على الدول كافة التحول إلى مراكز إيجابية لصنع السلام بدلاً من أن تكون مصدراً للنزاعات الطارئة والخلافات العابرة
مصطفى الفقي كاتب وباحث
لتركيا مكانة خاصة في العالم العربي، فهي دولة المظلة العثمانية للسلطة والحكم في معظم الدول الإسلامية والعربية لقرون عدة، وهي واسطة العقد بين الشرق الأوسط وأوروبا، كما أنها دولة متعددة الأوجه فهي عضو في الحلف الأطلنطي وسعت لأعوام طويلة إلى عضوية الاتحاد الأوروبي ولكنها أخفقت في ذلك، وهي أيضاً عضو فاعل في منظمة التعاون الإسلامي وتتمتع بعلاقات متوازنة مع كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية فضلاً عن أنها تعتبر دولة آسيوية أوروبية في الوقت ذاته.
إذا أخذنا العلاقات المصرية- التركية نموذجاً فإن الحديث عنها يتركز في إطاره الحديث حول الفترة التي تلت نجاح أتاتورك في إنهاء دولة الخلافة وإعلان بلاده دولة عصرية تتطلع إلى أوروبا غرباً وتصبح عضواً فاعلاً في حلف “الناتو”، فضلاً عن الرغبة الدفينة في عضوية الاتحاد الأوروبي على رغم صعوبة ذلك، خصوصاً في العقود الأخيرة بعد وصول رجب طيب أردوغان إلى سدة الحكم، وأمامي الآن صحيفة الأهرام الصادرة الثلاثاء في الخامس من يناير (كانون الثاني) 1954 والمانشيت الرئيس لصفحتها الأولى يقول بالنص، “طرد سفير تركيا من مصر لحملاته المستمرة على سياسة قادة الثورة وتوجيهه ألفاظاً نابية لجمال عبدالناصر”.
ثم يضيف الخبر أن مجلس الوزراء يقرر رفع الحصانة الدبلوماسية عنه ويأمره بمغادرة البلاد خلال 24 ساعة. كما أذاعت وزارة الإرشاد القومي مساء ذلك اليوم بياناً رسمياً أعلنت فيه أن مجلس الوزراء قرر في اجتماعه رفع الحصانة الدبلوماسية عن السيد فؤاد طوغاي (سفير تركيا في القاهرة آنذاك) واعتباره شخصاً عادياً مع طرده من أراضي جمهورية مصر خلال 24 ساعة، وأبلغ هذا القرار إلى الحكومة التركية للعلم وأرجع البيان السابق ذلك إلى تلفظه بعبارات معادية لمصر إذ قال عنها، “إنها بلد قذر”، فضلاً عن جهله بأصول الآداب والتقاليد اللائقة بالتعامل مع رئيس الوزراء المصري وحكومته.
وظلت العلاقات مقطوعة بين الدولتين لأعوام طويلة عاصر فيها الطرفان حلف بغداد والدور الذي لعبته أنقرة في مناهضة لسياسات جديدة للثورة المصرية وحركة القومية العربية والمد العروبي لمصر في تلك الفترة.
واقع الأمر أن الحديث عن العلاقات بين مصر وتركيا يحتاج إلى مراجعة محايدة، خصوصاً منذ عصر محمد علي الكبير حتى الآن، فكيف تحالفت القوى الأوروبية عليه لتقليص إمبراطوريته باتفاق لندن 1840 عندما انسلخت مصر عن السلطنة العثمانية وآل الحكم فيها إلى أبناء وأحفاد محمد علي بعدما أبلى الجيش المصري بلاء عظيماً حتى وصل إلى مشارف العاصمة العثمانية، وبعد ذلك اتخذت العلاقات بين الدولتين منحى مختلفاً لعبت فيه التأثيرات الغربية وحركة أتاتورك الانقلابية فكرياً وسياسياً دوراً مشهوداً حتى إن أتاتورك وجه في إحدى الحفلات عند منتصف ثلاثينيات القرن الـ20 انتقاداً ساخراً للسفير المصري حقي باشا لأنه كان يضع الطربوش على رأسه وهو أمر تخلصت منه التقاليد الجديدة للدولة التركية الحديثة.
كما حظي جمال عبدالناصر ونظامه بانتقادات حادة في مواقف مختلفة تراشقت خلالها الدولتان عبارات سلبية ترتبط بظروف تلك المرحلة، ثم استقامت تلك العلاقات نسبياً في الفترة الأخيرة لعصري السادات ومبارك بل توثقت نسبياً كذلك بين مبارك وكل من سليمان ديميريل وتورغوت أوزال وجرى تبادل الزيارات بين العاصمتين على نحو يوحى بطي صفحة الماضي والتجاوز عن سلبياته من الطرفين.
إلا أن أحداث الربيع العربي وإطاحة الرئيس الراحل مبارك واندفاع جماعة الإخوان المسلمين لحشد الأنصار والترويج لسياسات تخدم مصالح الجماعة جاءت في مقدمتها مساندة قوية للجماعة ودعم شديد من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وصل إلى حد تأييده المطلق لهم وتلويحه بإشارة “رابعة” في مناسبات مختلفة، ولكن لأن السياسة ليست صداقات وعداوات ولكنها ظروف مشتركة ومصالح متبادلة فإن الأمور اختلفت بعدما استقر الوضع في مصر وأصبحت دولة تحقق إنجازات ملموسة وانتصرت في حربها الضروس على الإرهاب وحققت قدراً كبيراً من الانفتاح على دول العالم بغير استثناء، وأظهرت الدولتان تجاوباً مع تحسين العلاقات بينهما والقفز فوق الفترة التي سبقت الـ30 من يونيو (حزيران) 2013 وما جرى بعدها لأن حركة التصحيح في الثالث من يوليو (تموز) لذلك العام غيرت مجرى الأحداث لا في مصر وحدها بل في المنطقة كلها، وأصبح الجميع ينظرون إلى الإرادة الفاعلة للشعب المصري الذي وضع الأمور في نصابها وقضى على مخططات كبيرة لإضعاف الدولة المصرية بإخضاعها لسيطرة جماعات دينية متطرفة.
وها هي بوادر التوافق تلوح في الأفق، خصوصاً بعد المصافحة العابرة بين رئيسي الدولتين السيسي وأردوغان في العاصمة القطرية فضلاً عن تداعيات الزلزال المدمر الذي أدى إلى نتائج كارثية على تركيا وسوريا والمبادرة الإنسانية التي دفعت الرئيس المصري إلى الاتصال برئيسي الدولتين والمساعدة في مواجهة الحدث الذي ذهب ضحيته ما يزيد على 50 ألف تركي و5 آلاف سوري.
تمخض الأمر عن اللقاء بين وزيري الخارجية التركي والمصري لبحث الخطوات المقبلة لإعادة العلاقات إلى طبيعتها والتفاهم في المسائل المعلقة بينهما، ولا شك في أن تلك خطوة كبرى إذا تذكرنا أن وزير خارجية مصر زار العاصمة التركية آخر مرة ليسلم رئاسة منظمة التعاون الإسلامي للحكومة التركية بحسب الترتيب الخاص للمنظمة ويومها ذهب سامح شكري من المطار إلى قاعة المؤتمر وعاد للمطار مباشرة في إجراء كان يعكس تحفظ مصر على كثير من المواقف التركية التي كانت معادية للنظام الوطني في القاهرة ومتعاطفة مع بعض سياسات جماعة الإخوان المسلمين وأجهزتها الإعلامية.
تركيا دولة ترتبط مع مصر بروابط كثيرة ويجب أن تكون العلاقات بين الدولتين قوية ودائمة وألا تتحول إلى عامل سلبي في سياسات المنطقة، خصوصاً أن ما يجمع الدولتين أكبر بكثير من عوامل الخلاف بينهما، وهو خلاف عابر دائماً وموقت غالباً، ولا شك في أن الأشهر المقبلة ستشهد تطورات إيجابية، خصوصاً أن هذا العام هو عام الانتخابات الرئاسية التركية وإن كنا نستبشر خيراً بأن المستقبل الواعد في العلاقات العربية- التركية يعطي الأمل في أن أسباب الخلاف وفي مقدمتها مخاوف أنقرة من الوجود الكردي في سوريا وتطلعاتها الإقليمية في شمال العراق سوف تأخذ كلها طريقها إلى الاختفاء في ظل قوة الدولة الوطنية لكل من سوريا والعراق إذا ما تحقق لها ذلك، خصوصاً في إطار التهدئة التي برزت في العلاقات بين القاهرة وأنقرة وبين الرياض وطهران، فالجو العام للمصالحة يمكن أن يعطي الأمل في وضع أفضل على رغم أن أحداث السودان الأخيرة حملت في طياتها نذراً حول تحول منطقة القرن الأفريقي ومنابع النيل إلى مركز اضطراب محتمل نرجو أن تتغلب فيه الحكمة وتسود العدالة ويختفي التعصب.
ونرى أن الارتباط بين دول الجوار العربي ارتباط متلازم يحمل في جوهره كل دوافع الوفاق بعدما عانت المنطقة طويلاً، خصوصاً أن إسرائيل لاعب أساس في المنطقة في وقت فتحت أمامها الأبواب وأصبحت قدرتها على الحركة مختلفة عن أعوام مضت، فلم تعد العزلة طوقاً يمنعها من الحركة أو يوصد دونها الأبواب، لذلك فإن حال السيولة للعلاقات الشرق أوسطية سواء بين دوله وبعضها بعضاً أو بين دوله والقوى الأخرى في العالم المعاصر توحي كلها بأننا أمام عصر مختلف لا يخلو من الأمل وربما يحمل في طياته ما هو أفضل لتلك المنطقة الحساسة من قلب العالم المعاصر.
إن الفرس والترك والدولة العبرية ودول الجوار العربي الأفريقي يجب أن تتحول في مجملها إلى مراكز إيجابية لصنع السلام بدلاً من أن تكون مصدراً للنزاعات الطارئة والخلافات العابرة والمشكلات المزمنة.
المقالة تعبر عن راي كاتبها
اندبندنت