حرب غزة ستكون بلا جدال نقطة تحول ضخم في القضية الفلسطينية ولن تعود المنطقة لما كانت عليه
مصطفى الفقي كاتب وباحث
أطل علينا عام 2024 بمزيد من الصور الحزينة والمناظر المؤلمة للحرب الإسرائيلية على أبناء غزة والشعب الفلسطيني عموماً وكل من يسانده في محنته غير المسبوقة في تاريخ قضايا التحرر الوطني، وأصبحنا أمام مشهد مروع للخيط الرفيع بين الحياة والموت حتى إن مراسلاً صحافياً عربياً فقد أسرته بالكامل تقريباً وظل يثابر في مواصلة عمله الشريف للكشف عن جرائم إسرائيل التي لطخت جبين الإنسانية لفترة طويلة، امتلأت فيها أرض فلسطين بالأشلاء والدماء والضحايا من المدنيين الأبرياء حتى كاد عدد القتلى يقترب من عدد الأحياء في كل أسرة فلسطينية وربما يزيد.
إنها مأساة العصر وجحيم يكتوي بناره الأطفال والنساء وكبار السن وغيرهم من المشردين خارج بيوتهم والنازحين من مكان إلى مكان، وكأنما كتب عليهم الترحال اليومي في ظل ظروف قاسية بسبب تدني الخدمات الصحية وغياب المواد الغذائية، فضلاً عن برودة الطقس والحياة في العراء.
لقد قررت شخصياً ألا أعير انتقادات الغرب، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية، لانتهاكات حقوق الإنسان في بلادنا والاتهام المستمر لنا بالمضي في خروقات في هذا الشأن بعد أن شهدت ردود الفعل الغربية الرسمية التي لم تحرك ساكناً أمام جرائم إسرائيل، بل غطتها واشنطن باستخدام “الفيتو” عند اللزوم.
لقد أصبحنا أمام مشهد عبثي بالكامل لا يسمح أبداً لأصحاب سياسة المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين أن يتحدثوا مرة أخرى عن حقوق الإنسان في بلادنا، وأنا لا أزعم أنها مثالية، ولكن مقارنتها بمجازر غزة و”الهولوكوست” الجديد الذي يعاد تكراره بسيناريو مشابه لما جرى في الحرب العالمية الثانية ضد اليهود على يد النازية وكأنما تريد إسرائيل أن تنتقم لضحاياها ممن لا ذنب لهم ولا جريمة عندهم، ولكنها غطرسة إسرائيل وشهوة القتل واصطياد البشر بصورة جماعية تقترب من مواسم اصطياد الطيور والحيوانات البرية، وهي أمور قد تبدو مفزعة لبعضهم، فما بالنا إذا كانت ممارستها تتم داخل الغابة البشرية الجديدة التي افترس فيها جيش الاحتلال عشرات الألوف من أبناء الشعب الفلسطيني الذين يدفعون أغلى فاتورة بالدم البشري في القرن الـ21.
هنا يتعين علينا أن نسجل عدداً من الانطباعات التي نخرج بها من مأساة الحرب على غزة وأبناء فلسطين الذين لم يبخلوا بالتضحيات وصمدوا صمود الأبطال، فأحزان فلسطين ستبقى دائماً وصمة عار على جبين الحضارة الغربية والثقافة الأوروبية- الأميركية التي جاءت لنا بمن تجردوا من المشاعر الإنسانية والدوافع الأخلاقية، ونوجز تلك الانطباعات في ما يلي:
أولاً: إن حرب غزة الأخيرة ستكون بلا جدال نقطة تحول ضخم في القضية الفلسطينية ولن تعود المنطقة لما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، وهنا لا أدعي أن الفلسطينيين كانوا يعيشون برفاهية واستقرار قبل “طوفان الأقصى”، بل الثابت والمؤكد أنهم عانوا كما لم يحدث لغيرهم من قبل، فهدمت إسرائيل المنازل على رؤوس سكانها وابتدعت نظرية جديدة في الإعدام بالشوارع وكان ذلك كله في وقت انفض كثير من العرب عن القضية الفلسطينية وفقد غيرهم حماستهم لها.
لقد كشفت أحداث غزة الأخيرة عن التحولات التي طرأت على سياسات بعض الدول التي كانت مؤيدة بصورة كبيرة للقضية الفلسطينية، وأتذكر الآن آخر مرة زرت فيها العاصمة الهندية عام 2003 وكانت بوادر التحول الهندي والاقتراب من إسرائيل ظهرت ووقتها التقيت المسؤولين الدبلوماسيين الهنود الذين أعرفهم منذ خدمت هناك خلال الفترة من عام 1979 حتى عام 1983 دبلوماسياً في السفارة المصرية.
أتذكر أن الهند في ذلك الوقت عندما كنت أعمل هناك كانت داعمة بشدة للحقوق الفلسطينية، وقال لي أصدقائي الهنود خلال زيارتي الأخيرة تلك إنهم وجدوا أنه لا يمكن أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك وما دامت بعض الدول العربية تبادلت السفارات مع إسرائيل، فلماذا لا تتعاون الهند معها تكنولوجياً وفنياً وعسكرياً؟ وهذا ما حدث خلال الأعوام الأخيرة، إضافة إلى التحول في السياسة الهندية عموماً في الفلسفة الحالية للدولة الهندية التي تتسم بنزعة عنصرية (هندوكية) لم تكن بالوضوح الذي هي عليه الآن، فلكل دولة ظروفها وحساباتها وأهدافها.
ثانياً: إن القضية الفلسطينية هي بحق قضية الفرص الضائعة، فلقد أضعنا نحن العرب بعضاً منها وربما كان معنا الحق، فعروض إسرائيل دائماً غامضة وسياساتها سيئة النية تعطي باليمين وتأخذ بالشمال. نعم، إن رفضنا لقرار التقسيم عام 1947 ربما كان خطأً وقعنا فيه ولكن الحقائق لم تكن واضحة ولا الأمور مستقرة.
أتذكر من تجربتي الشخصية عام 2000 أنني كنت المساعد الأول لوزير الخارجية المصري والمسؤول عن ملف القضية الفلسطينية وجرت وقتها محادثات ياسر عرفات وإيهود باراك التي انتهت برفض العرض الإسرائيلي للسلام الذي لم يكن واضحاً، بل كانت خرائطه غامضة.
كما أتذكر الآن أن المرة الأولى التي سمعت فيها تعبير “القضية الفلسطينية هي قضية الفرص الضائعة” كانت من وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق أبا إيبان عندما ذكرها في محاضرة هي الأولى من نوعها عام 1977 في النادي الدبلوماسي المصري بالقاهرة، وكان ذلك أمراً غير مسبوق ولكن أبا إيبان استطرد في تذكير الحاضرين ببعض المحاور المفقودة في الصراع العربي- الإسرائيلي التي أدت إلى ما آل إليه.
وأتذكر اليوم الدعوة التي تلقتها مصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية والولايات المتحدة الأميركية لحضور مؤتمر “مينا هاوس” عام 1978، ولكن غياب المنظمة جعل مقعد فلسطين خالياً وأجهض احتمال تحقيق أهداف كان يمكن أن تكون فرصة مبكرة لإرهاصات السلام بين إسرائيل والعرب.
ثالثاً: إن المقاومة الفلسطينية الباسلة للاحتلال الإسرائيلي أصبحت الآن رقماً صعباً في مواجهة سياسات إسرائيل بجوانبها العنصرية والعدوانية والاستيطانية، ولم يعُد من الممكن تجاهل الشعب الفلسطيني واعتباره سلعة قابلة للتداول عند اللزوم، بل تجسدت من خلال المقاومة شخصية الشعب الفلسطيني بتاريخه وتراثه وبتضحياته وصموده، وأضحت الدولة الفلسطينية المستقلة مطلباً يطالب به الجميع حتى في الولايات المتحدة الأميركية وتؤيده العواصم الغربية ويسعى الجميع من أجله، باستثناء واحد هو بنيامين نتنياهو الذي لا يؤمن بالشعب الفلسطيني ولا يعترف إطلاقاً بحقوقه ويتوهم أن أوهام القوة ستصنع له يوماً الانتصار، وهو ما لم يحدث حتى الآن ولا أظن أنه سيمكن أن يأتي يوم تتحقق فيه أحلام نتنياهو واليمين الإسرائيلي المتطرف وغطرسة المستوطنين هناك الذين يعتمدون جميعاً على جبروت القوة المستمدة من تكنولوجيا السلاح لإرهاب الآمنين وترويع المواطنين والعبث تماماً بخريطة الأراضي الفلسطينية، متصورين أن الحقوق يمكن أن تضيع وأن النضال توقف يوماً ما، وهو ما لم يحدث لأن الشعب الفلسطيني عصي على الاندحار ولن يركع أبداً لأحلام الاحتلال، ولكنه يسعى إلى السلام العادل الشامل ليقيم دولة فلسطينية مستقلة على ترابها الوطني بعاصمة مستقلة في القدس الشرقية.
سوف تحتفظ الذاكرة الإنسانية بالمشاهد الأليمة والأحداث المروعة التي تابعناها جميعاً من كل أصحاب الملل والنحل والأعراق والأجناس في فزع مما يجري وتشاؤم ليس فقط حول مستقبل الصراع، ولكن ربما حول مستقبل الإنسانية كلها وحال التغول التي تصيب بعضهم على حساب الغير، ونحن نتطلع جميعاً إلى مستقبل أفضل للجنس البشري يوم أ تختفي المظالم وتتوقف المدافع ويسود السلام على الأرض.
المقالة تعبر عن راي كاتبها
اندبندنت