“ريفييرا” في جحيم… صراعات وحروب تجارية

أميركا في حاجة إلى التعلم من المثل الأرمني القائل: “إذا كان صدرك ضيقاً فماذا ينفعك وسع العالم؟”

رفيق خوري كاتب مقالات رأي

ترمب يرفع شعار إنهاء الحروب في العالم، ويبدأ حرباً تجارية هي أخطر الحروب، وسلاحه، مع التزام الحرص على بقاء أميركا أقوى قوة عسكرية في العالم، هو العقوبات الاقتصادية والرسوم الجمركية، أما حلوله فإنها تبسيطية في أزمات بالغة التعقيد، وأما أسلوبه في المخاطبة فإنه خارج المألوف في المخاطبات الرئاسية: شيء من الخفة، وشيء من الفجاجة، والظاهر أنه ناجح على المدى القصير، إذ رفع العصا على كولومبيا وبنما وكندا والمكسيك، فرضخ رؤساؤها لمطالبه حول القناة والحزام والطريق والمهاجرين وأمن الحدود والخلل في الميزان التجاري.

كان الرئيس تيودور روزفلت يقول: “تكلم بصوت ناعم واحمل عصا غليظة”، لكن الرئيس دونالد ترمب الذي يقلد الرئيس أندرو جاكسون بدأ ولايته الثانية بصوت خشن وعصا غليظة جداً، فهو يتصور أن تفويضه الشعبي الواسع في ظل كونغرس جمهوري بمجلسيه يعطيه القدرة على فعل ما يريد، وليس ما يريده تحت شعار “أميركا أولاً وعظيمة ثانية” هو ممارسة “الانعزالية” عن العالم بل تغيير سياسات العالم لتكون ملائمة لسياسة “أميركا أولاً”.

ترمب يرفع شعار إنهاء الحروب في العالم، ويبدأ حرباً تجارية هي أخطر الحروب، وسلاحه، مع التزام الحرص على بقاء أميركا أقوى قوة عسكرية في العالم، هو العقوبات الاقتصادية والرسوم الجمركية، أما حلوله فإنها تبسيطية في أزمات بالغة التعقيد، وأما أسلوبه في المخاطبة فإنه خارج المألوف في المخاطبات الرئاسية: شيء من الخفة، وشيء من الفجاجة، والظاهر أنه ناجح على المدى القصير، إذ رفع العصا على كولومبيا وبنما وكندا والمكسيك، فرضخ رؤساؤها لمطالبه حول القناة والحزام والطريق والمهاجرين وأمن الحدود والخلل في الميزان التجاري.

ولوح ترمب بفرض رسوم جمركية على أوروبا، فرد الاتحاد الأوروبي بأنه قوي وقادر على فرض رسوم مضادة، كذلك فعلت الصين بالطبع، وليس أمراً عادياً أن يتهم رئيس أميركي حلفاء بلاده بأنهم “ينهبون أميركا”، ولا أن يرفع شعار: اشتروا من أميركا أو نفرض عليكم رسوماً جمركية، والمعادلة الجديدة هي لا شيء بالمجان: لا الأمن ولا المساعدات ولا التحالف، “لدى أوكرانيا معادن ثمينة، والمعادن مقابل المساعدات” يقول ترمب.

كندا تعجبه أو تزعجه ويراها في أزمة مالية، فيطلب ضمها إلى أميركا لتصبح الولاية الـ51، جزيرة غرينلاند يغريه موقعها الإستراتيجي في الصراع والتنافس مع الصين وروسيا، فيعرض شراءها ويهدد باحتلالها ليأتيه الرد من الدانمارك: غرينلاند ليست للبيع.

 أما الأغرب والأخطر فإنه ما سمي “الحل المبتكر من خارج الصندوق” للوضع في قطاع غزة، حيث “لا ضمان لاستمرار الهدنة” ولا اتفاق على صورة “اليوم التالي”.

ذلك أن ترمب يطرح حلاً على طريقة المطور العقاري التي جعلته ثرياً: سيطرة أميركية طويلة المدى على غزة المدمرة، مع تهجير أهلها، وإعادة إعمارها لتصبح “ريفييرا الشرق الأوسط”، وضم أجزاء من الضفة الغربية إلى إسرائيل لأنها صغيرة الحجم مثل “رأس قلم” على مكتب ترمب كرمز للشرق الأوسط.

ولا توقف أمام الرفض الفلسطيني والعربي والدولي للتهجير المخالف للقانون الدولي، ولا أمام الرفض المصري والأردني لاستقبال أهل غزة المهجرين، بل إيحاء أن القبول ممكن وإشارة إلى ست دول تقبل المهجرين، لكن حل ترمب السوريالي هو فصل جديد في التراجيديا الفلسطينية، “ريفييرا” في جحيم الشرق الأوسط، “ترانسفير” عجزت عنه إسرائيل منذ عقود، ولا شيء يبقى لدولة فلسطينية إذا سيطرت أميركا على غزة المفصولة عن فلسطين، وضمت إسرائيل معظم الضفة الغربية.

السؤال يختصره قول أميركي شهير: أين اللحم في كل هذه الصلصة؟ ما مشروع ترمب للشرق الأوسط؟ ليس في الأجوبة حتى الآن مشروع متكامل قابل للحياة، مجرد أجزاء غير متناسقة. فالأولوية المعطاة لتوسيع “اتفاقات أبراهام” وبصورة خاصة مع السعودية تصطدم بحاجزين كبيرين: إعادة السعودية التأكيد بلسان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أنه “لا علاقات مع إسرائيل قبل قيام دولة فلسطينية”، وتكرار نتنياهو وحلفائه الرفض المطلق لـ”حل الدولتين”، وتجاهل إدارة ترمب هذا الحل الذي التزمته الإدارات السابقة، ولو من دون دفع قوي نحوه. والباب مع الوضع الجديد في سوريا لا يزال باباً مفتوحاً على أسئلة تحتاج إلى أجوبة عملية على الأرض لجهة الحكومة الشاملة والدستور والانتخابات والموقع الجيوسياسي.

أما التعامل مع إيران، فإنه خيار معقد واختبار لمواقف الطرفين الحقيقية، ما يبدأ في واشنطن بمذكرة “الضغط الأقصى” ومنع امتلاك السلاح النووي وحرمان إيران من بيع نفطها ليس سوى أول الرقص بالنسبة إلى إسرائيل، التي تريد ضربة عسكرية أميركية وإسرائيلية للمشروع النووي وأذرع طهران في المنطقة ونهاية للمشروع الإقليمي الإيراني. وما يبدأ في طهران من نفي للرغبة من امتلاك سلاح نووي، واستعداد لحوار مباشر مع ترمب، يراد له أن يقود إلى تفاهم مع “الشيطان الأكبر”، يسمح لإيران بتقوية أذرعها وضمان مشروعها الإقليمي وموقعها في نظام أمني إقليمي جديد.

وأما الصراع مع الصين وروسيا، فإنه “أم الصراعات”، زعيم الجمهوريين السابق في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل يرى أن “التنافس مع الصين ليس حول الصويابينز والسيارات الكهربائية بل حول مستقبل النظام العالمي، ومن الخطأ التركيز على منطقة والانسحاب من أخرى، ولا بد من مركزية القوة الخشنة في السياسة الخارجية الأميركية”، وأندريا كيندال تايلور ومايكل كوفمان يريان أن “إدارة ترمب لا تملك ترف حذف روسيا من لائحة أولوياتها السياسية، لأنه إذا رأى بوتين ذلك فسيصبح أكثر طموحاً للعمل على إضعاف أميركا وحلفائها”. والميزان هو أوكرانيا، أي ضغط أميركي على أوكرانيا بقبول صفقة مؤلمة يضع أوروبا تحت رحمة بوتين، ومن السهل على سوزان مالوني من “بروكنغز” أن تقترح عقد “صفقة قرن حقيقية وإنهاء الصراعات في الشرق الأوسط وإعطاء أفق سياسي وإعادة بناء للفلسطينيين واللبنانيين وشيء من التنازلات لإيران” لكن من الصعب على ترمب أن يفعلها.

وأميركا في حاجة إلى التعلم من المثل الأرمني القائل: “إذا كان صدرك ضيقاً فماذا ينفعك وسع العالم؟”.

المقاله تعبر عن راي كاتبها