في مثل هذا الأسبوع قبل نحو 30 عاماً حاولت مجموعة من المتشددين الثملين وغير المنظمين عرقلة المسار الإصلاحي الذي تبنّاه ميخائيل غورباتشوف، لكنهم لم يفلحوا إلا في التعجيل بانهيار الاتحاد السوفياتي، وما زالت عواقب أفعالهم ملموسة بشكل كبير في روسيا اليوم
أوليفر كارول مراسل موسكو @olliecarroll
في الصباح الباكر من يوم الثاني والعشرين من أغسطس (آب) عام 1991، حطت طائرة نفاثة تابعة لشركة “إيروفلوت” كانت تنقل ميخائيل غورباتشوف، في مطار فنوكوفو في موسكو. وظهر الرئيس السوفياتي عند المخرج الأمامي للطائرة في حال من الارتباك، بعد ثلاثة أيام من الأسر في منزله الريفي في شبه جزيرة القرم – لينهال عليه الصحافيون الساخرون بالتقاط ما تحول إلى صورة رمزية لتلك الحقبة التاريخية، لكن ما لم تلتقطه عدسات المصورين، كان درجاً ثانياً في مؤخر الطائرة. خرج منه فلاديمير كريوتشكوف، زعيم “عصابة الثمانية” التي تتألف من زعماء الانقلاب.
وكان فالنتين ستيبانكوف، المدعي العام الروسي في دولة لم تتخذ بعد طابع الكيان الرسمي، ينتظر عند أسفل الدرج لإلقاء القبض على رئيس “هيئة الاستخبارات والأمن الداخلي” السوفياتية (KGB). وكان قد كتب بنفسه مذكرة التفتيش قبل ساعات، وبدا متوتراً من أن تكشف نياته، ومرتبكاً في شأن طريقة تقبله من رجل ما زال يسيطر رسمياً على القوات الخاصة السوفياتية. وكان رئيس النيابة العامة قد وصل إلى فنوكوفو في موكب من بضع سيارات من طراز “لادا” متنوعة الأشكال، وعربات “ميني فان” صغيرة تابعة للشرطة، إضافة إلى حافلة كانت تنقل مجموعةً من المجندين الشباب الذين قام باختيارهم من أكاديمية للشرطة موالية.
ويقول ستيبانكوف: “قدمت نفسي رسمياً لكريوتشكوف، وطلبت منه مرافقتي إلى إحدى قاعات المطار، لكن رده كان التساؤل عن سبب عدم قيام المدعي العام السوفياتي بهذه الاعتقالات”.
والواقع أن أحداث الأيام الثلاثة الماضية التي حاولت خلالها مجموعة من المتشددين أن تسيطر على الحكم وكسر قبضة غورباتشوف الإصلاحي – فقط لرؤية أفرادها اتحادهم السوفياتي المحبوب يتقهقر في هذه العملية – كانت من بين الأحداث الأكثر تخطيطاً على الإطلاق، لكن فشل محاولة الانقلاب كان هو الآخر أحد أعظم ألغاز التاريخ. فعلى مدى التسلسل الزمني، ابتداءً من عرض باليه “بحيرة البجع” (إحدى الروائع الموسيقية للمؤلف الروسي بيتر تشايكوفسكي) على أجهزة التلفزيون السوفياتية في صباح التاسع عشر من أغسطس، وصولاً إلى عودة غورباتشوف في الثاني والعشرين منه، برزت مجموعة من التركيبات غير المحتملة، وحال من انعدام القرارات لا يمكن تفسيرها، إضافة إلى مزيد من الأحداث المهمة.
وكان رودريك بريثويت سفير المملكة المتحدة في موسكو، آنذاك، على علم بالتقارير الاستخباراتية التي توقعت حدوث مؤامرة من جانب المتشددين، لكنه فوجئ، شأنه شأن الزعيم السوفياتي نفسه، بتوقيتها المحتمل. فقبل أسابيع قليلة فقط، تحتم على غورباتشوف مواجهة دعوة إلى فرض حال طوارئ في البلاد، تصور معظم الناس أنها كانت سبباً في تعزيز سلطته.
ويتذكر السفير بريثويت قوله لضيوف خلال مأدبة غداء في الثامن عشر من أغسطس، قبل أن يغادر في وقت لاحق من ذلك المساء للقيام بجولة على كنائس روسية إن “غورباتشوف هو في عطلة، ونحن كذلك”، لكن عندما عادت أسرة بريثويت إلى موسكو على عجل في صباح اليوم التالي، كانت الدبابات قد انتشرت في الشوارع.
أما أكياس الرمل التي تكدست في المقر الرئيس لجهاز الاستخبارات السوفياتية “كي جي بي” في ساحة لوبيانكا، فكانت مؤشراً على أن الانقلابيين قد أعدوا العدة للقتال، لكن منذ الساعات الأولى، كان من الواضح أن شيئاً ما ليس على ما يرام.
وعندما حاول المتآمرون لأول مرة تبرير أفعالهم من خلال مؤتمر صحافي عقد في التاسع عشر من أغسطس، بدت على البعض منهم آثار الثمالة. وطرحت صحافية شابة تدعى تاتيانا مالكينا سؤالاً عما إذا كانوا يعون فعلاً أنهم حاولوا القيام بانقلاب، إلا أن غينادي ياناييف نائب غورباتشوف الذي عين أخيراً، والذي نصب نفسه رئيساً بعد خيانته، أخذ يتمتم بإجابة ممغمغة. ولم تخفِ يداه المرتعشتان عن أنظار الناس.
ويستذكر السفير بريثويت ذلك اليوم، ولا سيما منه وصف زوجته لما كان يحصل بأن “أشبه بعرض للدمى”. وأضاف، “كتبت مذكرة إلى لندن في وقت لاحق من ذلك المساء، ذكرت فيها أن الانقلاب بدا في الواقع متزعزعاً للغاية”.
أما ليف غودكوف الباحث الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 44 عاماً، وكان يعمل في مجال استطلاعات الرأي، فقد علم بمحاولة الانقلاب خلال مكالمة هاتفية أجراها في الساعة السابعة صباحاً مع رئيسه، عالم الاجتماع المرموق يوري ليفادا.
الرجلان كانا يتخوفان مما قد يعنيه ذلك، “راودنا شعور بأننا كنا نعود أدراجنا إلى عام 1918، إلى حقبة الرعب من الإرهاب الأحمر” (فترة من القمع السياسي والقتل الجماعي نفذها البلاشفة بعد بداية الحرب الأهلية الروسية في عام 1918)، لكنهما استعادا رباطة جأشهما بعد المؤتمر الصحافي غير المقنع.
في المساء، قام ليفادا وغودكوف ببث نتائج أول استطلاعات الرأي على مستوى الاتحاد، وذلك عبر إذاعة “صدى موسكو” Echo of Moscow، المحطة المستقلة الوحيدة التي تمكنت من البقاء على الهواء. ويضيف غودكوف، “تمكنّا من إظهار معارضة الأغلبية للانقلاب في مختلف المدن الكبرى باستثناء مدينتين رئيستين، هما مينسك وتبليسي”، مشيراً إلى حدوث “تحول في العقول”.
وفي الوقت الذي تواصل فيه اعتقال غورباتشوف في شبه جزيرة القرم، كان الرجل الوحيد المتاح لتوجيه الطاقة الشعبية ضد المتآمرين هو خصمه الديمقراطي الرئيس بوريس يلتسين. وفي تصرف آخر لا يمكن تفسيره من جانب المتآمرين، لم يتم اعتقال الرئيس الروسي شديد الصراحة أبداً، على الرغم من وجود أمر باعتقاله. ويبدو أن تعاطيه الخمر بكثرة، كان على الأقل جزءاً من سبب عدم جلبه، لكن بحلول وقت الغداء، كان يلتسين في البيت الأبيض مقر البرلمان الروسي في وسط موسكو. ومن هنا، سيقدم الشعبوي الغنائي أشجع لحظات أدائه السياسي، متسلقاً على سطح دبابة ليعلن أن الأوامر التي أعطاها المتآمرون غير قانونية.
ظلت الأجواء متوترةً لفترة من الوقت، إلى أن عادت واستقرت في العشرين من أغسطس. فمن جهة، باتت القوات الأكثر كفاءة وقدرةً في الاتحاد السوفياتي تابعة رسمياً لقادة الانقلاب، بينما كانت هناك من جهة أخرى، مؤشرات متزايدة تعكس محاولات من التخريب وحالات من الشلل.
ومع انتشار الإشاعات عن هجوم متوقع على البيت الأبيض، توافد المتظاهرون إلى وسط العاصمة موسكو بعشرات الآلاف، حيث قام كثير منهم ببناء حواجز مؤقتة من الحافلات الكهربائية وأي شيء آخر تمكنوا من الحصول عليه. وفي هذا الإطار. يقول بريثويت إنه “لم يكن من الممكن أن يصمد أي منها في مواجهة الدبابات لأكثر من ثوانٍ قليلة، لكن الجو كان مفعماً بالبهجة، وأشبه بمهرجان موسيقي كان الناس يعزفون خلاله على آلات الغيتار، ويتسكعون على الطرقات ويثملون.”
وفي الاعترافات التي قدمت للمدعي العام ستيبانكوف، والتي لم تنشر رسمياً قط، أقر المتآمرون بأنهم كانوا عازمين على إصدار أوامر باقتحام البيت الأبيض ليلة العشرين والحادي والعشرين من أغسطس. ويقول ستيبانكوف: “كان لدى قادة الانقلاب مخطط مفصل لشل تحرك يلتسين والحكومة الروسية، بالاستعانة بخرائط وتعليمات لاستخدام قوات خاصة وما إلى ذلك”. وأضاف، “كان من المفترض أن تتخذ وحدة من قوات “ألفا” الخاصة التابعة لجهاز “كي جي بي”، وشرطة العمليات الخاصة الروسية “أومون”، مواقعها في الساعة الأولى فجراً من يوم الحادي والعشرين من أغسطس، وكان من المقرر أن يبدأ تنفيذ العملية بعد ساعتين”.
لكن الخطة خرجت عن مسارها بفعل المأساة. فقرابة الساعة الحادية عشرة ليلاً، تواترت أنباء عن مقتل ثلاثة متظاهرين داخل نفق، على بعد نحو 800 متر من البيت الأبيض، عندما حاولت الدبابات اختراق حواجز الحافلات، حيث سحق كل من ديمتري كومار (23 عاماً)، وفلاديمير أوسوف (38 عاماً)، فيما أصيب إيليا كريتشيفسكي (28 عاماً) برصاصة في رأسه. وقال شهود عيان إن الضحايا اعتقدوا أن الدبابات كانت متوجهة إلى البيت الأبيض. وفي الواقع، لم تكن للفرق المعنية أي علاقة بالعملية المخطط لها، وبدا أن الجنود كانوا يتصرفون بدافع الخوف من السقوط في أيدي الغوغاء.
كان للوفيات أثر عميق أقله على فرد من مجموعة الثمانية. وتداركاً لانفلات الأمور من عقالها، عمد وزير الدفاع ديميتري يازوف إلى جمع طاقمه لإجراء محادثات، وأصيب بصدمة بعد أن استمع إلى الحقائق التي أطلعوه عليها.
وبمعزل عن موافقته على التخطيط لهجوم دموي محتمل على مجلس النواب، الذي يحيط به عشرات الآلاف من المتظاهرين، يبقى السؤال: لماذا تورط في مثل هذه المؤامرة في المقام الأول؟ وبعد أن أدرك يازوف أنه لا يستطيع الاعتماد على جنرالاته للحصول على الدعم الذي يحتاج إليه، أعطى أمراً للقوات العسكرية بالتزام مراكزها، ثم عاد وأمرها بالانسحاب منها.
ويقول ستيبانكوف، إن “الأفراد التابعين لجهاز الاستخبارات (كي جي بي)، الذين تجمعوا في المقر الرئيس في لوبيانكا في تلك المرحلة أصيبوا بحال من الهيستيريا”.
إلا أن الانعطافة التحولية التي سلكها يازوف، والقرار الذي اتخذه لاحقاً بالسفر إلى شبه جزيرة القرم في الحادي والعشرين من أغسطس لتحرير غورباتشوف، متبوعاً بأفراد العصابة الآخرين الذين ساروا خلفه، جعلت محاولة الانقلاب تدخل التاريخ. ومع ذلك، فإن الأيام الثلاثة في شهر أغسطس كانت لها تداعيات طويلة الأمد، ليس فقط على مستوى الاتحاد السوفياتي وميخائيل غورباتشوف، اللذين تضررا من هذه المسألة بشكل نهائي، بل أيضاً على روسيا ذاتها. ففي الخامس والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) عام 1991، استقال غورباتشوف بعد شهور من الإذلال. وتبع ذلك تفكك الاتحاد السوفياتي في اليوم التالي.
وكانت لهذه السلسلة المتتالية من الأحداث الأثر الأكبر على فلاديمير بوتين الذي وصفها بأنها “أكبر كارثة جيو سياسية في القرن”. ففي تلك الفترة، كان ديمقراطياً يحمل شارة، وعضواً في فريق عمدة مدينة سانت بطرسبورغ الإصلاحي أناتولي سوبتشاك. وقد وقف رسمياً بالتالي، في الجانب المعاكس للانقلابيين، لكن يبدو أنه تعلم الكثير من أخطائهم.
ويمكن القول إن جزءاً كبيراً من السياسة الداخلية التي انتهجها الكرملين على مدى الأعوام القليلة الماضية، كان مدفوعاً باتجاه الحد من ذلك النوع من الحرية التي جعلت الشعب الروسي والسياسيين المستقلين عرضةً لانقلاب عسكري.
ومع مرور الوقت، تغير تقييم الجمهور لأحداث أغسطس 1991، بعد أن تضرر من تبعات الإصلاحات الهشة التي أطلقها يلتسين خلال التسعينيات. وتشير استطلاعات الرأي غير المنشورة التي أجراها “مركز ليفادا”، علماً بأن ليف غودكوف بات يترأس الآن معهد الأبحاث الذي يحمل اسم رئيسه السابق، إلا أن الدعم العام لنهج يلتسين قد انخفض إلى 10 في المئة بعد أن كان قد سجل نسبةً عالية بلغت 57 في المئة فور حدوث الانقلاب الذي تم إجهاضه. وإضافة إلى ذلك، لوحظ أن أكثر من نصف السكان يشعرون الآن بالندم على سقوط الاتحاد السوفياتي.
أما مصير الرجال الثمانية الذين حاربوا بشدة للحفاظ على كيان الاتحاد السوفياتي فبلغ مقداراً مماثلاً من التعقيد. وزير الداخلية بوريس بوغو شنق نفسه بعد وقت قصير من اعتقاله، لكن هناك آخرين من الذين خاضوا لعبة طويلة ناجحة. وبعد مماطلة تحقيق ستيبانكوف لأعوام إلى أن انقلب الرأي العام على يلتسين وقوى السوق التي أطلقها، تمكن المتآمرون السبعة الباقون من الحصول على عفو والإفلات من المحاكمة. وكان آخرهم أوليغ باكلانوف قد توفي في أواخر يوليو (تموز) بعد مسيرة مهنية ناجحة في القطاع العام.
وما زال ستيبانكوف حتى يومنا هذا يقول إنه يشعر بأسف لعدم رؤية الرجال الذين اعتقلهم في مطار فنوكوفو يساقون إلى المحكمة، مشيراً إلى أن ذلك شكل “سابقةً سيئة” في تاريخ روسيا وسياستها. وقد تم الكشف عن ذلك بعد عامين فقط، عندما أمر يلتسين الدبابات بالعودة إلى البيت الأبيض لتسوية نزاع دستوري مع برلمانه الجامح.
© The Independent