أول ما تمتحن به هذه الأحزاب التي وصلت إلى السلطة هو خطابها عن “فلسطين”
أمين الزاوي كاتب ومفكر @aminzaoui1
لماذا يخفق الإسلاميون دائماً في إدارة شؤون الدولة كلما وصلوا إلى السلطة؟ وما السبب وراء نجاح بعضهم في الانتخابات الشعبية؟
نجاح التيار الإسلامي “الإخواني” في الانتخابات الشعبية يعود بالأساس إلى الجهل والأمية الثقافية والسياسية التي تغرق فيها المجتمعات العربية والمغاربية، فرأسمالهم في النجاح يقوم على هذا الجهل الذي يصرون على تثميره أكثر فأكثر بالاعتماد على تعميم خطاب يصورهم وكأنهم هم من يملك “مفاتيح” الجنة، وبأن وصولهم إلى كرسي السلطة سيسمح لهم بفتح هذه الجنة للجميع، على الأقل لمن يساندون مشروعهم السياسي.
خطاب “الغواية” من جهة، و”الوعد” من جهة ثانية، هو خطاب توريطي ليس فقط للقاعدة الشعبية للإسلاميين، ولكن أيضاً لقادتهم، وما عرفته التجربة السياسية في مصر وتونس وليبيا والمغرب لدليل على ذلك.
يستفيق المواطن البسيط على فرحة وصول الإسلاميين إلى السلطة عن طريق الانتخابات التي تتميز عادة بالعنف أو بالتزوير، معتقداً أن كل شيء سيتغير وستدق السعادة بابه فوراً وستغدق عليه الخبز الأبيض والحليب الأبيض والنقل الهنيء والمدرسة العارفة والفلاحة السخية والاقتصاد المتفوق والصحة العامرة و… لكن هذا الحلم سرعان ما يصطدم بالواقع الأكثر تعقيداً الذي يمتحن الخطاب الشعبوي الديني في اليومي ليكتشف كذبه وفساده.
في مسيرتهم نحو اكتساب السلطة، يختلط المشروع السياسي الاجتماعي الشعبوي الديني الذي يقترحه هؤلاء الإسلاميون والمليء بـ”الأوهام” و”الأحلام” العسلية، بما تربّى عليه المسلم البسيط أو المؤمن الساذج من صور للجنة قدّمتها له الثقافة الشعبية من أشعار وقصص وبعض التفاسير الغرائبية المثيرة، بهذا، فهو يعتقد، هذا المسلم البسيط، بأن هؤلاء الذين وصلوا إلى سدة الحكم متكئين على خطاب سياسي شعبوي ديني، قادرون على “إنزال” “الجنة” إلى الأرض قبل الصعود إليها يوم الحساب! لذا، تتحمس العامة الغارقة في الأمية السياسية والدينية والثقافية التي أصيبت بخيبة كبيرة من طرق تسيير الشأن العام في دول قادتها أنظمة فاسدة سواء باسم القومية أو الاشتراكية أو الوطنية، مدنية كانت أو عسكرية، تتحمس إلى مثل هذا الحلم قبل أن تكتشف بأنه مجرد كابوس آخر.
كل الأحزاب السياسية الإسلامية في العالم العربي وفي البلدان المغاربية التي وصلت إلى السلطة محمولة على شعارات شعبوية دينية، والتي تدعي بأنها ستقيم الجنة فوق الأرض وفي الشوارع، كانت تزاوج دائماً بين “الترغيب” و”الترهيب”، فهي تَعِد مناصريها بـ”العسل” وتتوعد خصومها بالطرد أو القتل أو السجن.
أول ما تُمتحن به هذه الأحزاب الدينية الإسلامية التي وصلت إلى السلطة هو خطابها عن “فلسطين”، التي تحولت في أدبياتها من قضية عادلة مرتبطة بتصفية الاستعمار وحلّ الدولتين إلى قضية دينية محضة للتجييش المرادف لفكرة الفتوحات الإسلامية، لذا يصطدم الإسلاميون بمسألة في غاية التعقيد، فلا هم قادرون على الحرب ولا هم قادرون على السلام، لأن للحرب شروطها وللسلام شروطه أيضاً، لذلك تبدأ القاعدة الشعبية باليقظة السياسية والانفصال شيئاً فشيئاً والابتعاد عن هذه الأحزاب الإسلامية أمام عجز هذه الأخيرة عن تحقيق الوعد بـ”تحرير” فلسطين، لا بالسلام ولا بالحرب، وهو الموضوع الذي لطالما شُغِلَت العامة به نظراً إلى ارتباط العاطفة السياسية العربية والمغاربية بفلسطين.
يذكر الجميع خطاب الرئيس “الإخواني” محمد مرسي بمجرد اعتلائه كرسي الرئاسة وهو يخاطب الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، ذلك الخطاب المليء بعبارات “الود” والغزل وهو الذي كان قبل فترة لا يتوقف عن الوعيد والتهديد بالحرب لتحرير “القدس” و”الأقصى” وكامل فلسطين “غير منقوصة”، والحال نفسها تنطبق على حكومة “الإخوان المسلمين” في المغرب، حزب العدل والتنمية، التي حصدت غالبية المقاعد في الانتخابات التشريعية قبل الأخيرة أي عام 2016، وسيعرف هذا الحزب هزيمة بل ضربة قاضية في الانتخابات الأخيرة سبتمبر (أيلول) 2021 من قبل الكتلة الناخبة التي اكتشفت كذبه ونفاق خطابه حول كذبة “تحرير فلسطين” وذلك بإشرافه على تطبيع العلاقة مع إسرائيل.
إن الخطاب الشعبوي الإسلامي حول قضية “فلسطين” هو خطاب للاستهلاك وللاستثمار في “غضب” العامة المتعاطفة مع القضية الفلسطينية ولكنه خطاب يبحث بالأساس على تغطية ما يعانيه المواطن من وضع معيشي اجتماعي مُرّ في يومياته في ظل تفاقم البطالة وشح الموارد وتعميم الفساد الإداري والاقتصادي.
إن تسيير شؤون الدولة المعاصرة سياسياً واقتصادياً يتطلب رؤية أخرى غير تلك “الشعبوية الدينية” التي تأسست عليها خطابات الأحزاب السياسية الإسلامية على اختلاف تسمياتها وأعلامها، من تنظيمات عرب أفغانستان إلى تنظيمات “إخوان” أردوغان.
إن تسيير الدولة المعاصرة يخضع لمنطق الحفاظ على المصلحة العامة للبلد من خلال تحالفات معقدة يجب أن تُشرح للمواطن عن طريق البيداغوجية السياسية أولاً ثم الشعور بهذه المصلحة من خلال تجسدها في الحياة اليومية الاجتماعية والصحية والتعليمية وغيرها، وهو ما لا تستطيع الأحزاب الإسلامية القيام به.
إن تسيير الدولة المعاصرة هو الإدراك الشجاع الذي يعرف أن المواطن لا يأكل خطابات سياسية ولا يتعشى أحلاماً فارغة، بل على الدولة أن تكون راعية لمصلحته على المستوى الملموس بعيداً، من الشعبوية الدينية السياسية.
ما لم يفهمه الإسلاميون الذين يعتاشون على الشعبوية الدينية ويستثمرون في الجهل السياسي والأمية الثقافية والانتحار الاجتماعي هو أن شؤون الدولة تقوم بالأساس على تحالفات جهوية ودولية لحماية مصلحة البلد ضمن هذه المعادلة الحساسة، وأن “الدونكيشوتية” السياسية القائمة على المغامرة والغضب ورد الفعل قد ولّى زمنها، وأنها لا تجلب سوى مزيد من الفقر والعزلة والعجز للمواطن وللمجتمعات.
إن منطق تسيير الدولة المعاصرة وشروطها وتحالفاتها هي التي ستكون المقبرة التاريخية للتيارات السياسية الإسلامية الشعبوية في العالم العربي والمغاربي، فمصلحة الدولة، في ظل التحالفات والصراعات، ستدفع التجربة السياسية الفاشلة في البلدان التي عرفت حكم “الإخوان” بالنحو أكثر فأكثر إلى تخليص الدين من السياسة، أي التوجه نحو العلمانية كطريق لتخليص الدين من الاستهتار السياسي والمتاجرة به والتأسيس لمنافسة سياسية قائمة على المشاريع والبرامج الاجتماعية التي تفتح للمواطن بعض “الحلم” الواقعي والمشروع.
اندبندنت
المقالة تعبر عن راي كاتبها