الحكم الفردي ينتهي عادة إلى كوارث وابتعاد من رؤية الحقائق وقراءة الوقائع
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
ليس في العالم، إلا نادراً، حاكم ديمقراطي بطبعه. هناك أنظمة ديمقراطية تفرض على الحاكم أن يمارس الديمقراطية، ويحترم الحق في الاختلاف السياسي، والخلاف على البرامج والحلول للأزمات.
وكل حاكم، ولو في دولة مؤسسات، يقع في “إغراء السلطوية”. ولا فرق سواء كان ذلك بالرغبة والفكر فقط، أو بالفعل والممارسة. وكله تحت عنوان الخدمة الأفضل والأسرع للناس، وتجاوز البطء التشريعي والبطء البيروقراطي.
الرئيس دونالد ترمب أراد أن يحكم من البيت الأبيض كما يحكم الرئيس فلاديمير بوتين من الكرملين. الرئيس جو بايدن الداعي إلى “تحالف الديمقراطيات” فاجأ بالانسحاب الذليل من أفغانستان حلفاءه، ولم يستشر شركاءه في حلف الناتو الذين يحاربون مع أميركا هناك.
والرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا والرئيس إلهام علييف في كازاخستان، والرئيس دوتيرتي في الفيليبين، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، يمنون شعوبهم بممارسة السلطوية على أساس أنها “موضة” القرن الحالي.
أما الرئيس التونسي قيس سعيد الذي أنقذ “ثورة الياسمين” من تسلط حركة “النهضة” الإسلامية والسياسيين الشعبويين، فإنه يقف على حافة الوقوع في السلطوية. وليس الرئيس اللبناني ميشال عون خارج الحنين إلى السلطوية. وما بين لبنان وتونس أكثر من التاريخ.
قرطاج التي أنشأتها أميرة صور أليسار كانت قوة قاتلت الإمبراطورية الرومانية. وقصر قرطاج في تونس العاصمة هو اليوم خلية نحل للعمل في كل مجال، وتدارك ما عجزت عن فعله الحكومات الائتلافية.
أما صور اللبنانية اليوم، فإنها مثل كل المدن والبلدات والقرى في الوطن الصغير أسيرة مافيا سطت على الغذاء والدواء والبنزين والمال. وأما قصر الرئاسة في بعبدا، فإنه مشغول بشيء واحد مع أن المطلوب منه كثير، على عكس مرتا التي قال لها السيد بحسب الكتاب: “مرتا، مرتا تنشغلين بأمور كثيرة والمطلوب واحد”.
تونس عرفت السلطوية في الجزء الأكبر من تاريخها أيام البايات قبل الاستقلال وأيام الرئيس الحبيب بورقيبة ثم الرئيس زين العابدين بن علي بعد الاستقلال. ولم تعرف الديمقراطية إلا بعد “ثورة الياسمين”، على الرغم من محاولات راشد الغنوشي للانقلاب على الديمقراطية وإقامة حكم سلطوي باسم الدين.
ولبنان عرف الديمقراطية، لا السلطوية، منذ الاستقلال. وليس في الدستور اللبناني ولا بالطبع في التوازنات الطائفية ما يسمح للرئيس عون بأن يفعل ما فعله الرئيس قيس سعيد بناء على المادة 80 من الدستور التونسي. والحيلة هنا هي ممارسة السلطوية بصنع أعراف.
قصة قيس سعيد نموذجية. أستاذ القانون الدستوري جرى انتخابه شعبياً من خارج الأحزاب بنسبة 70 في المئة. لكن رئيس “النهضة” والمجلس النيابي راشد الغنوشي ومعه رئيس الحكومة هشام المشيشي الذي اختاره سعيد ومعظم التركيبة السياسية حاولوا إبقاء الرئيس في عزلة، ولعبوا بالأزمات السياسية والاقتصادية. وهو قرر بالاستناد إلى الدستور وقف عمل البرلمان وإلغاء الحصانات شهراً، وحلّ الحكومة وتسلم السلطة شخصياً.
وحين انتهى الشهر من دون أن يُعيّن رئيساً للحكومة، وأن يرسم خريطة طريق للمستقبل، أصدر أمراً رئاسياً بتمديد الإجراء الاستثنائي “حتى إشعار آخر”. وكان على الجميع توقّع ذلك. فلا مرحلة انتقالية تكتمل في شهر واحد. ولا إصلاحات تأخذ مداها خلال أسابيع. فضلاً عن أن الرئيس وعد بإطلاق “صواريخ دستورية جديدة”.
وليس واضحاً إن كان يعمل بالفعل لتعديل الدستور وإجراء استفتاء على الانتقال إلى نظام رئاسي يطالب به أكثر من طرف بعد فوضى النظام البرلماني. لكن المعروف أن الرجل، إلى جانب تدريس القانون الدستوري، ناشط اجتماعي ومتضامن مع عائلات الانتفاضة بعد إحراق محمد البوعزيزي نفسه. وهو مؤمن بأن “الشعب قبل البرلمان” وبشيء من “الديمقراطية المباشرة” مثل أيام الإغريق. لا بل يرى أن “الشعب هو الذي يحدد المستقبل ويريد مستقبلاً من دون برلمان يتسبب بالعنف والفوضى والتوافقات السياسية حول حكومات لم تقدم شيئاً للشعب”.
لكن، “إغراء السلطوية” خطير. فالحكم الفردي ينتهي عادة إلى كوارث وابتعاد من رؤية الحقائق وقراءة الوقائع. وما يُضرب به المثل هو “إيفان الرهيب” الذي بدأ مصلحاً عادلاً ثم حوّلته ممارسة السلطة المطلقة إلى ديكتاتور أمر بتقطيع فيل، لأنه مرّ أمامه في حديقة القصر من دون أن يحيّيه. ولولا “الضبط والتوازن” لما استمرت أميركا ديمقراطية.