أين وصل الصراع بين الصين والولايات المتحدة في الشرق الأوسط على الثروات والنفوذ السياسي
وكيف تتأثر الدول العربية بتصاعد حدة التنافس بينهما مع احتمالات الحرب الباردة والاستقطاب
يحدث الآن: انسحاب أمريكي تدريجي من الشرق الأوسط مع تزايُد مصالح الصين الاقتصادية مع الشركاء الجدد.
يحدث الآن: المنطقة تحتل المركز الرابع في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية بعد آسيا والمحيط الهادئ، ثم أوروبا، ثم نصف الكرة الغربي، لكنها الشريك الاقتصادي الأكثر أهمية للصين.
وقد يحدث غداً أن تتصاعد المنافسة الشرسة بين الصين والولايات المتحدة على النفوذ هنا، فتتحول إلى حرب مفتوحة، لا تستبعد اللجوء إلى الردع العسكري والحشد على الأرض.
بدأت الصين زحفها الصامت نحو الشرق الأوسط مع بداية الألفية، وراهنت على تدعيم الثقة أولاً مع الأنظمة الحاكمة، ثم الدخول من بوابة الاستثمار والتعاون الاقتصادي التي لا تفشل أبداً.
جعلت الصين الشرق الأوسط جزءاً رئيسياً من مبادرة الحزام والطريق، وهو مشروع بنية تحتية ضخم، يربط شرق آسيا بأوروبا، وقناة السويس المصرية هي الرابط البحري الوحيد للمشروع.
والأهم من ذلك كله أنها قدمت فرصة لتحويل رهانات المنطقة نحوها في حالة خروج الولايات المتحدة، أو تناقص اهتمامها بما يجري هنا.
هل يمكن للصين أن تكون بديلاً للولايات المتحدة؟
في لحظة طرح هذا السؤال علانيةً بدأت المواجهة بين النفوذ الأمريكي العريق في المنطقة، وبين الوافد الصيني الذي يقدم عروضاً تمويلية وشراكات اقتصادية على طريقة بابا نويل.
عروض خالية من الضغوط السياسية، وبعيدة عن كل صراعات الإقليم وحروبه، ولا يمكن رفضها بسهولة.
تغيرت المنطقة في عدة سنوات تحت وطأة هذه المنافسة المتصاعدة، وأصبحت مسرح منافسة قابلاً لمزيد من الاشتعال، كما يشرح هذا التقرير الذي يستعرض علاقات أمريكا والصين بالمنطقة، والمصالح المتضاربة، وأسباب التنافس بينهما على أرض العرب، وتأثير كل هذا على الشعوب العربية.
الصين والشرق الأوسط
صداقة تأخرت كثيراً
بعد نهاية الحرب الباردة كانت نظرة الصين للشرق الأوسط وشمال إفريقيا على أنه “مقبرة فوضوية وخطيرة، تمضي فيه الإمبراطوريات إلى حتفها”، بتعبير محلل سياسي صيني.
لكن مع تزايُد الطلب الصيني على الطاقة، ازدادت مشاركة بكين الاقتصادية مع المنطقة بشكل أكبر بعد بداية الألفية.
ومنذ عام 2013 اعتبرت الصين الشرق الأوسط أصلاً مهماً لتعزيز مكانتها كقوة عالمية، وبدأ التحول نحو رؤية أبعد من اقتصادية، ومشاركة متعددة الأبعاد، بحيث عملت على تعزيز وجودها السياسي والاقتصادي بشكل تدريجي، وطوّرت مبيعات السلاح.
الشرق الأوسط مصدر مهم للطاقة والتجارة والاستثمارات.
والمنطقة هي امتداد للجوار المباشر للصين ومفترق طرق حيوي له أهمية جيوستراتيجية.
الصين تعتبر الشرق الأوسط أهم منطقة بعد شرق آسيا والمحيط الهادئ، كما أنه أهّم شريك اقتصادي لها منذ عام 2016.
أسباب الصين للاهتمام بالمنطقة
الشرق الأوسط بالنسبة للصين ساحة منافسة بين القوى العظمى، كانت تسعى لتجنب الاقتراب منها.
لكنه أيضاً مصدر للطاقة والتجارة والاستثمارات.
وامتداد للجوار المباشر للصين.
ومفترق طرق حيوي له أهمية جيوستراتيجية.
الشرق الأوسط هو أهم منطقة للصين بعد منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ، وربما أكثر أهمية لبكين مما هو عليه بالنسبة لواشنطن، وفقاً للرؤية الصينية.
السبب الاقتصادي الأكثر أهمية في ارتباط الصين بالشرق الأوسط هو إمدادات النفط.
رغم بحثها عن مصادر بديلة من روسيا أو آسيا الوسطى، فإن الصين تستورد من الشرق الأوسط نصف احتياجاتها من النفط الخام تقريباً.
والصين هي بالفعل أكبر شريك تجاري لمعظم دول المنطقة، بما في ذلك بعض شركائها الرئيسيين: السعودية وإيران والإمارات. وكانت السعودية أكبر مورد للنفط الخام للصين في عام 2020، متغلبةً على روسيا.
وهكذا تراجعت الصين عن موقفها القديم، وبدأت تقترب من الشرق الأوسط لكل هذه الأسباب.
الصين تريد أيضاً أن تُثبت لشعبها أنها قوة عالمية قادرة على الوقوف في مواجهة الدول العظمى، والشرق الأوسط أحد أبواب فرض هذا النوع من التوازن.
حتى تحدي الحماية الأمريكية لتايوان في عقر دار الصين يمكن أن يتأثر بالوجود الصيني القوي في الشرق الأوسط.
إذا كان الرئيس الصيني شي جين بينغ يحجم اليوم عن غزو تايوان، فالأمر يعود إلى ردع عسكري أمريكي لا يمكن تجاهله من بكين، هذا الردع موجود هنا، في الشرق الأوسط.
أول إجراء أمريكي ضد غزو تايوان المحتمل سيكون قطع طرق التجارة، التي تحمل الوقود من الشرق الأوسط للصين، أو تحمل البضائع الصينية إلى العالم.
يعلم الصينيون جيداً مدى قدرات الجيش الأمريكي على قطع كل خطوط إمدادهم من منطقة الشرق الأوسط، والزحف الصيني الهادئ نحو المنطقة يحمل في طيّاته رغبةً صينية في الوجود قرب “غرفة التحكم” للطرق البحرية الأكثر أهمية على ظهر الكوكب.
ملء الصين الفراغ الأمريكي بالشرق الأوسط سيكون بمثابة وضع إبهامها على القصبة الهوائية لجميع منافسيها: الثروات الطبيعية، وطرق التجارة البرية والبحرية، والنفوذ السياسي لاحقاً!
الوجود الصيني الحالي في الشرق الأوسط
تحت قيادة الرئيس شي جين بينغ، عملت الصين على توطيد علاقاتها مع دول الشرق الأوسط وتنويعها.
تركزت ملفات التعاون على الطاقة والتجارة والنقل، مع الموازنة في علاقاتها بين القوى المتصارعة في حلبات النزاع السياسي أو العسكري. لكنها لم تتأخر في إعلان اهتمامها الجيوسياسي بالمنطقة.
“الكتاب الأبيض للدفاع” الذي أصدرته الدولة عام 2013، أشار إلى مهمات جيش التحرير الشعبي في حماية المصالح الخارجية، ومنها مكافحة القرصنة في خليج عدن، وإجلاء المواطنين الصينيين من ليبيا.
يعني هذا أن الجيش صار مطالباً بتطوير آليات تدخله الأمنية والعسكرية، وأدواته لحماية “الحقوق والمصالح المشروعة للشعب الصيني في الخارج”، بدءاً من جنوب شرق آسيا، مروراً بالخليج العربي والمحيط الهندي، ووصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط.
تزايُد نفوذ الصين في الشرق الأوسط منذ سنوات.
كانت مبادرة “الحزام والطريق” هي الخطوة الأكبر تجاه المنطقة، وهي مشروع عالمي ضخم للبنية التحتية والتنمية الاقتصادية، انطلق عام 2013، لبناء شبكة اقتصادية وهياكل أساسية تربط آسيا بأوروبا وإفريقيا وما وراء ذلك.
وأقامت بكين شراكات اقتصادية واسعة النطاق مع الرياض وطهران، وعزَّزت التعاون الاقتصادي مع الإمارات، والتي في طريقها لأن تصبح محور ارتكاز لشبكات الاتصالات الخاصة بها.
إضافة إلى تطوير مينائَي بورسعيد والإسكندرية في مصر، شرعت الصين في بناء عدة موانئ بالمنطقة المغاربية، مثل ميناء شرشال في الجزائر.
ونمت العلاقات الاقتصادية والتجارية الصينية- المغاربية بشكل كبير، وأصبحت الجزائر شريكها الاقتصادي الأول في المنطقة، والمستورد الأول للأسلحة الصينية في القارة.
وكانت الصين في عام 2019 الشريك الاقتصادي الأوَّل للمملكة العربية السعودية، والثاني لإسرائيل، كما أنَّها وقَّعت خلال العقد الماضي اتفاقياتِ شراكةٍ متنوِّعة مع ثلاث عشرة دولةً في الإقليم، في إطار مبادرة الحزام والطريق، غير أن الإعلام الأمريكي يزعم أن الصين بدأت تقلل من وتيرة تنفيذ المشروع.
صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية كتبت، في نهاية سبتمبر/أيلول 2022، أن الصين ربما تعيد حالياً النظر في مشروع “الحزام والطريق”، وكلفها قرابة تريليون دولار، لأن تباطؤ الاقتصاد العالمي، إلى جانب ارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع التضخم، قد عطل مسيرة البرنامج.
ويناقش صانعو السياسة الصينيون الآن برنامجاً أكثر تحفظاً، يُطلَق عليه في المناقشات الداخلية اسم “الحزام والطريق 2.0″، الذي من شأنه تقييم المشروعات الجديدة تقييماً أكثر صرامة للتمويل، بل صاروا منفتحين لقبول بعض الخسائر على القروض وإعادة التفاوض بشأن الديون، وهو أمر لم يكونوا مستعدين لفعله في السابق، وفقاً للصحيفة الأمريكية.
أمريكا والشرق الأوسط: صداقة قديمة تتلاشى
شهد صيف 2021 جدلاً صاخباً داخل أروقة السياسة الأمريكية، بشأن مستقبل الوجود العسكري في الشرق الأوسط، وكان ذلك على خلفية الانسحاب الأمريكي، المثير للجدل أيضاً، من أفغانستان.
بعد أسابيع من معركة سيف القدس، في مايو/أيار 2021، شرعت الولايات المتحدة في خفض قواتها وقدراتها العسكرية في الشرق الأوسط، بعد تعزيزها لسنوات، على خلفية التوترات مع إيران.
وكانت لحظة تتحدث فيها الصحافة الأمريكية عن أن مستقبل الشرق الأوسط يتعلّق بتراجع القوّة الأمريكية.
واقتراب الصين وروسيا ودول إقليمية أخرى مثل تركيا.
وسط النقاش الحاد بدأ يظهر إجماع جديد وقوي، بأنه على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في إعادة توزيع وجودها لجعله أكثر فاعلية، وإذا اقتضت الضرورة، أقل عدداً وأصغر حجماً وأكثر مرونة.
لماذا؟
لأن انتشار القوات الأمريكية الطويل الأجل في منطقة الخليج يظل أمراً أساسياً لمصالح الولايات المتحدة، ومصالح شركائها الإقليميين والعالميين، وفي مصلحة الاستقرار والأمن الإقليمي، كما كتب حسين إبيش، وهو كبير باحثين مقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن.
واشنطن لا ترحل حتى لو غادر جنودها المنطقة
طوال ربع القرن التالي لأزمة السويس 1956، قادت الولايات المتحدة الجهود ضد تفوق العالم العربي، بدعم قوى إقليمية منافسة، أبرزها إيران وإسرائيل.
لكنَّ الدول العربية كانت تنزلق أعمق في مستنقع الشلل والفوضى منذ الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003.
تلاه الربيع العربي الفاشل، الذي ترك ندوباً جديدة على الجسد المُنهك.
كان العالم العربي هو القلب السياسي للشرق الأوسط.
لكن الاستعمار عمّق الانقسامات العرقية والطائفية، وشكَّل الخصومات وخطوط الاشتباك التي ظلت قائمة.
وبعد الاستعمار نشطت أفكار القومية العربية، التي اجتاحت المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، ووضعت العالم العربي في قلب استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
انقضت اللحظة العربية.
وأصبحت القوى غير العربية هي التي تصعد الآن، والعرب هم الذين يشعرون بالتهديد.
كما أن الصين أصبحت تنازع الولايات المتحدة عجلة القيادة في صراع هادئ على النفوذ بالمنطقة، في لحظة خفوت الوجود العسكري الأمريكي.
كانت الجيوش الأمريكية موجودة بالمنطقة بأعداد وإمكانيات متفاوتة منذ الحرب الباردة مع المعسكر الشيوعي، إلا أن حرب الخليج الثانية أرست وجوداً كثيفاً وملموساً للقواعد البرية في أراضي الشرق الأوسط.
رغم ذلك كانت هناك دعوات لعدم اعتبار الشرق الأوسط أولوية بالنسبة للولايات المتحدة منذ الولاية الثانية للرئيس جورج دبليو بوش.
لكن العواقب السلبية المتوقعة من أي تحول جذري قد حالت دون “الخروج الأمريكي” من منطقتنا.
والدليل على ذلك أن عام 2021 شهد تحولات في إدارة واشنطن لوجود جنودها على أراضي 3 دول بالمنطقة.
أنهت واشنطن مشاركتها في الحرب الأفغانية.
وأعادت هيكلة قواتها في العراق مع عدم القيام بمهمات قتالية.
وأبقت على الوجود المحدود على الحدود السورية العراقية، لمواصلة قتال (داعش) وغيرها، والحيلولة دون سيطرة إيران على المعابر الحدودية في البلدين.
بعد خيبة أمل حرب العراق وانهيار الاتفاق النووي الإيراني وكوابيس التدخلات الفاشلة في سوريا وليبيا، سئم صانع القرار الأمريكي في واشنطن من الشرق الأوسط، وترتّب على ذلك ضجة حول احتمال انفتاح دول الإقليم على الصين.
الولايات المتحدة لن تنسحب بالكامل من الشرق الأوسط، ولكنها ستحاول البقاء لاحتواء النفوذ الصيني مجدداً، وقد تسعى لتطوير استراتيجية جديدة تدمج منطقة شرق آسيا والشرق الأوسط، تمكّنها بعد ذلك امتلاك قدرة إعاقة إمدادات الطاقة الصينية، وتعاونها الاقتصادي والتجاري والاستثماري مع دول الشرق الأوسط.
السطور التالية تستعرض حسابات أمريكا إزاء الشرق الأوسط بعد ظهور التنين الصيني.
المصالح الأمريكية في المنطقة
الوجود الأمريكي بالشرق الأوسط حلقة من دوائر الوجود العسكري لأمريكا خارج أراضيها.
وهناك مصلحة حيوية في الحفاظ على الأمن البحري في مياه الخليج والوصول العالمي للتجارة وموارد الطاقة، عبر قناة السويس ومضيق باب المندب ومضيق هرمز، وإلى ما هو أبعد من ذلك، شرقي البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي.
الوجود العسكري الأمريكي حول العالم شبكة متداخلة ومترابطة من الأصول التي تدعم وتعزز بعضها البعض، لا غنى لأيٍّ منها عن الأخرى.
وكان أمن إسرائيل في مقدمة المصالح الأمريكية بالشرق الأوسط، لكنه أصبح مرتبطاً بأمن شركاء الولايات المتحدة الإقليميين الآخرين، الذين التقوا على محاربة “خطر إيران والميليشيات التابعة لها”.
قاد هذا التصور المشترك الإمارات والبحرين لتطبيع العلاقات مع إسرائيل في عام 2020، الأمر الذي قرَّب ثلاثة من شركاء الولايات المتحدة الرئيسيين بعضهم من بعض أكثر.
خريطة: القواعد العسكرية الأمريكية بالمنطقة نهاية 2021
لكن تعميق علاقات الصين مع دول الشرق الأوسط خارج نطاق التجارة لا بد أن يقلق الولايات المتحدة، خاصة أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن اتخذت مؤخراً خطوات لتقليل الاهتمام بالمنطقة، وبالتالي فتح الباب أمام الهيمنة الصينية.
“إذا كنت ستصنف المناطق التي يعتبرها بايدن أولوية، فإن الشرق الأوسط ليس ضمنها: إنها منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ثم أوروبا، ثم نصف الكرة الغربي”، وفق ما قاله مسؤول كبير سابق في الأمن القومي ومستشار مقرب من بايدن.
ومع تنافس الصين على المزيد من النفوذ الدولي، لتصبح أكبر قوة في العالم بحلول عام 2049، عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً وسياسياً، من المرجح أن يصبح الشرق الأوسط حاسماً، سواء أعطته الولايات المتحدة الأولوية أم لا.
وكشفت مبادرة الحزام والطريق عن سعي الصين إلى إسقاط الهيمنة الغربية الأمريكية في الشرق الأوسط سلمياً.
العلاقة بين مبادرة الحزام والطريق والشراكات الاستراتيجية التي توجدها في المنطقة، تسمح لها بالسيطرة تدريجياً على المنطقة دون خلق توترات مع الولايات المتحدة أو الغرب. وبعبارة أخرى، فإن المبادرة هي خطة صينية متطورة، لنقل الهيمنة من الغرب والولايات المتحدة إلى الصين، دون حرب أو صراع.
على الأقل هذا ما يراه الغرب، وتخافه الولايات المتحدة بالذات.
لماذا تخاف أمريكا من الوجود الصيني هنا؟
ثمة مخاوف من استغلال الصين المحطات والمرافئ التي تُنشئها في أغراض غير تجارية، وتحويلها إلى قواعد عسكرية.
تتوافر للصين حالياً قاعدة عسكرية رسمية واحدة، أقامتها في جيبوتي في عام 2017، لكن يبدو أن الصين ستعمل في المستقبل على تشييد قواعد أخرى على طول خطوط الاتصال البحرية، التي تمر عبرها سفنها التجارية، بدءاً من المحيط الهندي، وصولاً إلى البحر المتوسط.
لا يستقيم فهم سعي الصين لإنشاء قواعد عسكرية في الخارج من دون استحضار صراعها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية بشأن قيادة العالم؛ إذ لا يقتصر الأمر على سعيها لحماية مصالحها الاقتصادية وتأمين أساطيلها التجارية فحسب، بل تتوخّى أيضاً وأساساً توسيع حضورها ونفوذها في مختلف المناطق الإقليمية ذات الأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية، ومنها المنطقة المتوسطية.
تطارد واشنطن كل تحرك صيني في آسيا وإفريقيا، وبدأت المنافسة الاستراتيجية بين الجانبين تظهر في الشرق الأوسط خلال العقد الأخير.
الولايات المتحدة لديها نفوذٌ تقليدي وحضورٌ أمنيٌّ وعسكريٌّ كبير، غير أن الصين بدأت تنخرطُ بصورةٍ أوسع في قضايا الشرق الأوسط، وذلك بالتوازي مع مشروعاتها الاقتصادية العملاقة التي تعكسُ النفوذ الجيو-اقتصادي الواسع، حتى لو كان ذلك على غير رغبة واشنطن.
وكانت الضربة الصينية الأكبر توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع إيران عام 2021 في طهران، في خطوة موجهة بالأساس إلى الولايات المتحدة.
وكتب باحثون أن بكين ستصل إلى الشرق الأوسط محمولةً على جناح هذه المعاهدة، التي ستكون مصحوبةً باتفاقاتٍ اقتصادية وتجارية لن تقتصر على إيران، بل ستمتدُ إلى بقية دول المنطقة.
مصارعة التنين والنسر على حلبة الشرق الأوسط
كل الطرق تؤدي إلى تصعيد صيني أمريكي على أرض الشرق الأوسط في المستقبل القريب.
في عام 2016 وافق الجيش الأمريكي على نشر دراسة كانت سرية نفذتها مؤسسة راند لصالحه، تحت عنوان “التنين الحذر”.
اعتبرت الدراسة أن الشرق الأوسط يشغل حيزاً غير مسبوق في اهتمامات الأمن القومي الصيني، وأن الصين قد اعتمدت استراتيجية “التنين الحذر” تجاه المنطقة.
الحذر في منطقة ملتهبة مثل الشرق الأوسط يملي على الصين التزام عدم الانحياز لأي من أطراف النزاعات، مع التركيز على الاقتصاد والتعاون الأمني.
التورط الصيني بأي خلافات هنا قد يكون ثمنه مكلفاً في منطقة تتنازعها الحروب والصراعات، والصين هي “الطريدة” التي لا تتوقف واشنطن عن حصارها وعقابها في كل أنحاء العالم، ولا سيما في منطقتنا.
الصين مثلاً لم تتّخذ موقفاً متحيِّزاً في التنافُس الإقليمي الشرس بين السعودية وإيران.
ولم تُغير موقف الحياد تجاه المعضلة الفلسطينية الإسرائيلية.
وقدمت مبادرتها “الحزام والطريق” لتُرغِّب دولَ الإقليم في إقامة الشراكات مع الصين، والاستفادة من مكاسب هذا التمدُّد الاقتصادي.
تزامَن صعود الصين وانبعاث روسيا مع التدهور الاقتصادي والاجتماعي في الولايات المتحدة، المشلولة سياسياً والمنهكة اقتصادياً، ولكنها أكثر حزماً من الناحية الأمنية.
استجابت الولايات المتحدة للتراجع الواضح في قوتها وجاذبيتها بالإعلان عن تكريسها لما سمّته “تنافس القوى العظمى”، وتبني سياسات المواجهة مع الصين وروسيا.
وإيران من قبل ومن بعد.
ومن الواضح أن المنطقة ستشهد في المرحلة المقبلة تنافُساً كبيراً، وستتأثَّر بهذا الصراع بشدَّة، بجانب تشابُك الحضور الأمريكي الصيني، وشدَّة تنافُسيته، ناهيك عن كونه يمثل ساحةَ مواجهة خارج المجالات الحيوية لواشنطن وبكين، وحديقةً خلفية للصراع الدولي القادم.
الشرق الأوسط مرشح لاستضافة جولة حاسمة من الصراع
منذ وصول إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى البيت الأبيض، والحديث عن الصين يتردد في تصريحاته، فيما يواصل سياسة الإدارة السابقة التي فتحت جبهة صريحة للحرب الاقتصادية مع بكين، فيما اعتبره البعض معركة تكسير عظام بين القوتين الأكبر في العالم.
في ظل تلك المنافسة الشديدة تضغط كل قوة لفرض نفوذها على جبهات عدة لتحصيل أكبر قدر من النقاط، ويتجلى ذلك في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص.
يحتلُّ الشرق الأوسط مكانةً مهمَّة لدى الولايات المتحدة والصين، وتمتلك الدولتان فيه نفوذاً كبيراً.
وفي شهر مارس/آذار 2021، وقعت الصين مع إيران الاتفاقية المسماة “اتفاقية الشراكة الاستراتيجية”.
ونظرت الولايات المتحدة بكثير من القلق إلى الاتفاقية: ها هي الصين تحقق اختراقات كبيرة على الصعيد الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وتصعّب المهمة الأمريكية.
ويسود الاعتقاد بأن إدارة الرئيس الجديد جو بايدن تتعجل الاتفاق النووي مع إيران، توفيراً لطاقتها في مواجهة التهديدات الروسية والصينيّة والكورية الشمالية.
أي التهديدات في الشرق الأوسط وخارجه.
لكن الشرق الأوسط “الصيني” على الأعتاب.
الاتفاق الاستراتيجي مع إيران سيؤدي إلى تعميق نفوذ الصين في الشرق الأوسط، وفي مناطق النفوذ الإيراني على سواحل البحر المتوسط، وفي سوريا والعراق.
وسوف يتم توسيع “مبادرة الحزام والطريق” لتشمل منطقة الخليج والعراق وسوريا، وتحويل دمشق إلى مركز تجاري رئيسي بين إيران وتركيا والعراق.
شراكة اقتصادية ضخمة مع المشرق العربي وإيران، من المؤكد أن واشنطن سوف ترى فيها تهديداً لمصالحها ونفوذها.
ومن المؤكد أيضاً أن ترتفع درجة حرارة التوتر بين بكين وواشنطن فوق تراب الشرق الأوسط بالذات.
آثار الصراع الأمريكي الصيني على دول الشرق الأوسط
دول الشرق الأوسط لا تكتفي بدور المتفرج على المصارعة الاقتصادية والسياسية التي تجري على أراضيها بين الصين وأمريكا، فهي طرف ثالث في كل صراع صيني أمريكي، كما أنها ستشارك في دفع الثمن، عندما تتحول المباراة إلى حرب اقتصادية أو عسكرية.
ومعظم دول المنطقة تضع الصين وأمريكا على مسافة واحدة، وتمنح الأفضلية لمن يقدم علاقات أكثر فائدة لها.
أدى انسحاب واشنطن من منطقة الشرق الأوسط ابتداءً من 2008 وحتى 2022، وسياساتها تجاه الإقليم منذ وصول بايدن للسلطة، في يناير/كانون الثاني 2021، إلى الكثير من التغييرات في العلاقات الأمريكية مع الدول الرئيسية بالمنطقة.
اهتمت واشنطن بمصالحها أولاً، دون مراعاة لتوازن المصالح مع هؤلاء الحلفاء، ومثال ذلك توقيع الاتفاق النووي مع إيران في عام 2015، ومفاوضات العودة إليه في عام 2021 وحتى الآن، الأمر الذي أغضب حليفيْها الرئيسييْن، إسرائيل والسعودية.
هكذا تراجعت ثقة دول المنطقة في واشنطن، فبدأت تسعى إلى تنويع علاقاتها السياسية وتحالفاتها بعيداً عن واشنطن. وكانت بكين جزءاً من التوجه الجديد لهذه الدول، فخلال السنوات الماضية تعززت علاقات الصين مع العواصم الرئيسية في المنطقة، وأصبحت منافساً رئيسياً لواشنطن.
منافسة تحتمل كل درجات الصراع والحروب السرية والعلنية في كل المجالات.
لكن واشنطن وبكين تتعاملان بمبدأين للصراع بينهما في المنطقة:
الأوَّل تفادي القوَّتين الدوليتين للمواجهة المباشرة والإبقاء على الوضع الراهن دون تعديل.
والثاني تصعيد سياسات التحدي والتنافس، وصولاً إلى حربٍ باردة في مناطق التّماس بين القوَّتين، وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط، بما يُعيد رسم خارطة التحالُفات واستراتيجيات دول المنطقة.
في السطور التالية نستعرض أهم 6 آثار محتملة لهذا الصراع على دول المنطقة.
1- قد تتخلى واشنطن عن حماية طرق التجارة البحرية
نجحت الصين في الدخول للمنطقة بقوة الاقتصاد والشراكات الأمنية، دون أن تتكبّد تبِعات الإنفاق الهائل، الذي تعانيه واشنطن للإبقاء على وجودها العسكري اللازم لحماية المصالح التجارية والممرات والمضائق البحرية.
من المتوقع أن تعود واشنطن للفكرة التي تبنّاها الرئيس ترامب، مطلع 2019، عندما أشار إلى أنَّه يتعيَّن على الصين وبقية دول العالم حماية شحنات البترول الخاصة بها خلال عبورها في مضيق هرمز.
يومَها تساءل ترامب: لماذا تقوم واشنطن بحماية الممرَّات المائية، بينما تستأثر دولٌ أُخرى بالاستثمارات والعوائد المادية؟
2- مزيد من دول المنطقة تستجيب للإغراءات الصينية
انخفاض تكلُفة الخدمات الصينية يجعل منها شريكاً اقتصادياً واستثمارياً مربحاً لعديدٍ من الدول، كما أنَّ الإحباط المتزايد لدى دول المنطقة من التلويح الأمريكي بانخفاض أهمِّية الشرق الأوسط، يدفع بهذه الدول نحو الطرف الصيني.
من المتوقع التحاق المزيد من اقتصادات المنطقة بالقطار الصيني المتنوع والسريع والآمن، مع الإبقاء على مظلات الحماية السياسية والعسكرية الأمريكية.
3- قواعد عسكرية جديدة للصين بالمنطقة
تشترك الصين مع روسيا في الرغبة بكسر النفوذ الأمريكي على خطوط الملاحة البحرية في المنطقة، وهي صاحبة قاعدة عسكرية وحيدة في جيبوتي، لكنها لم تتحدَّ بعد الهيمنةَ الأمريكية العسكرية في المنطقة.
من المتوقع أن تسعى الصين لإنشاء قواعد عسكرية جديدة في الخليج العربي أو بحر العرب، وإذا حدث ذلك ستكون بمثابة طلقة البداية في الحرب الباردة بين الطرفين.
4- الحرب الباردة بين الطرفين قد تُشعل صراعات إقليمية
قد تستفيد دول المنطقة من التنافُس لتحقيق مصالح عبر هذا الطرف أو الآخر، إلّا أّنَّ مثولَ الحرب الباردة يقلِّص المناورة الدبلوماسية لهذه الدول، لا سيما إذا تصاعد التوتُّر واضطرَّت الدولُ للتخلِّي عن الحياد، وأُرغِمت على الانضمام لأحد المعسكرين ضدّ الآخر.
من المتوقع أن يكون دخول المنطقة في حرب باردة بين الصين وأمريكا بدايةً لتصعيد وتغذية الصراعات الإقليمية، وإطالة أمدها.
5- المزيد من استقطاب دول المنطقة بين الصين وأمريكا
اختيار دولة بالمنطقة الانضمام للسياسة الأمريكية في الحرب الباردة يعني أن الصين سوف تجد نفسها مضطرة لاتخاذ رد فعل يكسر حيادها الثابت منذ سنوات تجاه كل الخلافات السياسية.
من المتوقع أن تتخذ الصين مواقف حاسمة بين أطراف النزاعات الإقليمية، لا سيما إذا ما دعمت الصين والولايات المتحدة معسكراتٍ متناقضة، كما أن دول المنطقة سيكون عليها المفاضلة بين الشراكة الأمنية مع واشنطن، أو الاستثمارات الاقتصادية والتكنولوجية مع بكين.
6- أمريكا سوف تهدد “أصدقاء الصين” بالعقوبات
تحاول الولايات المتحدة بكل الطرق تقليص النمو الاقتصادي الصيني في المنطقة، وقد تضرّ بالمصالح الاقتصادية لحُلفائها، إذا ما حاولوا تعزيزَ النفوذ الصيني. وسبق لواشنطن تحذير إسرائيل من أنَّ التعاون مع الصين يُعرِّض العلاقات الاستراتيجية للخطر.
من المتوقع أن تستخدم الولايات المتحدة نفس هذا التهديد مع بقية حُلفائها في منطقة الشرق الأوسط، إذا اقتربوا من التنين الصيني أكثر من اللازم.
حدث على أرض لبنان: أمريكا تمنع استثمارات الصين
في بداية التدهور المالي للبنان عام 2020، ضغطت واشنطن على بيروت لمنع تحولها إلى بكين من أجل الاستثمار في البنية التحتية اللبنانية المتدهورة، وحذرت السفيرة الأمريكية في حوار تلفزيوني من مخاطر “مصائد الديون” الصينية.
خضعت حكومة رئيس الوزراء اللبناني وقتها حسان دياب للضغوط، لكنها فوجئت بأن واشنطن تقاطع حكومته تقريباً لاعتقادها أنها مدعومة من حزب الله.
“لا يمكنك الضغط على الدول إلا عندما تكون لديك قوة كبيرة، والوسائل لتقديم صفقة أخرى”، كما تقضي قواعد العلوم السياسية، وإذا كانت الولايات المتحدة تريد حقاً الضغط على الدول، والفوز بما يسمى بالحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط، فسيتعين عليها الابتعاد عن الخطابة، والبدء في طرح مشاريع حقيقية، وبعض النقود الحقيقية على الطاولة.
“حتمية” المواجهة مع الصين على تراب الشرق الأوسط
الولايات المتحدة تعيد صياغة استراتيجيتها تجاه أقاليم العالم المختلفة، وفي القلب منها الشرق الأوسط.
عادت واشنطن تدرك أهمية المنطقة في التنافس الچيوسياسي مع الصين. وبينما تؤكد لدول المنطقة على أنها الحليف الموثوق به، تحاول إبعاد دول المنطقة عن روسيا والصين.
لكن الصين لن تبتعد عن دول الشرق الأوسط.
وستعمل على استكمال مشاريعها العملاقة التي تربط المنطقة باقتصاد بكين المتنامي بصورةٍ كبيرة، وأهمّها مشروع “الحزام والطريق” حتى بصيغته المعدلة.
تسير بكين خلف أولوياتها الخاصة في المنطقة، مع إيماءة عبارة إزاء المصالح الأمنية المحلية.
أي أن الصين تتوقف الآن عند تقاطع طرق التجارة الرئيسية، تشتري إمدادات الطاقة الحيوية، وتبيع الأسلحة، وتشارك في ملفات سياسية مثل عملية السلام والمفاوضات النووية الإيرانية، لكنها لا تذهب أبعد من ذلك كما يرى تحليل مطول لصحيفة Foreign Policy الأمريكية.
ستواصل بكين العمل على تأمين مصادر الطاقة من الشرق الأوسط، والاستفادة من النفوذ السياسي لمورديها، والبحث عن فرص لإبراز قوتها العسكرية بشكل أفضل، لكن بصورة تدريجية.
كل هذه المعطيات تزيد من الجدل الداخلي في واشنطن بشأن “حتمية” المواجهة مع الصين على تراب الشرق الأوسط.
تتعالى الأصوات عبر معاهد الدراسات البحثية، لتحذّر من الانسحاب التدريجي من الشرق الأوسط، لصالح محيط الصين والشرق الآسيوي. ويطالب البعض، ومنهم المبعوث الأمريكي الأسبق للملف السوري، جزيل ريبورن، بالعودة إلى مبدأ طرحه الرئيس الأسبق جيمي كارتر في أعقاب صدمة الطاقة عام 1973، وسيطرة الاتحاد السوفييتي على أفغانستان، ثم الثورة في إيران.
“مبدأ كارتر” يطالب بتركيز الاهتمام على منطقة الطاقة العالمية في الشرق الأوسط، وإبقائها دائماً تحت النفوذ الأمريكي. وتطبيق هذا المبدأ هو ما جعل الولايات المتحدة تصبح القطب الأوحد المتحكّم بالنظام العالمي الجديد فيما بعد، عندما سقط الاتحاد السوفييتي.
الصين أصبحت رقماً مؤثراً في اقتصاديات المنطقة، وسبقتها إيران التي تؤثر في القرار السياسي لأربع عواصم عربية
فما الذي تنتظره واشنطن لإبعاد خَصميْها عن مملكة نفوذها الخاصة في الشرق الأوسط؟
عربي بوست