحت الخصومات العربية ظاهرة متكررة لا تقف عند حد، فنحن عاطفيون نتمسك بالشعار دون تحليل مضمونه، ونردد ما لا نفعل، ونفعل ما لا نقول، وليس هنا مجال لجلد الذات والبكاء على اللبن المسكوب لأننا نريد أن نفتح صفحة جديدة في ملف العلاقات العربية ـــ العربية تخلو من ازدواجية الأقوال وغياب الشفافية عن الأفعال، وأنا أكتب هذه السطور بمناسبة المصالحة الخليجية المصرية – القطرية متفائلاً بحذر، آملاً لها الديمومة واحترام جميع الأطراف لبنودها، ومصدر تفاؤلي الحذر هو أنه ليست أمامنا فرص جديدة للفشل. كما أنه ليست لدينا رفاهية إجراء التجارب والمضي وراء الأحلام دون أن تدعمها إرادة قومية هي محصلة التوجهات المختلفة للدول العربية كلها، والآن دعنا نفسر ما أجملناه:
أولاً: إذا نظرنا إلى الخريطة السياسية لعالمنا العربي لوجدنا على الطرف الغربي منها في شمال القارة الأفريقية خلافاً مزمناً بين دولتين شقيقتين هما الجزائر والمغرب حول إقليم الصحراء الغربية في ظل نزاع طويل جرى تدويله منذ سنوات، وما زال ذلك الخلاف يمثل عقبةً للعلاقات بين الدولتين، ما أدى إلى ضعف الاتحاد المغاربي، وكاد يوحي باختفائه عن الساحة، وقس على ذلك الخلاف المصري – القطري الذي بدأ منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وترك آثاراً سلبية على العلاقات المصرية والخليجية تجاه قطر حتى جاءت “قمة العلا” لتبشر بمرحلة مختلفة في مطلع عام جديد. وما زلنا نتابع نتائج تلك القمة المحورية التي انعقدت برعاية سعودية وجهود كويتية، وانتهت إلى الدعوة بالمصالحة، ولكننا نقول بعد المصارحة أيضاً.
ثانياً: إن التوقيت الحالي لمثل هذه التوجهات الإيجابية لتسوية الخلافات وتقزيم حجمها على نحو يسمح بمضي المسيرة العصرية للدول العربية في ظل إدارة أميركية جديدة بعد رئيس كان دائماً مختلف الأطوار ومثار غرابة ودهشة في كثير من مواقفه التي كان يصعب التنبؤ بها حتى أصبحت صورة الولايات المتحدة مشوهة وترنح تمثال الحرية على ضفاف المحيط، فضلاً عن العدوان على الديمقراطية الغربية عموماً، والتبشير بغروب شمس التفوق الغربي الذي فشل في اختبارين متتاليين، أولهما المواجهة مع فيروس كورونا، والثاني تمثل في محاولات نشر الفوضى للحيلولة دون حدوث انتقال سلس للسلطة في واشنطن على نحو جعلنا نحن أصحاب الربيع العربي نتحدث الآن عن الخريف الأميركي، فالمشاهد التي رأيناها على شاشات التلفزيون تبدو غير مسبوقة، كما أن حالة الشغب حول البيت الأبيض وداخل الكونغرس غير مسبوقة بكل المعايير وتوحي بأن خطراً داهماً يتهدد النظام الأميركي برمته، ويضع دستور البلاد في اختبار صعب ومأزق حقيقي.
ثالثاً: لا نكاد نعرف اضطراباً إقليمياً كذلك الذي نشهده الآن، فأطماع إيران امتدت لكي يكون النشيد الوطني الفارسي هو نشيد الحوثيين في جنوب الجزيرة العربية، ولا عجب، فقد أعلن مسؤول إيراني ذات يوم عندما دخل الحوثيون صنعاء أن العاصمة العربية الرابعة سقطت في يد إيران بعد بغداد ودمشق وبيروت، وهذا الإعلان الاستفزازي يعبر عما تفكر فيه إيران ويشير إلى أحلامها المستقبلية فإذا أضفنا إلى ذلك، التصرفات التركية غير المسؤولة والتي يمارسها أردوغان في شرق المتوسط وعلى الحدود السورية والعراقية، فضلاً عن دوره العدواني في ليبيا وحشده فلول “داعش” ودعمه الإرهابيين على الحدود الغربية لمصر في محاولة لتمزيق أوصال الأمة ودق إسفين بين دولها مع استهداف خاص لمصر لأنها الدولة المركزية المحورية التي يطلق عليها أحياناً “رأس الخيمة”، فإذا سقطت مصر والسعودية والدول ذات الثقل ـــ لا قدّر الله ـــ فلن تقوم لنا قائمة لعشرات السنين القادمة.
رابعاً: لقد حان الوقت لكي ندرك نحن العرب أن أي خلافات تنشب بيننا، تخصم من قدراتنا وعبء على مستقبلنا، وأن الحد الأدنى من التكامل الاقتصادي والتنسيق السياسي هو أفضل بكثير مما نحن عليه الآن، لذلك فإن مبادرات المصالحة تحتل حيزاً كبيراً من تفكيرنا وتسيطر على عقولنا لأنها المفتاح الحقيقي لبوابة المستقبل الذي يتسم بالاستقرار والقدرة على مخاطبة الغير، وفقاً للمفردات الجديدة في أدبيات الحياة السياسية المعاصرة، بل والعلاقات الدولية بكاملها، فيجب ألا يكون العرب عبئاً على حضارة العصر، بل يتعين عليهم أن يقطعوا شوطاً كبيراً في تحديث الدولة وترشيد السياسة وتوسيع الرؤية بما يضعنا في مكان لائق على الخريطة السياسية المعاصرة ويجعلنا شركاء حقيقيين في حضارة العصر، فالعلاقات الدولية الحالية تستلزم العوم ضد تيار التخلف، فإما أن تتقدم الدول العربية أو تظل على جمودها فيجرفها التيار العكسي إلى الوراء مرة أخرى، لذلك فإن الشفافية القومية والصدق مع الذات والتعبير الواضح الصريح عن القضايا المختلفة أمور واجبة لأن إخفاء المشاعر الحقيقية والتلون السياسي لا يجدي كثيراً، فالقومية التي تجمع شمل العرب، خصوصاً أن الظروف متشابهة والضغوط الدولية متقاربة وأطماع الآخرين في الموارد الطبيعية والبشرية للدول العربية أمر نلاحظه كل يوم ولا يختلف عليه اثنان من أبناء الأمة العربية، وهو ما يلزمنا بضروة الحذر مما هو قادم وترقب فتح الإدارة الأميركية الجديدة لملفات قديمة ارتبطت من قبل بإدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، الذي كان الرئيس الجديد بايدن نائباً له.
خامساً: إن محنة جامعة الدول العربية والوضع الصعب الذي يواجهه العاملون فيها عند محاولتهم إرساء قواعد جديدة وتوظيف الروح القومية لمساندة العمل العربي المشترك، هي مواضيع تستحوذ على القدر الأكبر من تفكيرنا وتدفعنا دفعاً إلى ضرورة إصلاح المسار وترشيد السياسات والوعي الكامل بالملفات الجديدة المطروحة على الساحة الدولية مدركين مخاطر دول الجوار وأطماعهم بما نملك وهو ما نشهده يوماً بعد يوم من ممارسات ملتوية وضغوط واضحة على عواصمنا العربية، ولا أجد غضاضة في أن أقول إن المصالحة الشاملة لا بد أن تقترن بالمصارحة الكاملة. ولو تعود العرب أن يقولوا ما في قلوبهم دون مواربة أو تلوين لكانت أوضاعنا أكثر استقراراً، لذلك فإن قراءة المستقبل هي الفصل المثير في حياتنا الراهنة.
إن المصالحة ضرورة تحتمها ظروف المنطقة وأطماع الجيران حتى ولو لم تكن بيننا وبينهم حالة حرب، وقد لا تكون، إلا أن الدول المهمة على الحدود العربية، وهي إيران وتركيا وإسرائيل، بالإضافة إلى بعض الجيوب في شرق أفريقيا تمثل في مجموعها مخاطر يجب التنبه لها والالتفات إليها في ظل مصارحة كاملة ومصالحة شاملة.
المقالة تعبر عن راي الكاتب
اندبندنت