“تخلصتُ من الوطن، من الكاهن، وكلما تقدّم بي العمر غربلتُ نفسي أكثر، إنني أتَطَهّر كي أصبح إنساناً”
أحمد الفيتوري كاتب
كنتُ أجدد شبابي، من شبابك الذي ما زلت أتنفسه
لم تكن الشيخوخة ترعبني
بل كنت أتجاهل الموت
والآن على أي شيء سأستند
وأين سأقف، وكل شيء يظلم في عيني
وصرت شجرة يابسة في مرج تغطيه الثلوج
إن لم يعد بمقدورك يا ولدي، أن تعود مرة أخرى، لتكون بقربي
فخذني معك يا رفقتي العذبة.
من قصيدة “المرثاة” للشاعر اليوناني الكبير يانيس ريتسوس التي لحنها ثيودوراكيس.
مشاهدة Z
أما قبل، فإن حرف Z، يعني باليونانية “إنه حي”. وفيلم “زد” من إخراج اليوناني كوستا غافراس، وموسيقى ميكيس ثيودوراكيس. وقد حصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية، ولأفضل مونتاج في عام 1970، من إنتاج فرنسي – جزائري، وبطولة النجم الفرنسي إيف مونتان، والنجمة اليونانية إيرين باباس، والنجم الفرنسي جان لوي ترنيتان، بالإضافة إلى مجموعة ممثلين أوروبيين وجزائريين. وتناول الفيلم قضية “الاغتيال السياسي”، من خلال قصة مأخوذة عن عمل روائي، يحمل الاسم ذاته “Z”، للروائي اليوناني فاسيلي فسكيلوس، الذي استوحى أحداثها من حادثة اغتيال السياسي اليوناني د.غريغوري لامبراكس، الذي اعتُبر من الشخصيات القليلة التي تطلع إليها اليونانيون، وتحديداً جيل الشباب وطلاب الجامعات، لمحاربة الفساد والاستبداد، والتبعية للولايات المتحدة، فقد كان طبيباً، منحازاً إلى الطبقات الفقيرة من أبناء شعبه، فأسهم في تقديم الخدمات الصحية المجانية، من خلال إقامة مستشفيات خيرية.
كان الفيلم الأول في مراهقتي، الذي حرصت على مشاهدته وفرحت بها، في سينما الهلال ببنغازي عام 1970، وكنت لتوي طالعت رواية “زوربا اليوناني”، لنيكوس كازانتزاكيس/ترجمة جورج طرابيشي. زوربا بدا كما انجيل مراهقتي. لذا حرصت فيما بعد على قراءة روايات كازانتزاكيس، وطالعت في السجن سيرته الذاتية، ترجمة ممدوح عدوان. ولم أتمكن حينها من مشاهدة الرواية التي كُتبت عام 1957، وقد تحولت إلى فيلم سينمائي بعنوان “زوربا اليوناني” عام 1964، حصل أيضاً على الأوسكار، وكان من إخراج اليوناني مايكل كوكايانيس. وقد أُسندت البطولة إلى الممثل الكبير أنتوني كوين، أما بقية الأدوار فكانت لممثلين آخرين، ومنهم آلان باتس الذي قام بدور المثقف والمستثمر، أما إيرين باباس فمثلت دور الأرملة.
كان كازانتزاكيس كاتبي المفضل، لما صار كوستا غافراس المخرج السينمائي، ولم أنتبه حينها إلى الضلع الثالث في المثلث اليوناني: موسيقى ميكيس ثيودوراكيس، الذي قابلته في أثينا لاحقاً، بعد أن التقيت الممثلة اليونانية إيرين باباس، وأنتوني كوين، زوربا اليوناني، وقد كانا في طرابلس، لتصوير فيلم “الرسالة”، ثم شاركا معاً في فيلم “عمر المختار”.
الطريق إلى كريت
حجر حظي يوناني السمت، فلما ولدتُ، وجدت أن لأبي صديقاً، يدعى كوستا، كنت عندئذ أعرف أنه ليبي وحسب. أخي الصغير، عشق ابنة كوستا الشاهقة الجمال. وقد بدأت أنتبه لموسيقى، تنبعث من بيتهم، أحببتها على الرغم من اختلافها، عما نسمع من موسيقى، التي دخلت وجداني، من أذن غير منتبهة، وعقل شارد. ومن ذلك تنبهت أن كوستا يوناني الأصل، وقتها كانت أكبر شركة تعمل في ردم السباخ وسد البحر عن بنغازي، شركة يونانية، وكان عمالها وفنيوها ومهندسوها يترددون على دكان أبي. ومن هذا الجو، سأنتبه ليونانية سلَطة “الخورطة”، الشتوية ومادتها الرئيسة من الكرنب، التي تجيدها جارتنا “القريتلية”، وتجلب معها عند قدومها إلى بيتنا، نصيبي من سلطتها.
هكذا كانت كريت في بيتنا، وفي شوارعنا يسير يونانيون: عمال، أو صائدو إسفنج، أو جنود البحرية اليونانية، الذين تزور سفينتهم الحربية ميناء المدينة. لعل هذا يفسر الشغف، الذي سيطر على دماغي وقلبي، حين قرأت بشغف القريتلي كازانتزاكيس: مَن حينما توفي عام 1957 رفضت الكنيسة الأرثوذكسية أن تمنحه قبراً، بسبب أن كتاباته الفلسفية تتعارض مع المفاهيم المسيحية. فدُفن في مدينة هيروكلين، عاصمة كريت. وقد أوصى أن يُكتب على شاهد قبره “لا أطمع في شيء، لا أخشى شيئاً، أنا حرٌّ”. الحرية التي تسربت من الشاعر الروائي إلى نخاعي.
ولعل من هذا الوله سأحرص في أثينا، في الثانية والعشرين من العمر، وكنت سائحاً شاباً، على مقابلة المرشح الشيوعي لمنصب عميد بلدية أثينا: الموسيقار ميكيس ثيودوراكيس. ولعل ذلك بوازع نيكوس كازانتزاكيس، ودفع من زوربا، من عمل في كريت “الجزيرة الفقيرة، التي لا يمتلك أهلها سوى أحلامهم وصلواتهم في الكنيسة”. عندها قال لي زوربا: إذا أردتَ أن تعيش الحياة بامتلاء فيجب أن تُحب، واحذر أن تجرح قلب إنسان ذات يوم. ثم تركني على قارعة الطريق: “تخلصتُ من الوطن، من الكاهن، وكلما تقدّم بي العمر غربلتُ نفسي أكثر، إنني أتَطَهّر كي أصبح إنساناً”.