كل من الحزبين الديمقراطي والجمهوري يدعي أن الديمقراطية الأميركية ستموت إن انتصر الطرف الآخر في الانتخابات
خالد اليماني وزير الخارجية اليمني السابق
في بداية العام الحالي وفي مقالة بعنوان “يحدث في أميركا”، تناولت حال الانقسام السياسي الذي تعيشه أميركا، وتزايد مخاوف الأميركيين من الأخطار التي تتهدد منظومتهم السياسية، بخاصة مع الاستقطاب الانتخابي الشديد، وما رافقه من توتر عاشته العاصمة الأميركية في السادس من يناير (كانون الأول) 2021. حينها أشرت إلى وعود الرئيس بايدن بمعالجة وترميم الانشقاق الرأسي والاستقطاب الحاد بين مكونات النظام السياسي الأميركي للحفاظ على وحدة الاتحاد.
كنت قد أشرت حينها إلى أن عامل الوقت وجلل المهمة الماثلة أمام بايدن، قد لا يمنحانه قدراً ضرورياً من المناورة نظراً إلى تعقيدات الملفات الكثيرة الداخلية والخارجية القابعة أمامه في المكتب البيضاوي. وفي الواقع فإن الأشهر الماضية لم تكن كافية لتنفيذ الرئيس لوعوده للشعب الأميركي، وها هي أميركا تقف على أبواب انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي التي سيكون لها الأثر الحاسم في الانتخابات الرئاسية 2024. المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي ليس مواتياً للحزب الديمقراطي حتى يترجم إلى أصوات ومقاعد في الانتخابات النصفية.
على الصعيد الداخلي وعلى رغم انطلاقة مشروع “إعادة البناء بشكل أفضل”، وهو المشروع الاقتصادي والاجتماعي الأهم خلال العقود الأخيرة، لا شك في أن سياسات الرئيس الاقتصادية لن تؤتي ثمارها بشكل سريع لتصب في صالح حزبه في الانتخابات الحالية، وربما تحتاج إلى أشهر، أو لسنوات قبل أن تظهر نتائجها لصالح تحديث البنية التحتية المتقادمة وبناء الطرق السريعة والجسور وتطوير قطاع النقل والطاقة البديلة.
ويشهد الاقتصاد الأميركي مصاعب جمة، مع زيادة تأثيرات التضخم في المدى الطويل، وبالنتيجة ارتفاع كلفة المعيشة وارتباك سلاسل الإمداد وارتفاع أسعار البنزين وتشديد السياسات النقدية، وكلها تزيد من مؤشرات دخول أميركا مرحلة الركود الاقتصادي خلال عام 2023. ولقد كان للأزمة التي نتجت من جائحة كورونا النصيب الأول في تعقيد المشهد الاقتصادي، وجاء المشهد الخارجي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ليزيد الوضع الدولي تعقيداً، فيما أسهمت التوترات مع الصين في الاتجاه ذاته، لتجد أميركا نفسها مطوقة بسلسلة من الأزمات، فيما حاولت الإدارة جاهدة للتوصل إلى الاتفاق النووي مع طهران، ولم يعد ذلك الاتفاق يمتلك أي مسوغ داخلي، بخاصة مع زيادة التضامن الدولي مع الشعب الإيراني المنتفض لإسقاط دكتاتورية الملالي.
والمتابع للإعلام الأميركي هذه الأيام، يلحظ حمى الانتخابات التي تكتسح جميع الولايات، قبل 10 أيام من يوم الاقتراع، الذي سيتم فيه التنافس على جميع مقاعد مجلس النواب، وقرابة ثلث مقاعد مجلس الشيوخ، و39 مقعداً لحكام الولايات والاقاليم، إضافة إلى عديد من الانتخابات المحلية الأخرى. وستحدد نتائج هذه الانتخابات شكل الكونغرس الأميركي الـ18 بعد المئة.
حساسيات الصراع
الحساسية الاستثنائية لانتخابات الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل تنعكس في النبرة التصعيدية غير المسبوقة بين الجمهوريين والديمقراطيين، فكلا الحزبين يدعي أن الديمقراطية الأميركية ستشهد موتها المحتوم إن انتصر الطرف الآخر في الانتخابات النصفية، بل يصل الأمر إلى حد تقاذف الاتهامات من قبيل أن الطرف الآخر لا يدافع عن أفكار غير عملية وعقيمة فحسب، ولكن يتهمه في الواقع بأنه يعمد إلى تسميم وتخريب الأجواء السياسية، ويعتمد أساليب غير أخلاقية لبلوغ غايته، ويتم إسباغ صفات مثل “الفاشيين” و”الشموليين”، حينما يريد الديمقراطيين تسمية الجمهوريين، فيما يطلق الجمهوريون صفات مثل “الشيوعيين” و”المتطرفين اليساريين” على الديمقراطيين.
ويزاد التوتر بين الحزبين، فبينما تواصل التحقيقات حول ملابسات اقتحام مبنى الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، والمتهم فيها أنصار الرئيس ترمب والمتطرفين الجمهوريين، باعتبارها خطة محكمة الأركان صاغها ترمب لإسقاط نتائج الانتخابات، بالتالي إسقاط الديمقراطية الأميركية. وفي المقابل يتوقع المراقبون أن نتائج السباق الانتخابي في الثامن من نوفمبر القادم ستركز على توق الجمهوريين بعد سيطرتهم على الكونغرس، لفتح التحقيقات حول الصفقات التجارية والحياة الخاصة لابن الرئيس هنتر بايدن، وصولاً إلى تطلع بعض عتاة الجمهوريين لعزل الرئيس بايدن نفسه.
ويكمن الخطر الحقيقي على الاستقرار والوحدة الداخلية فيما لو تمت تغذية النزعات الانتقامية تجاه التطورات التي شهدتها أميركا خلال أول عامين من إدارة بايدن، فعتاة الجمهوريين يعتبرون كل ما أقدمت عليه الإدارة الديمقراطية تصعيداً خطراً ضدهم، وهم لا يخفون سعيهم في حال آلت إليهم الأمور في الكونغرس إلى عرقلة جهود الإدارة الديمقراطية في التشريعات كافة التي تطمح لإنجازها مثل قانون الحق في الإجهاض وتشريعات أسعار الأدوية وقانون زيادة إجازة الوضع المدفوعة من 12 إلى 18 أسبوعاً وقانون الشرطة.
الطرفان على النقيض من قضايا كثيرة، مثل الإجهاض وحقوق المثليين والتعليم والعدالة الجنائية واللاجئين، فالولايات الجمهورية تصر على الحفاظ على طابعها المحافظ، فيما تعمد الولايات الديمقراطية إلى التعاطي معها بإيجابية. ولهذا فإنه على سبيل المثال، ففي مجال استيعاب الهجرة، يسرع الحاكم الجمهوري في فلوريدا معاملات نقل المهاجرين غير الشرعيين إلى الولايات التي ترحب بقدومهم مثل نيويورك وماساشوستس، لأن الولايات الجمهورية لا ترحب بهم. ويلمح الجمهوريون إلى اعتماد مزيد من الإجراءات الراديكالية ضد المهاجرين في المرحلة المقبلة.
الديمقراطية الأميركية تترنح
كان الرئيس بايدن في بداية العام الحالي قد تناول أولويات إدارته لعام 2022 باعتباره عام النقلة الحاسمة، عام الانتخابات النصفية، العام الذي سيشكل مقدمة حتمية لعام الانتخابات الرئاسية في 2024. وخلال حديثه مع وسائل الإعلام، أشار الرئيس حينها بأنه يتطلع إلى الإكثار من الاستئناس بآراء السياسيين والأكاديميين والإعلاميين والمفكرين، للاستزادة من أفكارهم النقدية البناءة حول ما يتوجب عليه، أو ما لا ينبغي له القيام به.
وخلال الأشهر القليلة الماضية نظم البيت الأبيض لقاءات متعددة، جمعت الرئيس بأشكال من الطيف الفكري والسياسي والإعلامي والأكاديمي الأميركي. ولم يتسرب كثير من التفاصيل عن تلك اللقاءات التي كان الرئيس فيها متفاعلاً بتقديم الأسئلة التي تشغله، وتشغل حزبه وتشغل إدارته وتشغل المجتمع الأميركي، وتشغل موقع إدارته ورصيدها في التاريخ الأميركي. وكل ما نشر عن تلك اللقاءات هو أنها تناولت المخاطر الوجودية التي تتهدد الديمقراطية الأميركية وبقية الديمقراطيات في العالم.
وقام المؤرخون بمقارنة ما يجري اليوم في أميركا، مع ما جرى ودار فيها خلال الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، مع تزايد نفوذ النظم الدكتاتورية التسلطية في العالم، ووصول تأثيراتها إلى الداخل الأميركي. فحينما كان هتلر وموسوليني يعززان سلطاتهما الدكتاتورية في عام 1930، كان القس كوغلين هنا في أميركا، يستخدم برنامجه الإذاعي للترويج للدعاية الشعبوية والمعادية للسامية، فيما كان السيناتور الديمقراطي هيوي لونغ يحرض الأميركيين ضد الرئيس روزفلت ويروج للنظم الدكتاتورية.
ويحاول الرئيس بايدن من خلال خطاباته المختلفة تناول المشاعر المتزايدة المعادية للديمقراطية في أميركا، وهو يكرر أن معركته هي “من أجل روح الأمة”، وتعكس كلماته قلقاً متزايداً توافقاً مع ما يطرحه بعض صناع الرأي الليبراليين ضد خصومه الجمهوريين، وقد ردد أخيراً قوله، “لا يمكنك أن تكون مع التمرد، ومع أميركا في الوقت ذاته”، في وصفه لخصمه اللدود ترمب.
فهل نجح الرئيس بايدن أم أخفق في المهمة التي رسمها لنفسه في بداية مشواره الرئاسي في ترميم الشرخ العميق في الحياة السياسية الأميركية، بخاصة وأن جميع استطلاعات الرأي وتحديثاتها الأخيرة تضع الجمهوريين في وضع أفضل، بما يتوافق مع البيانات التاريخية للانتخابات النصفية للفترة الرئاسية الأولى للرئيس الجديد، وتحديداً في حال بايدن حيث نسبة تأييده الشعبي في استطلاعات الرأي منخفضة نسبياً، وهذه هي اللحظة التي يحاول الديمقراطيون الحؤول دونها، بخاصة في ضوء تصريحات البيت الأبيض في الأيام الماضية التي عبرت عن المخاوف المتزايدة من خسارة الديمقراطيين لمجلسي النواب والشيوخ.
وعلى رغم نبرة الصراع والخصومة، يرى المطلعون على نبض الحياة السياسية الأميركية أن هذا المناخ الاستقطابي هو مناخ انتخابي طبيعي، ولا حاجة إلى التوتر والتسريع باستدعاء تنبؤات أفول أميركا، فهناك كثير من القواسم المشتركة بين مكونات الطبقة السياسية وفرقاء العمل في أميركا، وتقف أميركا ووحدتها ومكانتها وقوتها العالمية في صدارة الإجماع السياسي. إنها أميركا أكبر من أن تنهار.
اندبندنت