الأحد، ١٩ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢١
صحيفة الرأي الأردنية
قبل لقائي بالكابتن جهاد ارشيد كنت في داخل نفسي أستشعر وأدعو الله ان لا يكون الأخير
فوضعه الصحي لم يسمح لي تمضية أكثر من ساعة معه، لمتابعة الحديث قبل دخوله سرير المعالجة. لكن الموت غيبه رحمه الله، وها نحن نستحضر من ذاك اللقاء حديثا لم يشأ الله له ان يتم
جهاد ارشيد الذي تقلب في مهمات مفصلية بين سلاح الجو والطيران المدني وادارة «عالية» في عز مجدها، كان يفكر ويتصرف بعقلية العسكري الذي يرهن نفسه للسلاح أينما كان، داخل الخدمة أو خارجها
تحدث عن نفسه وتقلبه في مختلف مواقع الأمانة والمسؤولية، واستذكر ما يحرص أن ينقله إلى الأجيال الجديدة التي نشعر احيانا انه فاتها الكثير مما يتوجب معرفته من حيثيات سنوات الجمر التي عاشها الأردن طوال النصف الثاني من القرن العشرين
من جنين إلى النصر العسكرية في الزرقاء
ولدت في مدينة بيسان في بيت خالي في الشهر الرابع من عام 1939حيث كان والدي في المعتقل لمقاومته الانجليز
وفي مدرسة اللاتين في قرية الزبابده جنوب شرقي مدينة جنين، بدأت حياتي الدراسية ومنها انتقلت إلى مدرسة النصر التابعة للثقافة العسكرية بمدينة الزرقاء وتخرجت منها عام 1957 وحلمي الذي طالما راودني على مقاعد الدراسة أن أصبح ضابطاً في القوات المسلحة
في مدرسة النصر حيث تخرجت لي ذكريات رائعة مع زملاء أذكر منهم محمد ظافر العالم وحميدي الفايز وفيصل الزبن وعبد الحافظ الكعابنه وآخرين. معظم طلاب الصف كانوا حزبيين، منهم إخوان مسلمون وشيوعيون وبعثيون..الخ، انا لم أكن حزبيا. كان هناك سخط شديد على الأحلاف بتعبئة من إذاعة صوت العرب، وعندما خرجوا في مظاهرات، أجبروني على الخروج معهم وكان ذلك في 1955-1956
لم يخطر ببالي أن أصبح يوماً طياراً مقاتلاً أو مدنياً، ولكن الصدفة وحدها قادتني إلى عالم الطيران. كانت المفاجأة عندما تقدمت لكلية الحسين للانتساب إلى صفوف القوات المسلحة وكان أكثر من 500 شخص تقدموا بطلبات الالتحاق، وعندما دعتنا اللجنة المختصة للمقابلة برئاسة المشير حابس المجالي، كنت في المجموعة الأولى وتم اختياري ضمن المرشحين لدراسة الطيران الحربي. لم يمض شهران حتى سافرنا إلى بريطانيا لتلقي علوم الطيران في سلاح الجو البريطاني بعد أن خضعنا لدورة عسكرية بالعبدلي للتدريب على الأسلحة الخفيفة والمشاة. كنا حوالي 26 شخصاً لم يتخرج منهم سوى ثلاثة أنا واللواء أحمد جويبر والكابتن عماري، أما البقية للأسف لم يحالفهم التوفيق نظراً للمستوى المتقدم للدورة وبعض الصعوبات
وفيما بعد جاء إلى جنين ثلاثة أصدقاء وهم الشهيد فراس العجلوني، وزيد رشاد طوقان، وباسل سعيد المفتي، كانوا في جولة ومروا لزيارتي. بمحض الصدفة لمحنا عمي فريد فطلب بأن آتي بالشباب مصرّا على دعوتنا للغداء في بيته، وأثناء تناولنا الطعام شرح لنا عن حلف بغداد وكيف انه من مصلحة الأردن الانضمام إليه، وأفاض في شرح ايجابياته. كانت هي المرة الأولى التي أستمع وأصدقائي لمثل هذا الحديث الذي اراد منه إقناعنا بأن الأردن بلد ضعيف بإمكانياته المادية والعسكرية، وان الحلف نوع من الحماية والتحديث، ولا يوجد به أي خسارة تذكر أو ما يضر بمصلحة الأردن أو مصلحة الأمة العربية، وانه موجه للاتحاد السوفيتي وليس ضد أي جهة أخرى
أكتفيت بذكر اسم والدي وجدي
عن «تهمة» أنه من عائلة اقطاعية منحته فرصة لم تكن متاحة للكثيرين، يقول الكابتن جهاد: أبداً لم يؤثر ذلك مطلقا على مسيرة حياتي الوظيفية. صحيح أننا في جنين نملك الأراضي وما عليها من آلات ودواب وكل شيء، إلا ان هذا لم يغير من نفسيتنا وأسلوب تعاملنا مع الناس وأذكر أننا كنا نطلب من أهل القرى المحيطة بنا أخذ الأرض لفلاحتها مقابل حصة لهم متفق عليها، وكنا نعطيهم جهدهم وتعبهم بأكثر من المألوف، ونصرف على أبنائهم ونعتبرهم ضيوفا عندنا. لم يكن لدينا أي نوع من الفوقية. وعن نفسي أقول: طالما أحببت أن أتحرر من هذا الموضوع، لا أحب ذكر إسم عائلتي عندما أعرف على نفسي. كنت فقط أكتفي بذكر اسم والدي وجدي. وأذكر في بداية دخولي السلك العسكري أثناء المقابلة سألني «المشير» حابس المجالي عن اسمي فذكرت له اسمي واسم والدي وجدي لأنني أردت الانتساب للقوات المسلحة الأردنية بدون واسطة، فعاد «الباشا» وسالني: من أين أنت؟ من دار ارشيد؟.. قال لي: هذا التواضع موجود عندكم أنتم عائلة ارشيد. ثم سألني عن مصطفى وسليمان ارشيد، فأخبرته بأن مصطفى خالي، وسليمان والدي ثم قال مستنكراً: هل تخجل أنك من هذه العائلة الكريمة؟!! وأضاف في نهاية الاختبار: نعتز بانضمامك ضابطا في القوات المسلحة
مرافقا للملك الحسين
بعد أن أمضيت عدة سنوات في سلاح الجو شهدت مسيرتي تحولاً كبيراً عندما قرر الملك الحسين تعييني مرافقاً لجلالته بعد حرب حزيران عام 1967 كانت تجربة غنية وذكريات لا تنسى مع جلالته الذي منحني الثقة التي أعتز بها. لقد رافقت جلالته في الكثير من السفرات والرحلات وكانت حافلة بالمواقف الجميلة والذكريات التي لا تغيب عن بالي. أول رحلة مع جلالته كانت إلى البحرين حيث عقد مباحثات مع أخيه الشيخ عيسى بن خليفة أمير البحرين
مبعوثاً لتطوير سلاح الجو الإماراتي
في يوم جاءتني سيارة من الديوان الملكي العامر لنقلي لمقابلة الملك الحسين في قصر زهران وما أن التقيت جلالته كعادته رحب بي واطمأن عليّ وعلى اسرتي وسألني إن كنت أعرف أبو ظبي، فقلت له: لا.. عرض جلالته بعض التفاصيل قائلا: ان أميرها شيخ فاضل وأريدك أن تذهب للانضمام إلى سلاح الجو هناك. فأجبت: إن شاء الله سيدي. قال جلالته: الآن ستذهب. كانت أبو ظبي لم تستقل بعد وتأشيرتها تؤخذ من السفارة البريطانية. سلمني جلالته رسالة لتسليمها للشيخ زايد. كل هذا حصل في الوقت ذاته، ومن السفارة البريطانية ذهبت الى المطار مباشرة.. هذا هو سيدنا رغم كل المصاعب التي يمر بها كان يفكر ويهتم بكل الناس وقلبه يتسع للدنيا كلها
في الإمارات تم تعييني قائد سرب ثم قائد قاعدة الشارقة الجوية، وطلب مني الشيخ زايد أن أكون مسؤولاً عن السرب الأميري وطيارا خاصا له لمدة أربع سنوات. وأذكر عندما زار جلالة الملك الحسين أبو ظبي طلب مني العودة إلى الأردن للعمل بالملكية الأردنية. وفي زيارة أخرى لجلالته وكان بصحبته زيد الرفاعي رئيس الوزراء ومضر بدران رئيس الديوان الملكي ونذير رشيد مدير المخابرات العامة وبهاء طوقان والد الملكة علياء في تلك الزيارة أصر جلالته على عودتي إلى الأردن، ولكن الشيخ زايد تدخل بينما كان في وداع جلالته، وقبل التوجه إلى المطار قال جلالته للشيخ زايد: هل تعرف الأخ جهاد.. أجابه: أعرفه حق المعرفة.. فرد عليه جلالته أعتقد أنه خدمكم بما فيه الكفاية فاسمحوا لي سموك أن أصطحبه معي إلى عمان.. فاجابه الشيخ زايد: ان كنت (تبغى) احد العيال خده معك ولكن جهاد لن أرخصه لك.. لقد دهشت حقاً من رد الشيخ زايد الذي اعتبرني مثل اولاده وكنت في غاية الإحراج بعد أن رفض التفريط بي
نائب مدير العمليات الجوية في «عالية»
بعد ثماني سنوات يصفها الكابتن ارشيد بأنها من أجمل ذكرياته في أبو ظبي «: عدتُ إلى عمان بإصرار من الملك الحسين في أواخر السبعينيات واستلمت بعد ثلاثة سنوات كطيار فى الملكيه الأردنية تم تعييني نائبا لمدير العمليات الجوية في الملكية الأردنية «عالية» من عام 1983 وحتى 1986 ثم نائب مدير عام تنفيذي للتدريب ونائب عام تنفيذي للعمليات مرة اخرى
بعد وفاة الحسين رحمه الله عُينت مديراً عاما للطيران المدني عام 1999 وكان أول مهنئيّ سمو الأمير فيصل بن الحسين وأبلغني بأن هذا ما أراده الوالد لو كان موجودا
لم أر أو أعرف أي شخص كجلالته يسع قلبه كل الناس. أفضاله على الجميع، ومن هذه المآثر الكثير الذي يستذكره أبو يزن، عن مواطنين ومسؤولين وشخصيات لم يقصر جلالته في أن يتفقدهم بمناسباتهم المختلفة وما أذكره في آخر مرة كنت فيها نائب مدير العمليات صرفوا لي سيارة مرسيدس فاعتذرت عن قبولها لأن هناك شخصا بحاجة لها أكثر مني!!.. ولا أنسى عندما تزوجت ودعوت جلالته لحضور زفافي، قام بـ (تنقيطي) حسب العرف العام، يومها كانت المظاهرات تعم مدينة جنين فلم يتسن له الحضور وحضر الأمير محمد رحمه لله
الحسنة بعشرة أمثالها
كان الحسين خبيرا بالناس وشخصياتهم. ومن عاداته انه يخصص في السفرات عطايا مادية للوفد المرافق له: فيذكر الكابتن جهاد:
في أول رحلة لي مع جلالته إلى البحرين، ثم البحرين الى الباكستان، أثناء الرحلة كان جلالته جالسا في الأمام وعاد بعدها للخلف وبدأ يكتب على أوراق. لم نعلم ماذا كان يكتب. وفيما بعد علمنا انه كان يوقع «شيك» بالجنيه الاسترليني، كان يخصص لكل شخص من الوفد 300 جنيه استرليني ويضعه في المغلف، وكان من ضمن الوفد الأمير الحسن ورئيس الديوان زيد الرفاعي الذي مر على الوفد المرافق في الطائرة وسلم مغلف النقود لكل واحد.. الجميع استلم نفس المبلغ بما فيهم الأمير الحسن. وعندما وصلني المبلغ اعتذرت عن قبوله، فأخذه الرفاعي وتابع التوزيع.. وصلنا الباكستان وبعد العشاء الرسمي غادرنا، وفي الثامنة صباحا جاءني سليمان مرزوق، وأخبرني بأن جلالة الملك يريدني. كان يجلس بمعيته الأمير الحسن وصلاح أبو زيد وحاتم الزعبي. اصطحبني جلالته جانبا وسألني عن سبب رفض المغلف من زيد الرفاعي؟! فأخبرته بأنني ضابط في القوات المسلحة، وأنا في معية جلالتكم بزيارة رسمية، أتقاضى راتبا من القوات المسلحة، كما وأحصل على علاوة اغتراب قيمتها 5 دنانير في اليوم، والأكل والشرب والمنام بمعية جلالتكم. وأضفت: لقد خرجنا حديثاً يا سيدي من حرب الـ67، والوضع صعب وأرى أنه لا يوجد داع لذلك، ويكفيني شرف مرافقة جلالتكم.. فقال لي: أشكرك على هذا الموقف، لكن أنا قبل أن أكون ملكا فأنا أب وزوج وعندما آتي إلى بلد، اشعر براحة أن أشتري لأسرتي.. زوجتي وأبنائي ما أشعر انهم يحبونه. وأضاف بأنه لا يحب ولا يسمح بأن يكون من هم حولي لديهم أي نوع من الغصة حتى في عقلهم الباطن. وقال ضاحكا: ألم تسمع بأن هدية الملوك لا ترد؟!
أول المظليين في الأردن
كثيراً ما سمعت بأنني والكابتن نصري جميعان أول المظليين في الأردن .لكن القصة التي لا يعرفها الجميع عندما فكر الملك الحسين بإنشاء وحدة مظليين في الجيش التقى بنا بعد مجيء فريق تدريب للمظليين من الجيش الأميركي عام 1982 إلى الأردن، وتم إنشاء مركز تدريب في مدرسة المشاة تفضل جلالته إلى السرب الأول وتحدث معنا بالموضوع وقال: تصادفنا صعوبة كبيرة جداً فى تحفيز عناصر لهذه الوحدة فلا يوجد من يقفز بالمظلة من الطائرة، قلنا لجلالته: نحن جاهزون لتنفيذ الأوامر والقيام بالقفز لتشجيع العناصر وإنجاز المهمة التي لا نرى فيها هذه الصعوبة وبعد أسبوعين وبأمر من جلالته ذهبنا إلى مدرسة المشاة وكان هناك 8 مدربين من الأميركان للتدريب على القفز بالطائرة. كانت الدورة شاقة جداً تخللتها تدريبات بدنية مرهقة وبدأ الشباب يهبطون. كنا أول مجموعة شاركت في الاحتفال بالقفز بعد التخرج وفي قسم كبير من المجموعة لم يتحملوا التدريبات. وبكل الأحوال كنا نحن من أوائل المظليين في الأردن
أبنائي خريجو مدرسة الشهيد فيصل
ذكريات مدرسة النصر في الزرقاء وحياة الخشونة التي تصنع الرجال، لم تبارح ذاكرة أبو يزن الذي اجتهد ان يورثها لأنجاله قال:
عندما دخلت مدرسة النصر في القسم الداخلي بالزرقاء كنت في الـ 13 من عمري، عشت حياة عسكرية خشنة جداً، وكان معظم طلابها من البدو والعشائر الأردنية، بعضهم كان ذووهم في القوات المسلحة أو أيتام أو أبناء شهداء. فأردتُ لأبنائي يزن ويزيد ذلك فأدخلتهما مدرسة الشهيد فيصل
يزن كابتن، متزوج ولديه عبدالله وريان. ويزيد مدير عام شركة IT في السعودية لديه آدم وجنين. وابنتي ماجدة لها ثلاثة أولاد وابنتان وهم طلال، نمر، ونشمي، وليان والنوران. وحفظ الله زوجتي مها سندي الأساسي في مسيرة حياتي. وبحكم مهنتي كطيار كثير السفر، فقد تحملت مسؤولية مضاعفة بتربية الأبناء وتدريسهم ومتابعتهم في كل شؤونهم وهذا جهد غير سهل أبداً لكنها أجادت وأحسنت وهي بالنسبة لي تمثل الزوجة المخلصة المعطاءة والحبيبة التي تشعرني بالوحدة إذا ما غابت عن عيني والصديقة النصوحة ورفيقة الدرب
صحيفة الرأي الأردنية/ الرأي في لقاء خاص مع الكابتن جهاد ارشيد الطيار الخاص للمغفور له الملك الحسين #صحيفة_الرأي #الأردن
http://nabdapp.com/t/97582115
عبر تطبيق نبض
http://bit.ly/2D5DRZ7