د.أسمهان ماجد الطاهر
قرأت اسطورة جلجامش مرات عديدة وفي كل مره كنت اكتشف معاني جديدة في الاسطورة.في كل مره كنت ابحر في خيالي محلقة نحو الازمنة البعيدة، نحو ملحمة إنسانية خالدة تحمل معاني الخصوصية البشرية في أسمى مراحلها وقلقها وارتباكها وتناقضها الفسيولوجي والروحي.
إنها ملحمة عالجت القيم والخلود ومواضيع الديمقراطية.تتحدث اسطورة جلجامش عن الحاكم السومري العملاق؛ الذي جعل الشعب يعيش في ظل القهر والظلم، حتى وجد شعب “أوروك” في شخصية أنكيدو العملاق الذي نصفه بشر ونصفه حيواني مخلصا من العذاب الأبدي الذي عاشوه على يد جلجامش.
دارت معركة بين الاثنين يتصارعان بعنف حتى تتساوى القوى، ثم يلتحمان، فلم تفتأ أن تدور عجلات الزمن حتى أصبح جلجامش صديقًا لـ«أنكيدو» المهزوم ليثبت لنا «أنكيدو»أن قوة الخير تفوق الشر وسطوته وجبروته. الصداقة بينهما تثبت لنا قوة رغبة الإنسان في هدم حواجز التواصل مع بقية البشر، وصراع يعيشه البشر بين قوى الخير والشر.
من خلال صداقة الاثنين تبدأ التغييرات في شخصية الملك وصديقه فتقل حالات العنف والقتل شيئا فشيئا، بل إنهما يقضيان على العفريت الشرير خمبايا الذي كان يزعج أهالي أوروك. لكن هذه الصدقة تنتهي في لحظة موت أنكيدو فيجد جلجامش نفسه -بعد العزاء الذي أقامه- وحيدا ويشعر بالصدمة عندما يرى صديقه متعفن البدن ينخر الدود جسمه.يبدأ جلجامش رحلة البحث عن الخلود والبقاء في رحلة بحث مضنية يجدها في عشبة بقاع البحر، وعندما يغفو على الشاطئ تسرقها الحية.
يعود جلجامش فاضي الوفاض متحسرا فينصحه حكماء أوروك بأن الطريق الوحيد للخلود هو في العمل والعدل والبناء، وهنا يسلك جلجامش طريقا آخر، حيث ينظر للسور العظيم الذي قام ببنائه حول مدينة أوروك فيكتشف أن عملًا بهذه الضخامة هو من أفضل الطرق لتخليد اسمه.
إن أسمى مراحل الخلود هو الأعمال، فقد طارت شهرة جلجامش في الآفاق، وعمّرت طويلًا بعد موته، بسبب مشاريعه العمرانية العظيمة. عّبر ودلالات متنوعة تضع الملحمة في مصاف النصوص ذات الصلة المباشرة بالناس، في كل زمان ومكان. هي كناية عن ثقافة شعبية تم تداولها عبر كل العصور والأزمنة بسبب صلتها بالبشر والحياة.
في المرة الاخيرة التي قرأت بها اسطورة جلجامش وجدت به شخص يملك وجهين احداهما الحكيم، والوجه الآخر المتهور. كيف تكونت تلك الشخصية يبقى حديث عالق في اذهان من يقرأ الاسطورة.لا أحد يعلم ما أصابك جلجامش، ولا أحد يعلم كيف هي معركتك مع الحياة، وما الذي زَعزَع أمانك وقَتل عفويتك. لا أحد يعرف كيف كافحت وكم خسرت، لا أحد يعلم حقًا مَن أنت.
بين وجهين الخير أو الشر، عشت طاعن القوة، بين السراب والحقيقة. لم تفتأ أن تدور عجلات الزمن لتثبت لنا أن قوة الخير تفوق الشر وسطوته وجبروته.الاسطورة تتحدث عن الأزمات النفسية التي يوجهها البشر في الحياة. وكيف يستطيع الإنسان في كل مره أن يضيء آماله ويداوي آلامه.
هذا هو سبب الاهتمام بهذه الملحمة التي تأخذك بعيدًا عن الواقع المؤلم المأساوي، إلى عالم مليء بالحق والمثالية والجمال والخير.أسطورة جلجامش بنكهة لعبة الحياة التي يعجز البشر عن تفسيرها. فهناك دائما معنى خفي يعجز البشر عن تفسيره.رغم أن عدد الشخصيات التي وردت في الاسطورة قليلًا، لكن كان هناك الدهشة والخوف والشك والغموض، فكيف الحال بالعصور الحديثة المكتضه بالجموع.
نعيش كبشر وسط حفل تنكري ضخم، نبحث عن الحقيقية بعيدا عن الزيف، والتي يشكل ابسط صورها إنسانًا حقيقا صادقًا، عفويا. في كل مره اقرأ هذه الاسطورة اعيش حالة مختلفة من التحليل والاستنتاج لذلك سطرتها كتوثيق انصح الشباب في قرأته لمزيد من الوعي الثقافي والابحار بحكم الادب الشعبي الجميل
.a. altaher@yourhjo. com