استقلال 1943 والاستقلال الثاني في 2005 لم يتمكنا من حماية لبنان من الانقسامات والتدخلات الإقليمية والدولية
طوني بولس @TonyBouloss
في الذكرى الـ81 للاستقلال، يواجه لبنان تحدياً وجودياً وسط أزمات داخلية وهيمنة “حزب الله” المدعوم من إيران، الذي أنشأ “دويلة” موازية تتفوق على الدولة بقوة السلاح والاقتصاد غير الشرعي. تحولت البلاد إلى ساحة لتبييض الأموال وتهريب المخدرات، فيما يخوض الحزب حروباً إقليمية تخدم أجندات إقليمية، معززاً ثقافة عقائدية متطرفة تناقض قيم الانفتاح والحياة التي تميز اللبنانيين.
بين الأنقاض ومن تحت ركام المدن والقرى والبلدات، يأمل اللبنانيون أن ينتهي المخاض العسير بولادة لبنان الجديد، إذ تطل الذكرى الـ81 للاستقلال والبلاد ساحة حرب بين إسرائيل ومحور “الممانعة” الذي يجسده “حزب الله”، تستبيح ما تبقى من معانٍ لسيادة الدولة ومؤسساتها، وتجعل من “الاستقلال” ذكرى تاريخية أكثر منه حقيقة.
لبنان الذي نال استقلاله الأول في الـ22 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1943 عن الانتداب الفرنسي، عاد وفقده مرات عدة ليسقط فريسة أخطاء الداخل وتآمر الخارج، حيث لم يكد ينعم بعصره الذهبي حتى دخل زمن الاضطرابات بفعل تداعيات القضية الفلسطينية وانقسام حاد بين يسار مؤيد لأن يكون لبنان منطلقاً لعمل “الكفاح المسلح” لتحرير الأراضي الفلسطينية، ويمين متشدد رافض التفريط بمنجزات الدولة وتحويل البلاد إلى ساحة صراع إقليمي، فدخل لبنان عام 1975 حرباً أهلية أوقفها اتفاق الطائف عام 1990 الذي أوقف المدفع ووضع خارطة طريق الاستقلال الثاني، الذي بقي مؤجلاً حتى عام 2005 بفعل قرار دولي حول دور سوريا من مراقبة على تنفيذ “الطائف” خلال عامين إلى سلطة وصاية دامت 15 عاماً.
وجاء الاستقلال الثاني في 2005 عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حين خرج النظام السوري تحت ضغط شعبي ودولي، وتنفيذاً جزئياً للقرار الدولي 1559، إلا أن هذه المرحلة حملت معها انقسامات جديدة، أبرزها الانقسام حول سلاح “حزب الله” الذي ترسّخ كقوة عسكرية وسياسية تفوق الدولة نفسها، أعاق استكمال الدولة مسيرتها نحو الاستقلال الحقيقي بسبب ولائه لإيران وتوظيف لبنان كمنصة في مشاريعها الإقليمية.
“الدويلة” الحاكمة
ولعل ما شهده لبنان طوال تلك المرحلة يكاد يكون أخطر من احتلال يتمثل بجيوش غازية، إذ سيطر حزب “لبناني” على القرار السياسي والعسكري والاقتصادي للبلاد من الداخل، مما أسقط البلاد تحت وصاية “حزب الله”، الذي أنشأ بدعم إيراني دويلة دينية متطرفة داخل الدولة اللبنانية، تفوقت على مؤسساتها الشرعية من جهة القوة والنفوذ، فبات لتلك “الدويلة” اقتصاد رديف خارج القانون، يتضمن شبكات لتبييض الأموال وتهريب المخدرات إلى دول عدة، الأمر الذي قوض النظام المالي الشرعي، وكرس عزلة لبنان عن المجتمع الدولي.
هذا إضافة إلى بناء جيش موازٍ للقوات المسلحة اللبنانية، يمتلك ترسانة عسكرية ضخمة تتفوق على الجيش الشرعي، ويخوض حروباً خارج الحدود اللبنانية خدمة لأجندة إيران الإقليمية. من سوريا إلى اليمن والعراق، لعب “حزب الله” دوراً رئيساً في زعزعة استقرار دول المنطقة.
إلى جانب سيطرته العسكرية والاقتصادية، نشر “حزب الله” فكراً عقائدياً متطرفاً لا يشبه ثقافة الحياة التي كثيراً ما عُرف بها اللبنانيون، يعتمد على تمجيد الموت وتغليب ثقافة الحزن والكراهية بدلاً من الانفتاح والفرح والإبداع، مما شكل صدمة لثقافة اللبنانيين القائمة على التنوع والحيوية.
في الذكرى الـ81 للاستقلال، يقف لبنان أمام تحد وجودي، فالحرب ستنتهي في نهاية المطاف، واستمرار غياب جبهة وطنية لبنانية تعيد التوازن للداخل قد يفتح المجال لتسوية بين المتقاتلين تسهم في ترسيخ “الدويلة”، ومن ثم فاستمرار دويلة “حزب الله” يشكل خطراً ليس فقط على سيادة لبنان، بل على مستقبل شعبه وهويته الثقافية. إلا أن إرادة اللبنانيين وتاريخهم في مقاومة الاحتلالات تمنحهم الأمل في تحقيق استقلال ثالث ونهائي.
خارطة طريق
استقلال لا يُبنى على التسويات الموقتة، بل على سيادة وطنية صلبة، دولة مدنية حديثة، وعودة لبنان إلى دوره الحضاري كنموذج للتعايش والانفتاح في المنطقة، وهذا يتطلب من دون مواربة مواجهة شاملة للدويلة التي بناها “حزب الله”، والتي تُعتبر العائق الأكبر أمام سيادة الدولة. ولتحقيق ذلك، يجب:
1. نزع السلاح غير الشرعي: تنفيذ اتفاق “الطائف” والقرارات الدولية، لا سيما القرارين 1559 و1701، لنزع سلاح “حزب الله” وبسط سيادة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية.
2. تفكيك الاقتصاد الموازي: تعزيز مؤسسات الدولة وضبط الاقتصاد، مع ملاحقة شبكات التهريب وتبييض الأموال، وإعادة إدماج الاقتصاد اللبناني في المنظومة الدولية.
3. العودة إلى الهوية الوطنية: نشر ثقافة الانفتاح والتعددية، وتحرير المجتمع من الأيديولوجيا الدينية المتطرفة التي فرضها الحزب بدعم إيراني.
4. التضامن الداخلي: توحيد الصفوف بين مختلف القوى اللبنانية لإعادة بناء الميثاق الوطني على أسس حديثة تضمن المساواة بين جميع اللبنانيين بعيداً من أي هيمنة طائفية أو عقائدية.
5. تعزيز الدعم الدولي: الاستفادة من الدعم العربي والدولي لإعادة بناء المؤسسات، ودعم الجيش اللبناني كقوة وحيدة مسؤولة عن الدفاع عن لبنان.
شرق أوسط عربي
وعلى رغم الأزمات الخانقة يظل الأمل ممكناً. المخاض الذي يمر به لبنان يتزامن مع تغيرات إقليمية ودولية. رؤية المملكة العربية السعودية 2030، التي تعزز الاستقرار والازدهار في المنطقة تشكل فرصة تاريخية للبنان ليكون جزءاً من مشروع نهضوي عربي.
لكن لتحقيق ذلك، على لبنان انتخاب رئيس استثنائي يعيد انتظام عمل المؤسسات، ويضمن تنفيذ اتفاقات تُخرج لبنان من أزماته. استقلال لبنان الثالث لن يتحقق إلا عبر سيادة وطنية صلبة ودولة مدنية حديثة تعيد للبنان دوره الحضاري كنموذج للتعايش والانفتاح في المنطقة.
المقاله تعبر عن راي كاتبها