من أمريكا اللاتينية إلى روسيا والصين والشرق الأوسط.. هكذا تحاول بعض الدول تغيير قواعد اللعبة
انهارت الإمبراطورية السوفييتية لأنها لم تعد تستطيع قهر الأمم التي تريد أن تكون سيدة، لكن هذه الأمم أصبحت الآن أقل سيادة من أي وقت مضى. لا يسعها اختيار اقتصادها ولا سياستها الخارجية ولا حتى شعارات إعلاناتهم”.
اليوم انكسر العالم وانشطر، ويقف البشر جميعاً مشاهدين كيف ستستقر أجزاؤه، وما هي شروط العالم الجديد. فمع اشتعال الحرب في الميدان الأوكراني تصاعدات وتحررت صراعات كامنة في كل مكان في العالم.
فلم تستطع الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون عزل روسيا وتأديبها على ما تفعله بحق جارتهم الأوروبية، فعزل دولة بحجم روسيا ليس كعزل جزيرة مثل كوبا أو دولة مثل كوريا الشمالية وإيران.
ويبدو أن خريف الإمبراطورية التي ادعت أنها نهاية التاريخ بدأ في الأفول، فالعديد من الشواهد يوحي بأن النظام العالمي الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية هو الذي قد يكون تغير، فلأول مرة منذ عقود تعود الجارة الأمريكية إلى الحكم الاشتراكي نهاية من دا سيلفا في البرازيل وحتى تشيلي وبيرو وأخواتهما.
الصين البعيدة جغرافياً عن قيادة النظام العالمي لم تعد بعيدة عن التغير الذي أصاب النظام نفسه، فبكين باتت تظهر قواتها الغاشمة وتهدد هنا وهناك بعدما كان كل ما تود فقط إظهاره هو القوة الناعمة، الاقتصاد والوساطة والديون فقط.
إيران باتت مزعجة للنظام العالمي أكثر من اللأزم هكذا يبدو الأمر.. بدايةً من الملف النووي وحتى المشاركة بطائرات مسيّرة في الحرب الروسية على أوكرانيا.
وعلى الضفة المقابلة لم تعد دول الخليج ترهن قرارها السياسي والاقتصادي بتوجيهات واشنطن، بل باتت تبحث هذه العواصم عن مصالحها الاقتصادية، ثم السياسية والأمنية.
تركيا الطامحة للخروج عن الهيمنة العالمية لا تترك مناسبة دون أن تقول إنها تحاول، فعلتها في أذربيجان وسوريا وليبيا والآن تفعلها بالتوسط بين الغرب وروسيا لحل الأزمة التي علق فيها العالم كله تقريباً بدخول بوتين أوكرانيا رغم كل التحذيرات.
بينما الخليج بقيادة السعودية يبدو أنه يريد إعادة صياغة علاقته مع واشنطن أو سيبحث عن بديل آخر لحمايته.
في هذا التقرير نرصد ماذا حدث في النظام العالمي الذي كان الجميع يظن أنه لا ولن يتغير، لكن يبدو أن هناك الكثير من التغيرات طالته وستطاله إما قريباً أو على الأقل ليس ببعيد.
الولايات المتحدة وأزمة الهيمنة
مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 ونهاية ما يُعرف بالحرب الباردة، خرجت الولايات المتحدة منتصرة ومنفردة بقيادة العالم، “فقد انتصرت القيم الغربية والرأسمالية”، وها هي تكتب نهاية سعيدة للتاريخ. لدرجة أن تحمّس أحد أهم مفكري المحافظين الجدد في أمريكا (فرانسيس فوكوياما) وكتب عام 1992 كتاباً بعنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، وطرح من خلاله فكرة أن جميع الأيديولوجيات وجميع جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ستتلاشى لصالح الديمقراطية الليبرالية والقيم الغربية التي تتزعمها أمريكا، ليبلغ بذلك قطار التاريخ محطة الأخيرة.
فلا يمر أكثر من ثلاثة عقود حتى يتعرض كتاب فوكو ياما وأفكاره للنقد الشديد وحتى السخرية، فمع اشتداد وطأة الحرب الأوكرانية وارتفاع حصيلة الدم في سوريا، بدا أن أفكار فوكوياما عن نهاية التاريخ والهيمنة الأمريكية المطلقة قد شهدت نهايتها.
الدولة الأقوى والأغنى والأكثر استقراراً والأكثر تطوراً تتهاوى بالتدريج
هجمات 11 سبتمبر وما تلاها من إعلان حرب غير مدروس على أفغانستان كان أول المؤشرات على التراجع الأمريكي، فقد بينت الهجمات أن الحصانة التي كانت تتمتع بها أمريكا داخلياً يمكن اختراقها وتوجيه ضربات مؤلمة إلى معقل الدولة الأقوى في العالم.
كشف ذلك عوار أسطورة الأمن الأمريكية بشكل عام، حيث لم يكن يخفى على أحد أن تنظيم القاعدة أعلن الحرب على أمريكا عام 1998، فقبل أن يتوجه التنظيم لمدينة نيويورك ليسقط البرجين، شن قبلها هجوماً كاسحاً على المدمرة الأمريكية كول في ميناء عدن عام 2000 مخلفاً 17 قتيلاً من قوات البحرية. بالإضافة إلى تفجيرين إرهابيين لسفارتين للولايات المتحدة عام 1998 في كل من تنزانيا وكينيا راح ضحيتهما 270 شخصاً.
ولتدارك الموقف في ظل تراجع القدرات الأمريكية الاستخباراتية، أعلنت الإدارة الأمريكية الحرب على أفغانستان لتدخل بمحض إرادتها في مستنقع أفغاني، ظلت قابعة فيه لمدة 20 عاماً لتخرج في الأخير منسحبة مسلمة السلطة لحركة طالبان المدرجة على قوائم الإرهاب.
ثاني المؤشرات كانت غزو العراق، فبدون أي عقلانية وبعدوانية تفوق العدوانية الروسية اليوم، مدفوعة بكبرياء الإمبراطورية والهيمنة، تجاهلت عدم موافقة مجلس الأمن على قرار الغزو، لتسقط العاصمة بغداد في التاسع من أبريل/نيسان 2003.
كلف قرار غزو العراق خسائر بشرية قُدرت بمليون قتيل ومصاب وملايين المشردين.
تلك الحرب كانت كارثية على الولايات المتحدة واقتصادها وموقعها ودورها، وكادت أن توصل البلاد عام 2008 إلى حافة الانهيار الاقتصادي، بجانب أنها ساعدت في زيادة نفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط، فبعد إسقاط النظام وتدمير الدولة العراقية، صارت حديقة خلفية للمد الشيعي والميليشيات الإيرانية والداعشية.
ثالثاً الحضور الباهت في سوريا، فبعد الانسحاب من العراق في عام 2011، حاولت الولايات المتحدة أن تتلافى أخطاءها فتركت وراءها فراغاً ملأته روسيا وإيران وتركيا، وأصبح الوجود الأمريكي دون أي أثر أو فاعلية تذكر، غير دعم هشّ للأكراد الذين لا يتفق على وجودهم أي من القوى الفاعلة في سوريا.
رابعاً وليس آخرها عام 2017 عندما سمحت الدولة والإمبراطورية المصابة بخسائر جمة على الصعيد العسكري والاقتصادي والإنساني، أن يترأسها رئيس شعبوي لا يحمل أي أفكار تستحق النظر، غير وعود انتخابية فارغة تشبه وعود الفاشين ” “اجعل أمريكا عظيمة مجدداً”.
فشلت الولايات المتحدة في عهده في احتواء إيران أو الصين، واتبعت سياسة دعم الديكتاتوريات في الشرق، كنمط تتبعه أغلب الإمبراطوريات عند اقتراب السقوط.
ولتكتمل الصورة الدرامية، كشف تحقيق للمستشار الخاص روبرت مولر في عام 2019، يخلص إلى أن روسيا قد تدخلت “بشكل شامل ومنهجي” في الانتخابات الأمريكية.
أثناء إدلائه بشهادته أمام مجلس الكونغرس في يوليو عام 2019، ذكر مولر أن الرُّوس يواصلون التدخل في الانتخابات الأمريكية “بينما نجلس نحن هنا”، وأن “العديد من الدول الأخرى” قد طورت حملات تضليلية تستهدف الانتخابات الأمريكية، مبنية جزئياً على النموذج الروسي.
بالإضافة إلى كل هذا التراجع السياسي والأمني، فشلت الحكومة الأمريكية في عهده في التصدي لجائحة كورونا، فسقط أكثر من ربع مليون مواطن ضحايا لسياسة الرئيس الشعبوية، ما أساء لسمعة الولايات المتحدة كدولة تهتم بالإنسان.
وفي مشهد لم تشهده إمبراطورية الديمقراطية من قبل، في يوم السادس من يناير/كانون الثاني 2021 عندما اقتحم أنصار ترامب مقر الكونغرس الأمريكي وأعلنوا رفض نتائج الانتخابات لمحاولة فرض ترامب رئيساً لدورة ثانية.
العالم كان يراقب ويكاد لا يصدّق أن الولايات المتحدة، أعرق الديمقراطيات في العالم تسقط في تصرف أقرب إلى الدول الديكتاتورية والأحزاب الشمولية. لتؤكد بذلك بداية غروب شمس الإمبراطورية وزعزعة هيمنتها.
روسيا.. تتحدى
حرب هيمنة صريحة بين أمريكا المسيطرة، ضد هيكل عسكري قديم مدفوع بحنين سوفييتي
قضى فلاديمير بوتين سنوات وهو يحضّر للحرب في أوكرانيا. منذ عام 2014، تم تحوير كل السياسات الروسية، في الدولة والجيش والاقتصاد الكلّي، بغية توسيع محيط موسكو الجيو سياسي حتى وإن رفضت الإمبراطورية الغربية محاولة التمرد الروسية لتغيير موازين القوى داخل النظام العالمي.
لكن للواقعية، روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفييتي ولا في قوة ونفوذ الصين، إذن فما هي استراتيجية روسيا بوتين لنهوض من جديد؟ وكيف ستعود موسكو بهيكلها العسكري فقط دون الأيديولوجية السوفييتية، كفاعل أساسي في النظام العالمي الجديد؟
الإجابة في نظرة بوتين للعلاقات الدولية، حيث يعتبر أنها منافسة بين القوى العظمى، ويحاول تطبيق نظرته بجعل روسيا تتوسع في محيطها الحيوي على حساب الجوار. وقد أوضح فيلسوف القصر (دوغين) أن على أمريكا أن تعترف بأنها لم تعد السيد الأوحد للعالم، ووحدها الحرب من تستطيع أن تقرر من يحكم العالم حقاً.
لذلك، سعى بوتين منذ عام 1999 إلى تحقيق طموحه بإعادة روسيا قوة عالمية، حيث أوقف تدهور قيمة الروبل وحرب الشيشان وعزز القطاع المالي والصناعي.
بنى بوتين نظاماً استبدادياً فردياً قائماً على رأسمالية دولة عسكرية – أمنية بشراكة مع “الأوليغارشية”. وخصص بوتين موازنات ضخمة لتعزيز قدرات روسيا العسكرية وزاد من ترسانة روسيا من الصواريخ الباليستية بعد انسحاب جورج بوش من اتفاق الحد من السلاح الباليستي. بالإضافة إلى ذلك أعاد دور الكنيسة الأرثوذكسية في الضبط الأيديولوجي وسخّرها لسياساته.
رغم ذلك لا يمكن اعتبار روسيا دولة كبرى وفقاً لمعايير القوى الكبرى للنظام العالمي الذي يتهاوى، حيث إن روسيا ما زالت دولة قائمة على عوائد النفط والغاز وما تبقى من الصناعة العسكرية السوفييتية وترسانتها النووية، ولا تمثل قطباً اقتصادياً كبيراً، بالإضافة إلى النظام المؤسسي القديم داخلها الذي لا يظهر أي عقلانية في قراراته، فبينما نجد الصين على سبيل المثال تدير ملفاتها السياسية برشادة مراعاة لمصالحها الاقتصادية الضخمة، نجد روسيا للمفارقة تأخذ قرارات غير مدروسة تذهب بجيشها من آسيا إلى إفريقيا وتعود به إلى أوكرانيا.
وهنا نجد أن روسيا تحاول أن تخلق مجالاً حيوياً خاصاً، بها لكنه لا يتوافق مع إمكانياتها الحالية، روسيا لم تعد الاتحاد السوفييتي العظيم، بل أصبحت هيكلاً عسكرياً فقط لا يملك الحضور الشعبي والأيديولوجي والاقتصادي.
ولكن بوتين الذي ورث أكبر ترسانة نووية في العالم يؤمن أنه لا يمكن الاستهانة ببلده وبدولته، لذا يسعى لاسترجاع مجاله الحيوي في لحظة تحول النظام الدولي الحالية عن طريق القوة الصلبة.
الصين وأنياب التنين..
الانتقال من السياسة الناعمة إلى الخشنة.. الهيمنة على الطريقة الشرقية
فمع التراجع الأمريكي كانت الصين تنطلق نحو قمة الهرم الاقتصادي في العالم. فليس من المستغرب أن السؤال الذي يجذب الآن اهتماماً تحليلياً أكثر من أي سؤال آخر هو صعود الصين في عهد شي جين بينغ والتحدي الذي تمثله للقوة الأمريكية على الساحة الدولية.
ففي تحليل نُشر لمدير الشؤون الصينية في مجلس الأمن القومي لإدارة بايدن، تحت عنوان “اللعبة الطويلة: استراتيجية الصين الكبرى لاستبدال النظام الأمريكي”.
اكتشف “دوشي” في تحليله ثلاث استراتيجيات يعتمد كلٌّ منها على تصوُّراتٍ متطوِّرة للتهديد الأمريكي. بدأت فترة العشرين عاماً الأولى بنهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وحرب الخليج، وساحة تيانانمن في بكين، وكانت مُخصَّصة لتقليص مصادر القوة الأمريكية.
ثم بعد الانهيار المالي في عام 2008، تحوَّلَت بكين، التي كانت واثقةً من أن النموذج الأمريكي معيب، وابتعدت الصين عن فرض نفوذها بالقوة الخشنة وحوَّلَت تركيزها لتدشين مشاريع اقتصادية عالمية، تعمل كجزء من استراتيجية تتجاوز بها القوى الغربية وتقوّض مجال هيمنتها ونفوذها تدريجياً.
أما في عام 2013 كشف شي جين بينغ عن مشروع مبادرة الحزام والطريق، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصين، فشي أول رئيس صيني يطلق مثل هذا المشروع العملاق خارج حدود البلاد.
وقد قال عنه ماكس بوكوس، السفير السابق للولايات المتحدة في الصين، إن هذا المشروع هو رؤية استراتيجية كبرى للصين وخطة طويلة المدى، بينما لا تملك أمريكا ولا الدول الغربية الأخرى مجتمعة أي رؤية طويلة أو حتى خطة للتعامل مع الصين.
هذا المشروع غير المسبوق في تاريخ البشرية تستثمر الصين فيه ألف مليار دولار في بناء السكك الحديدية والموانئ والطرق البحرية، أولاً في آسيا لسد فجوة البنية التحتية، ثم في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وبدأت الصين بعرض قروض على الدول المتعثرة لتمويلها باللازم من أجل تطوير وبناء البنية التحتية فيها. وقد وقعت حوالي 60 دولة على أخذ هذه القروض.
في أوروبا فرشت السجادة الحمراء لرئيس الصين واستثماراته، وبحلول عام 2018 سيطرت الصين على 10% من نشاط الموانئ الأوروبية، وفي بعض الدول الأوروبية بدأ الاعتماد الاقتصادي على الصين بالفعل، ففي اليونان سيطرت الصين على ميناء “بيرايوس”، وبات التنين الصيني شريكاً كبيراً في مطار “تولوز” في فرنسا وكذلك مطار “لندن هيثرو” ثالث أكثر مطارات العالم ازدحاماً، والشريك الأكبر الذي يمتلك أغلبية الأسهم في مطار “فرانكفورت” الألماني، وفي ألبانيا تمتلك مطار “تيرانا” بشكل كامل.
في أحد الأمثال الفارسية يقال: “رويداً رويداً يتحوَّل الصوف إلى سجادة”، وهذا ما تفعله الصين، فرويداً رويداً تحول النفوذ الاقتصادي إلي سياسي داخل القارة العجوز، فتمكنت بكين من بناء شبكة علاقات من السياسيين الودودين تجاه الصين، لتحسين صورتها في الغرب.
وأحد أكبر الأمثلة هو رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون، الذي يشغل الآن منصباً إدارياً في صندوق استثماري يدعم مشروع طريق الحرير الصيني.
بينما في فرنسا، قال رئيس الوزراء السابق جان بيير رافاران إن المشروع يخلق فعلياً قارة أوراسيا، حيث يضع الأساس لشراكة بين آسيا وأوروبا. وأضاف أنه قبل 10 سنوات كانت أمريكا حليفتنا، وأتوقع خلال 20 عاماً من الآن سنطلق على الصين اسم حليف”.
لا يتوقف النفوذ على دعم مشاريع الصين فحسب، بل يتعدى ليتماهى مع أيديولوجيتها وسياستها القمعية، ففي عام 2017 وقفت اليونان أمام الاتحاد الأوروبي وعرقلت بيانه الذي يشجب فيه التجاوزات التي ترتكبها الحكومة الصينية ضد حقوق الإنسان في الصين، بينما قبلها بعام قامت المجر واليونان بمنع الاتحاد الأوروبي من الانضمام إلى أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية في تأييدهما لحكم المحكمة الدولية الذي جاء لصالح الفلبين على خلفية نزاعها على أحد الأقاليم البحرية مع الصين.
وفي الجنوب في القارة الإفريقية تمكنت الصين منذ عام 2013 من إقراض 120 مليار دولار للقارة، حيث يرفض الغرب إقراض الدول ذات الأنظمة الاستبدادية في القارة، لا تفعل الصين ذلك. لتنجح في تعزيز نفوذها ببنائها أطول جسر في القارة، والعديد من المستشفيات والمدارس والإسهام في بناء البنية التحتية، لتصبح بذلك الشريك الرئيسي للقارة السمراء.
لا يقف هدف الصين في إفريقيا عند البحث عن المواد الخام فحسب، فقد أضاف الرئيس تشي بعداً آخر لوجود التنين هناك، حيث يعمل على الترويج للنموذج والفلسفة السياسية الصينية.
فببساطة تأتي الصين كزائر دائم للقارة، وتخبرها بأننا لم نتبع النظام السياسي الغربي الديمقراطي، ورغم ذلك نحن أغنياء ومتطورون. فالصين خلال 30 عاماً تمكنت من القضاء على الفقر وأصبحت ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم.
بوضوح أكثر عرفت الصين كيف تُؤكل الكتف، فبعيداً عن القوة الخشنة والتصادم مع الغرب، اتبعت سياسة توفير الدعم الاقتصادي الكبير للدول التي تعاني من تعثر اقتصادي، بهدف زيادة نفوذها على المستوى الداخلي لتلك البلاد وزيادة نفوذها في النظام الدولي بشكل عام.
لذلك نرى الصين اليوم تقعقع سيوف الحرب وتزيد من لهجتها العسكرية بكل جراءة، فنراها تتحرك بكل خطى ثابتة لغزو تايوان، فبعد أن تمكنت سياسياً واقتصادياً مَن سيقف لها بحزم؟!
الغرب اليوم يدرك أن الحرب مغامرة بالغة الخطورة ولا يمكن التنبؤ بعواقبها، ولدى أمريكا ما يكفي من الذكريات المؤلمة في فيتنام وأفغانستان، لذلك تتجنب المواجهة المباشرة مع خصم حتى وإن كان أضعف منها.
وتعلم الصين ذلك لذا أكد تشي أن بلاده ستتحد مع تايوان بالقوة إذا تطلب الأمر. فبعد شهور قليلة من غزو أوكرانيا بدأت الصين أكبر مناوراتها على الإطلاق حول جزيرة تايوان، أطلقت خلالها صواريخ باليستية، مر بعضها فوق العاصمة تايبيه، وبدأت تدريبات محاكاة لهجمات بحرية وجوية في الأجواء والمياه المحيطة بالجزيرة، كما أظهر تسجيل مصور بثه تلفزيون الصين المركزي الحكومي طائرات مقاتلة صينية تتزود بالوقود في الجو وسفناً تابعة للبحرية فيما قالت إنها تدريبات حول تايوان.
فاليوم تدرك الصين وغيرها من القوى أن زمن هيمنة القطب الواحد يتهاوى، وتسعى لتوسع رقعة سيطرتها في النظام الجديد.
أوروبا.. صراع الأشقاء
يقول المثل الإفريقي “الطفل الذي لم تحتضنه عائلته، سيعود ويحرقها ليشعر بدفئها”.
ليس غريباً في هذه الأيّام أن يتمّ تقديم روسيا، مجدّداً في صورة الخطر الشرقي الذي يهدّد أوروبا، فعلى مر التاريخ ورغم الموجات المتلاحقة من التغريب والتحديث، لم تدخل روسيا نادي الدّول الأوروبيّة، لتعود اليوم وبرغبة شديدة في الهيمنة على القارة العجوز، التي تمر بخريف قوتها.
فبينما تتربص روسيا بالدول الأوروبية، تضرب التصدعات البيت الأوروبي. فنجد الاتحاد مشتتاً ويعاني استقطابات حادة وأزمات عميقة طالت ثقافته الليبرالية التي هي ركيزة بنائه الاجتماعي والسياسي، فنشهد صعود تيارات اليمين وفشل فكرة التعددية الثقافية التي ساقت شعوبه خلال العقود الماضية. وبشكل أعمق، بدأ التوتّر بين قوتيه الرئيستين ألمانيا وفرنسا في الازدياد، فيبدو أن فكرة الثنائية الألمانية الفرنسية لقيادة الاتحاد الأوروبي تنتهي.
فعلى هامش القمة الأوروبية في بروكسل في سبتمبر 2022، انتقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون علناً سلوك ألمانيا في أزمة الطاقة التي تشهدها أوروبا حالياً، واتهمها بالعمل على عزل نفسها، بعد رفضها وضع سقف لأسعار الغاز.
ولا تبدو ادعاءات فرنسا بعيدةً عن الواقع، بجانب رفضها وضع سقف لأسعار الغاز، أعدت الحكومة الألمانية -بمعزل عن الاتحاد- خطة مساعدة بموارد مالية قدرها 200 مليار يورو، لدعم الأسر والشركات دخل ألمانيا؛ للتخفيف من الأعباء الناجمة عن ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء.
مما لم يغضب فرنسا وحدها، فبعض دول الاتحاد انزعجت بشدة من القرار الذي تم دون استشارتها؛ حيث اعتبرت أن مثل هذه المدفوعات الضخمة قد تؤدي إلى فوضى في السوق الداخلية للاتحاد الأوروبي.
ولا يعد هذا نقطة الخلاف الوحيدة، ففي مسائل أخرى غير الطاقة، فبرلين رفضت أيضاً مقترحات فرنسية بخصوص تطوير ما يعرف دفاعياً باسم “نظام القتال الجوي المستقبلي”.
وهو مشروع دفاعي أوروبي أطلقته برلين وباريس في عام 2017، وكان يعد ركيزة أساسية لسياسة الدفاع والمشتريات العسكرية في المنطقة، يطمح الاتحاد الأوروبي من خلالها إلى تطوير مقاتلة تحلّ مكان طائرتَي “رافال” الفرنسية و”تايفون” الألمانية بحلول عام 2040، تكون بمثابة العمود الفقري لكل دول القارة بعد عام 2040.
لكن برلين فاجأت حليفتها عندما اتخذت قراراً بشراء مقاتلات من طراز “إف-35″، ويتضح هنا عمق التصدع بين البلدين واختلاف الرؤى للاتحاد بشكل عام، فبينما تغضب باريس، إذ تعتبر أن اختيار سلاح أمريكي يوجّه رسالة خاطئة، في وقت ينبغي أن يكون التركيز فيه مُنصبّاً على تعزيز القدرات الأوروبية.
لا ترى برلين غضب حليفتها إلا محاولة لجذب الدعم لشركات السلاح الفرنسية ونفوذها، علماً أن قطاع صناعة الأسلحة الألماني شهد تراجعاً وتواضعاً بعد الحرب العالمية الثانية.
عجَّل احتدام الحرب في أوكرانيا ببروز الخلافات بين باريس وبرلين داخل البيت الأوروبي الواحد التي لا تقف عند تباين نماذج وطريقة حل الأزمات لدى البلدين بشأن كيفية حماية اقتصادات دول الاتحاد؛ بل تعدى ذلك إلى الرؤية الشاملة للاتحاد وسيادته.
فبينما تدعو فرنسا لفكرة السيادة الأوروبية والابتعاد عن التبعية الأمريكية وحلف الناتو (الميّت سريرياً)، كما وصفه ماكرون، تنظر ألمانيا بشكل أكثر براغماتية في سياستها من خلال عقد التحالفات والاتفاقات.
ولأول مرة منذ عقود تهدد الحروب والخلافات رفاهية المواطن الأوروبي، فبدأ يتلمّس أنّه أكثر من أي وقت مضى سيدفع ثمن الصراع وتحوّراته المحتملة وتبعاته البالغة الخطورة والمتصاعدة، ما دفعه مهرولاً في إيطاليا والسويد والمجر وبولندا لانتخاب أحزاب يمينية متطرفة، تنقذه بوعود شعبوية فارغة باستعادة المجد الأوروبي الضائع.
أمريكا الجنوبية.. العودة لزمن اليسار
وعلى الطرف الآخر من المحيط الأطلنطي نجد القارة اللاتينية في يقظة عارمة، ففي مشهد مقلق بالنسبة لأمريكا، وصل عدد من القادة اليساريين للسلطة في عدد كبير من دول أمريكا الجنوبية والوسطى خلال الفترة الماضية، حيث يخشى الأمريكيون أن يؤدي صعود اليسار في أمريكا اللاتينية إلى تراجع نفوذهم بالمنطقة التي كانوا يعتبرونها حديقتهم الخلفية، وأن تستفيد الصين من هذا الصعود.
فمنذ عام 2018، فاز مرشحو يسار الوسط بالانتخابات الرئاسية في الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي والمكسيك وبيرو، وأخيراً كولومبيا والبرازيل.
وتتجلى موجة صعود اليسار بأمريكا اللاتينية في أكثر صورها إثارة لقلق واشنطن في وجود رئيس يساري في السلطة في المكسيك، جار الولايات المتحدة وبوابتها الخلفية التي لطالما كانت خاضعة لنفوذها بشكل كبير. كما يتولى حكام يساريون يصفهم الغرب بالمستبدين السلطة في كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا منذ سنوات.
أدى الفقر المدقع الناجم عن جائحة فيروس كورونا وسياسات الحكومات اليمينية التابعة لأمريكا، إلى ميل الناخبين هذه المرة تجاه اليسار، أولئك الذين يعِدون بحكومة أكبر وإنفاق اجتماعي أعلى.
ستسعى الحكومات اليسارية إلى كبح توحش السياسات النيوليبرالية، وستعمل على تدخل الدولة في الاقتصاد للحد من إفقار شعوبها، وستعمل على فرض ضرائب مرتفعة أيضاً على الاستثمار الذي يستغل المنطقة الغنية بالموارد الزراعية والمعادن، حيث إن أمريكا الجنوبية مورِّد عالمي رئيسي للسلع والمواد الخام من النحاس إلى الذُّرة.
هذا التحول ربما يؤثر على توازن هيمنة الولايات المتحدة هناك، والتي تعد الشريك الاقتصادي الأول للقارة.
رغم ذلك، يرى البعض أنه لا توجد أدلة كثيرة على تحول درامي وأيديولوجي عميق الجذور أو دائم في أمريكا اللاتينية.
لأن البعض يرى أن موجة صعود اليسار في أمريكا اللاتينية الحالية سببها أن المشاعر المعادية لشاغلي المناصب أصبحت قوية، والناخبون المستاؤون من الخسائر الصحية والاقتصادية للوباء يطيحون عبر صناديق الاقتراع بكل من يشغل القصر الرئاسي، سواء كان يسارياً أو يمينياً، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
وتعزز المجلة رأيها هذا بالإشارة إلى أنه في العام الماضي، على سبيل المثال، انتخب الإكوادوريون المحبطون رئيساً هو رجل أعمال محافظ، وكان أداء الأحزاب الحاكمة ذات الميول اليسارية في الأرجنتين والمكسيك سيئاً بالانتخابات التشريعية.
ثانياً، العديد من اليساريين الذين يركبون هذا التسونامي من الوسطيين البراغماتيين الذين يستاؤون من الخطاب القديم المناهض للإمبريالية والذي يحرق الجسور بين الولايات المتحدة وجيرانها، حسب المجلة الأمريكية.
ولنتبع نفس الإطار الذي يتبعه التقرير، نرى أن هذا الجيل من اليسار بالفعل مختلف عن نظام حكم آل كاسترو في كوبا وشافيز في فنزويلا، بمعنى أنه لا يتبع أيديولوجية كلاسيكية متعنته تجلب له العداءات المباشرة مع القوى الكبرى، بل يتبنى نهجاً أكثر واقعية لتلبية الاحتياجات الاقتصادية لشعوبه.
وهذا يعطي للقارة الجنوبية مجالاً أكثر حرية للمناورة في النظام العالمي، بالتالي ستسنح الفرصة لقادة اليسار لتغيير وجهة السياسة في القارة؛ خاصة فيما يتعلق بالتحالفات الأجنبية، نظراً للتحولات التي يمر بها التوازن الدولي بين قوى متنافسة.
كذلك، من الممكن أن تتطور علاقاتهم إلى ترتيبات أكثر استقلالية؛ فقد أشار “غوستافو بيترو” رئيس كولومبيا اليساري والمتمرد السابق، في مقابلة مع صحيفة Washington post في وقت سابق من هذا العام إلى أنه يتصور تحالفاً تقدمياً مع تشيلي والبرازيل.
وبقدوم لولا دا سيلفا في البرازيل، ربما يشهد هذا التحالف قوة جيدة في نصف الكرة الغربي، وربما نشهد هذه اللحظة التي تمتلك فيها أمريكا الجنوبية زمام المبادرة، بحسب ما يتوقع “برنارد أرونسون” كبير الدبلوماسيين الأمريكيين لأمريكا اللاتينية في عهد الرئيسين جورج بوش الأب وبيل كلينتون.
الشرق الأوسط..
محاولة للخروج عن الهيمنة
يقول إدواردو غاليانو أحد أعظم كتاب وصحفي القارة اللاتينية: “المدنيون يخافون العسكر، العسكر يخاف نقصاً في السلاح، السلاح يخاف نقصاً في الحروب، إن مصانع السلاح مشغولة بنفس درجة أولئك الرجال الذين يصنعون الحروب لتصريف تلك الأسلحة”.
في هذه البقعة من العالم التي تعاني اليوم من تراجع النفوذ الأمريكي وسلاحه بسبب انشغال الأخيرة بالحرب المقدسة ضد الشر في أوكرانيا، تشير كل التحليلات والمتغيرات في الشرق الأوسط إلى اقتراب نهاية مرحلة التبعية الأمريكية التي عمّرت لعقود ومخاض مرحلة جديدة بتحالفات أكثر استقلالية.
تركيا.. التمرد على الهيمنة
فتركيا على سبيل المثال لم تَعد عملياً في “الناتو”، حتى لو ادعت أنّها فيه نظرياً. فهي تغرد وحيدة الآن، مستغلة موقعها الجغرافي بين الشرق والغرب، فترفض المشاركة في العقوبات الاقتصادية على روسيا رغم التهديدات الأمريكية.
ولا تبالي بصياح الدول الإسكندنافية لرجائها لدخول الناتو للاحتماء من الغدر الروسي، بل تعمل بكل سيادية واستقلالية، مستغله حقها في الاعتراض لدخول فنلندا والسويد، لتنال مطالبها من السلاح والاحترام الكامل لسيادتها ومنع التدخل في شؤونها.
وتلعب دورها بكل حيادية في الحرب الأوكرانية، فبعيداً عن بكائيات الغرب، لم تقطع أنقرة علاقتها مع موسكو، بل وطدتها بشكل سليم؛ أملاً في الوصول لحل لإيقاف العنف، ولم يمنعها ذلك عن دعمها للشعب الأوكراني، فبجانب استضافتها لأكثر من 50 ألف لاجئ، تمد الحكومة الأوكرانية بالطائرات المسيرة “بيرقدار” التي أوقفت تقدم الروس.
وأثبتت دبلوماسيتها المتزنة نجاحها في الإفراج عن صفقة الحبوب التي كادت أن تعرض العالم لأزمة غذاء.
بالإضافة لتواجدها القوي في الملف الليبي غير آبهة بنفوذ الأوروبيين هناك، فهي صاحبة المبادرات الأبرز هناك لخدمة مصالحها ومصالح الشعب الليبي الذي أبرم معها اتفاقاً أمنىاً منذ 2019 لإيقاف مجرم الحرب خليفة حفتر والمرتزقة الروس.
إنما ما يبرز الدور التركي كفاعل مؤثر في الساحة الدولية، هو تبنيها استراتيجية نابعة من تاريخها كدولة بين قطبين، فلا تميل للغرب حد التبعية ولا تتماهى مع أجندة الشرق، بل تبني قطبها القائم من موقعها الجغرافي وقوتها الناشئة.
فبينما هي عضو في حلف الناتو، تشارك عمالقة آسيا لتكوين تكتل يواجه الهيمنة الغربية، فحرصت تركيا خلال سبتمبر/أيلول الماضي على المشاركة في الاجتماع الـ22 لزعماء دول منظمة شنغهاي للتعاون، وشاركت رغبة كل من رؤساء الصين والهند وروسيا وإيران بمطالبتهم لإنشاء نظام عالمي “عادل متعدد الأقطاب” خلال القمة.
تسعى تلك المنظمة بقيادة روسيا والصين في خضم التحول الجاري للنظام العالمي، لإنشاء تعاون اقتصادي يتجاوز الخلافات السياسية والدينية والعرقية والتاريخية لهذه البلاد، ويضع حداً للعقوبات الاقتصادية التي لا تأتي إلا من الغرب.
ولا تخفي منظمة شنغهاي سعيها لبناء نظام دولي جديد متعدد الأقطاب ينهي هيمنة الولايات المتحدة على العالم، وتجلى ذلك في البيان الختامي، وأيضاً في تصريحات الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والصيني شي جين بينغ.
تكمن أهمية هذه المنظمة في أن دولها الثماني تمثل نحو نصف سكان العالم، و4 دول منها تمتلك أسلحة نووية، واثنتين منها تمتلكان حق الفيتو في مجلس الأمن، بالإضافة إلى أن جميع دولها لم تمتثل لتطبيق العقوبات على روسيا، بل على العكس ساعدتها على كسر العقوبات الغربية على نفطها وغازها.
إيران.. تشاغب أكثر
والخليج يطمح في الاعتماد على النفس
تحاول إيران كسر عزلتها، وربما لن تجد فرصة أكثر من الوقت الحالي، لتوسع تحالفاتها وفرد ذراعها أكثر في الشرق الأوسط.
فلم تتوان طهران عن إرسال طائراتها شاهد-136 محلية الصنع وصواريخها ومختصيها لروسيا لدعمها في الحرب.
ويبدو أن إيران تراهن على تغير موازين القوى العالمية بقوة، فبينما كانت هي الطرف الأكثر تمسكاً في الماضي لإتمام الاتفاق النووي مع القوى الغربية، اليوم تضرب بعرض الحائط بأي فرص للمفاوضات بشأنها، بعدما اعترفت بأنها أرسلت طائرات مسيرة إلى روسيا، فدفعت الاتحاد الأوروبي وبريطانيا الشهر الماضي لفرض عقوبات جديدة على إيران.
في الواقع تعلم إيران أولاً والغرب ثانياً، أنها في موقف قوي أكثر من أي وقت مضى، فالغرب يحتاج لنفط إيران لزيادة الضغط على روسيا وإنهاكها برفع زيادة الإنتاج، بعدما رفضت السعودية وباقي دول الخليج زيادة الإنتاج.
وفي ازدراء شديد للإدارة الأمريكية، قررت منظمة الدول المصدرة للبترول “أوبك” وعلى رأسها السعودية والدول المنتجة للنفط المتحالفة معها “أوبك بلس” خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يومياً، مما سبب حالة غير مسبوقة من الهلع والغضب في واشنطن، حيث اعتبرته الإدارة الأمريكية تحالفاً غير معلن مع روسيا.
ففي رأي واشنطن، ستكون روسيا أكبر المستفيدين من خطوة خفض حجم الإنتاج؛ لأن الخفض سيؤدي إلى رفع سعر البرميل. وارتفاع السعر سيساعد الخزينة الروسية في تمويل مجهود الحرب الروسية على أوكرانيا.
ثم إن هذا الارتفاع في أسعار النفط أيضاً سيبطئ نسبة النمو الاقتصادي عبر العالم وسيؤثر في حجم الدعم المالي والعسكري الغربي لأوكرانيا في مواجهة الغزو الروسي.
فبدأت أصوات تعلو داخل الكونغرس بإعادة النظر بشكل شامل لتحالف “النفط مقابل حماية النظام” الذي أسس العلاقات الأمريكية-السعودية قبل 77 عاماً باتفاق الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في العام 1945.
فيبدو أن خريف العلاقة بين المملكة والإمبراطورية بدأ، فطالب النائب الأمريكي الديمقراطي توم مالينوفسكى من خلال طرح قانون داخل الكونغرس ينص على سحب كل أنظمة الدفاع والقوات الأمريكية من السعودية والإمارات البالغ عددها 3000 جندي.
فالحديث علناً عن تأزم العلاقة من جانب الطرفين يعني أن تحوّلاً كبيراً يطوي أوراق العصر الأمريكي الخليجي، ويفتتح عصراً آخر ما زالت ملامحه تتشكل ببطء.
فالصين دخلت على الخط هنا في الشرق الأوسط، فمنذ عقدين تقريباً توسع بصمتها الاقتصادية والسياسية في الشرق الأوسط، وتحاول الإمارات والسعودية ودول خليجية أخرى الحفاظ على التوازن معها، لأن بكين الآن أكبر مشترٍ للنفط الخام من منطقة الخليج.
بينما تراجعت واردات الولايات المتحدة من المنطقة على نحو ملحوظ على مدار عشر سنوات، نتيجة فورة الغاز الصخري في أمريكا الشمالية.
وعلى النقيض، ارتفع الطلب الآسيوي على النفط، وازدهرت العلاقات الاقتصادية بين الصين والخليج، لتصل اليوم إلى ما هو أكثر بكثير من مجرد خام النفط.
ومع الوقت يزداد الاعتماد على الصين أكثر وأكثر، وتتوسع العلاقة بينهما إلى ما هو أكبر من الاقتصاد، فيسعى الخليج وعلى رأسه السعودية للحصول على تكنولوجيا المسيرات المسلحة وتكنولوجيا الأسلحة المتطورة، بينما تعمل المؤسسة السياسية الأمريكية إلى الانفصال عن المنطقة، الأمر الذي وضح جلياً في الانسحاب الفوضوي من أفغانستان.
وهذا ما يجعل السعودية ودول الخليج تراهن على الاستثمار أكثر في العلاقة مع التنين الصيني، وهذا ما أشار إليه المحلل السعودي علي شهابي: فالصينيون بعكس الأمريكيين مستعدون لنقل التكنولوجيا، وليس لديهم كونغرس لمضايقتك. وبجانب ذلك أيضاً، تملك الصين نفوذاً على إيران خصم السعودية، وفرضياً هي حليف إيران الوحيد المهم، مما يصب في مصلحة أمن السعودية لوقف التهديد الشيعي.
وكمثال على اقتناع الرياض بالتفوق التقني المطلق للصين، قرارها باستخدام شبكات هواوي للجيل الخامس في نيوم، مشروع ولي العهد محمد بن سلمان الذي يتكلف 500 مليار دولار لبناء مدينة مستقبلية، رغم معارضة الأمريكيين الشديدة.
والميزة الأكبر أن الصين تتشابه رؤاها مع المملكة، فلديها نموذج سلطوي ذو تنمية بقيادة الدولة، وهذا ما يناسب مستقبل السعودية ورؤيتها المستقبلية.
بالإضافة إلى أن هذا التوافق في الرؤى سيضمن للسعودية عدم تدخل بكين في المسائل الداخلية لها، كما فعلت واشنطن في أزمة مقتل الصحفي جمال خاشقجي الأخيرة، التي كانت من ضمن الأسباب التي أدت لاضطراب العلاقة بينهما.
بالتالي ستأخذ الصين أكثر من حصة الولايات المتحدة في السعودية، ﻷن كل اضطراب يسببه الأمريكيون للمملكة يشجع أكثر على هذا، وفقاً لتقرير Financial Times.
لكن رغم كل هذه المعطيات، من الباكر الحديث عن الانسحاب الأمريكي الشامل الكامل من السعودية والخليج، لكن بالنسبة للخليج لا عودة مجانية إلى الوراء، وتحالف “أوبك بلس” مع موسكو سيظل قائماً، حتى يقدّم الغرب عرضاً مقبولاً في الملفات الأمنية كالعمل على وقف حرب اليمن وإرساء التوازن مع إيران.
لا أحد يمكنه أن يتكهن بطبيعة الولاءات وشبكات التحالف التي سوف تشرع في منطقة الشرق الأوسط.
لكن المؤكد أن نظاماً جديداً يتسم بالمصارحة والتفضيل العلني للمصالح الوطنية، حتى لو تعارض ذلك مع الإمبراطورية المهتزة.
الخاتمة
إنّ هيمنة الغرب -رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية- هي سبب الكثير من الخلافات والصراعات الحالية، لذلك جميع القوى الصاعدة، وتلك المتضررة من الهيمنة، ربما ستعمل بمختلف خطواتها وأفعالها، الخارجية منها والداخلية، بطريقة متّسقةً ومتصلة لإضعاف الهيمنة الغربية الأمريكية. فجميع المتغيرات والمعطيات التي يشهدها العالم اليوم تنبئ بنظام عالمي الجديد، إن تحقق، ليس ضمانة بشيء أفضل أو عادل، ولكن النظام العالمي الذي تحكمه أمريكا اليوم لن يتغيّر عبر التحول، أو بحرب واحدة، إلى حكومة عالمية ديمقراطية أو يوتوبيا تشاركية.. وصعود قوى ودول جديدة وصمودها وتقاربها هو السبيل الوحيد لكي تجد الهيمنة ما يحدها، وسيفعل الغرب أي شيء لمنع ذلك
عربي بوست