“البهلوانيون” يغامرون بالمشي على حبل حياة مهددة بالسقوط
انطوان جوكي
البهلوانيون هم عادة أولئك الذين يسيرون على حبل مشدود على علو شاهق، مزوّدين بعتلة طويلة للحفاظ على توازنهم. لكن في رواية “البهلوانيون” للكاتب الجزائري محمد عيساوي، التي صدرت حديثاً عن دار “غاليمار” الباريسية، إنهم الراوي وسائر الشخصيات التي تحيط به وتسير مثله، لا على حبل مشدود داخل سيرك، بل على حبل الحياة، مهددة بالسقوط مع كل خطوة. أما العتلة، فهي العلاقة الجميلة والمؤثّرة التي تربط العاملين في الشأن الإنساني والبؤساء المستفيدين من مساعداتهم، ويسلّط عيساوي ضوءاً كاشفاً عليها، جاعلاً منها موضوعاً مركزياً وآسِراً لروايته.
الراوي شاب جزائري ثلاثيني يدعى كاتب وأمضى طفولته البائسة في قرية نائية قرب أمه التي عانت الأمرّين لتوفير قوتهما بعد رحيل والده. لكن بدلاً من الإذلال والفقر، نراه يحفظ من هذه الطفولة “نوعاً من اللامبالاة” وذكريات جميلة تحضر إلى ذهنه على شكل نتف: ركضه بلا كلل على دروب متربة، نومه في ظل شجرة قرب النهر، مشاعر الغبطة التي طبعت حياته اليومية في القرية، قبل أن يغادرها في سن التاسعة بلا رجعة.
في فرنسا حيث استقر مع أمه، يتعلم كاتب الإصغاء إلى العالم والآخرين. ولأن والدته أمّية لا تتقن لغة موليير، يبذل ما يلزم من جهد ليس فقط لتعلّم هذه اللغة، بل للإحاطة بكل ثرائها وتملّك فن الكتابة بها. هكذا، يحصّل كاتب شهادة تلو الأخرى ويحقق حلم أمّه حين يصبح كاتب سِيَر أشخاص مجهولين يريدون ترك أثر عن حياتهم ولا يجدون الكلمات المناسبة لسردها. أما مراجعه التي تعلّم منها الكثير ويقرّ بدينه تجاهها، فهي لويس أراغون، بول إيلوار، أندريه بروتون وخصوصاً ألبير كامو، ليس فقط لأنه يتشارك معه أصوله الجزائرية ومحنة الأم، بل لأنه يعشق ما كتبه صاحب “الغريب” عن الحياة والإنسان. ولذلك، يجعل منه مرشداً وأباً روحياً، هو الذي لم يعرف والده قطّ.
عزلة باريس
في باريس، يعيش كاتب داخل عزلة مطبقة لا يقطعها سوى لقائه من حين إلى آخر بشخصيات قليلة، كالشرّيد الفيلسوف الذي يناقش معه في مقهى قرب منزله كتابات جان جاك روسو حول الحرية الفردية وارتهان الإنسان الذي يعيش داخل المجتمع لنظرة الآخرين، وصديق طفولته بيزنيس الذي يطرق بابه كلّما خطر على باله مشروع جديد. ولا شك في أن هذه العزلة هي التي ستستحضر غالباً إلى ذهنه علاقته بالشابة ناديا التي التقى بها أثناء دراسته ولم يتجرّأ على البوح لها بمشاعره تجاهها، فعاشرها بشكلٍ عذري رقيق لفترة قبل أن يفترق درباهما ويفقد أثرها. وحين يعرف بالمصادفة أنها تعمل في الشأن الاجتماعي لتحسين حياة البؤساء، تدفعه الرغبة في العثور عليها إلى تقبّل دعوة طبيب نفسي شهير في المشاركة في اختبار غايته إنقاذ كائنات فقدت كل شيء عبر حثّها ومساعدتها على قول محنتها كتابة، من منطلق سلطة الكلمات الشفائية.
الرواية الجزائرية الفرنسية (دار غاليمار – باريس)
هكذا يتقرّب كاتب من الجمعيات الفرنسية الناشطة في مجال المساعدات الإنسانية، مثل “مطاعم المحبة” و”الحراك من أجل كرامة العالم الرابع” و”أخوة الفقراء الصغار” و”أموات الشارع”، وينطلق في جمع الشهادات من أولئك الذين يحتاجون إلى مَن يصغي إليهم، فيضع قدراته الكتابية في خدمتهم ويصبح كاتب سِيَرهم، وهي مهمة عسيرة وحسّاسة تتطلّب عدم الإفراط في التعاطف معهم والمحافظة على مسافة منهم واحترام ما يقولونه من دون الوقوع في الشفقة. وفي هذا السياق، نتعرّف إلى ليلى وموسى وشانتال ولورا الذين يحاولون عبثاً الخروج من محنتهم ويكافحون بطاقة اليأس للبقاء أحياء والإمساك مجدداً بخيط حياتهم، وإلى مونيك وأنيك وجان بول وجيجي وماكس الذين ينشطون في السرّ قرب المحرومين، والمهددين دوماً، بحكم عملهم الصعب، بفقدان خيط حياتهم.
أسلوب الربورتاج
بالتالي، “البهلوانيون” في رواية عيساوي هم الطرفان معاً، وأيضاً الراوي الممزّق بين “هنا” و”هناك”، والمحكوم، بحكم هويته المزدوجة، بالسير على خيط مشدود بين ضفتين، بين بلده الأم وبلده في التبنّي، بين الطفل الذي عاش في منزل بلا سقف وكان يقتات خبزاً مبلولاً بالزيت ويرتدي ثياباً من جمعية “الإغاثة الشعبية”، وبين الرجل الذي بات كاتباً وصاحب شقة في باريس ويمارس رياضته اليومية في حديقة “القصر الملكي”. ومن الجزائر إلى فرنسا، ومن الحي الفقير في ضاحية باريس إلى حيّ بورجوازي داخلها، نراه يبحث كل يوم عن توازن ثقافي واجتماعي ويحفظ داخله شكوكه وذلك الشعور بالذنب الذي يتسلّط على من هم في وضعه، قبل أن يواجه تدريجاً شروخه الشخصية لدى اتصاله وإصغائه إلى تلك الكائنات المعذّبة التي يلتقي بها أثناء تأديته مهمته وتتراوح بين رجال ونساء سقطوا من “حبل” حياتهم، وآخرين يبحثون عن إنجاز ذاتهم في مساعدة غيرهم.
تجدر الإشارة هنا، إلى أن عيساوي يلجأ غالباً إلى أسلوب الريبورتاج لتصوير بدقة، ومن أقرب مسافة ممكنة، الوضع المأساوي لمحرومي مجتمعاتنا الذين لا يعانون من بؤسهم بقدر ما يعانون من كونه غير مرئي من قبل الآخرين، ومن استبعاده إياهم عن سائر الناس الذين يتجاهلونهم. وفي هذا السياق، يخطّ تأملات في العمل الإنساني يتوقف فيها بالتفصيل عند ما تنجزه جمعيات خيرية كثيرة في فرنسا، وفي مقدمها “مطاعم المحبة” التي نعرف المعونة الغذائية الطارئة التي تقدمها للمحتاجين، لكننا نجهل ما تبذله من جهد جبار وحميد من أجل مساعدتهم على العثور مجدداً على استقلاليتهم.
من هذا المنطلق، لم يبالغ الناقد الذي اعتبر أن عيساوي “كتب رواية الإحسان وحب الآخر من حيث أنهما يحملان أمل العالم”. فالرقة والتواضع يرشدان بشكل ثابت راويها في سعيه الدؤوب لفهم خيارات الأشخاص الذين يلتقي بهم، والحب يلوّن صفحاتها ويحضر بجميع أشكاله في أماكن مختلفة منها: في قصة كاتب وناديا العاطفية التي تستحضر من بعيد قصة أندريه بروتون ونادجا، في علاقة كاتب الكريمة بالفيلسوف الشرّيد أو بصديقه بيزنيس، في علاقته بأمه التي انتقلت به من بلد “أيام بؤسهما السعيدة” إلى بلد لا تملك مفاتيحه وتفانت من أجل توفير حياة أفضل له، خصوصاً في علاقة الناشطين في العمل الإنساني بالمستفيدين من نشاطهم التي يتجلى فيها حب من نوع آخر، حب مبني على خدمة المنبوذ اجتماعياً، ومسلّح بصبر وتعاطف نادرَين. حب لا يتباهى بما ينجزه ويجد سعادته في ما هو حقيقي. حب يتحمل كل شيء، يثق بكل شيء ويأمل في كل شيء.
بالنتيجة، تشكل “البهلوانيون” درساً للقارئ في الإنسانية، وفي الوقت نفسه، تأملاً بصيراً في بحث كل منا عن هويته وتوازنه. ومن خلال المهمة التي يضطلع راويها بها، نتلقاها أيضاً كنشيد احتفاء بقدرة الكتابة والأدب على قول محنتنا ورأب تصدعاتنا.