تزور أنغيلا ميركل واشنطن اليوم في إطار “جولة الوداع” التي تقوم بها، وبحلول نهاية العام الحالي، سيكون هناك مستشار جديد على رأس السلطة في ألمانيا. ماري ديجيفسكي تلقي نظرة في ما يلي على حياة ميركل والإرث الذي ستخلّفه
ماري ديجيفسكي
تقطع أنغيلا ميركل بزيارتها المزمعة إلى البيت الأبيض هذا اليوم، شوطاً كبيراً على طريق استكمال جولتها الوداعية على العالم الغربي. فقد حضرت في أواسط يونيو (حزيران) الماضي إلى جانب قادة أغنى دول العالم قمة السبع التي عُقدت في كورنوال. وتوجهت بعد عشرة أيام من تلك المناسبة، إلى قمة دول حلف الناتو لتودع زعماءها قبل أن تلقي تحيات الوداع على قادة الاتحاد الأوروبي حين شاركت في القمة التي عقدوها وكانت آخر اجتماعات على هذا المستوى في الموسم الماضي. ولم يمضِ سوى أسبوع حتى تناولت الغداء مع بوريس جونسون في مقر رئيس الوزراء البريطاني الريفي في “تشيكرز”، ثم تناولت بعد ذلك الشاي مع الملكة في قلعة ويندسور.
وتوحي الصور التي التقطت لميركل أن لقاءها بالملكة كان مريحاً أكثر من اجتماعها مع جونسون على مائدة الغداء، فقد بدت السيدتان، المتمرستان في مدرسة السياسة الأقل صخباً، كما يمكن القول، وهما تتعاملان بود مع بعضهما البعض وقد ارتاحت كل منهما لصحبة الأخرى. وتعتبر الزيارة التي ستقوم بها ميركل للبيت الأبيض دليلاً على ما تتمتع به من مكانة لا تُضاهى وهي تستعد للانسحاب من المسرح السياسي بعد 16 عاماً من تبوئها منصب المستشارة الألمانية، لا سيما أنها ستكون أول زعيم أوروبي يتلقى دعوة لزيارة البيت الأبيض في ظل سيده الجديد بايدن. صحيح أن جونسون كان أول زعيم أوروبي اجتمع بالرئيس الأميركي الحالي وجهاً لوجه عشية قمة السبع، غير أن ميركل هي أول من يحظى بشرف اللقاء به في واشنطن.
وسيُوجه اجتماع ميركل بالرئيس الأميركي رسالة خاصة للغاية، شأنه في ذلك شأن الجولة الأوروبية التي قام بها بايدن أخيراً. وقد تكون المكاسب التي سيحققها الرئيس من هذا الاجتماع قليلة، باعتبار أن مستشاراً جديداً سيتسلم زمام الأمور في برلين بحلول عيد الميلاد، وربما سيكون على رأس ائتلاف حاكم يجري تشكيله بصورة مختلفة عن الحالي. بيد أن مباحثاته مع ميركل ستعزّز الانطباع الذي دأب على التشديد عليه خلال جولته الأوروبية بأنه رئيس مختلف كل الاختلاف عن سلفه دونالد ترمب.
ويمكننا أن نتوقع نشر مجموعة من الصور المصممة خصيصاً لتبدو متناقضة مع أكثر الصور التي تعود إلى سنوات ترمب بلاغة وقدرة على التعبير. ولعلكم تتذكرون إحدى هذه الصور من قمة السبع لعام 2018 التي عقدت في كندا، وبدت فيها ميركل في مقدم زعماء دول أخرى، وكأنهم يعربون عن اعتراضاتهم على ترمب الذي جلس قبالتهم وقد وضع ذراعيه المطويين على صدره بشكل متعاكس في موقف ينمّ عن التحدي. لن يكون هناك شيء من هذا القبيل هذه المرة، بل من المرجح أن ينخرط كل منهما مع الآخر انخراطاً حقيقياً فيما سيسود جو رسمي يدل على الاحترام.
وإذ سيكون التناقض بين بايدن وترمب مدهشاً، فإن ميركل ستكون هي نفسها، الزعيمة الألمانية المعهودة لا أكثر ولا أقل. وقد ازدادت مكانتها أهمية خلال ولايتها الرابعة الحالية، حتى صارت أشبه بالزعيمة المعترف بها لأوروبا كلها. والواقع أن أي زعيم وطني أو أوروبي في السنوات الأخيرة لم يقترب من المستوى الذي بلغته ميركل لجهة تمثيل القارة الأوروبية على المسرح الدولي بالحنكة والمرجعية اللتين تتمتع بهما. إلا أنها لم تسعَ إلى أداء هذا الدور، بل لقد فُرض عليها بفضل قيادتها الطويلة وفطنتها الشخصية وكفاءتها المعترف بها في إدارة أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي.
يصعب التوفيق حالياً بين شخصية ميركل في وجهيها المختلفين. فهي من جهة، امرأة مألوفة جداً، بقصة شعرها الأشقر القصير وزيها الذي يشتمل على زوجين من الأحذية البسيطة والسراويل السوداء التي ترتديها مع عدد غير محدود من السترات الملونة. بيد أنها من جهة ثانية، الفتاة المبتدئة في عالم السياسة التي بدأت تسلق سلم المسؤولية في الحزب والحكومة بصورة منهجية وهي لا تزال في العقد الثالث من عمرها قبل أن تنقلب بقسوة على هيلموت كول، الذي كان قد شملها برعايته، علماً أنه يعتبر على الرغم من عيوبه الأب الجليل لمشروع إعادة توحيد الألمانيتين.
وصلت ميركل في عام 1990 إلى برلمان (بوندستاغ) ألمانيا التي كانت قد توحدت للتو كنائبة عن دائرة انتخابية في ألمانيا الشرقية سابقاً. وصارت بعد عشر سنوات زعيمة “الحزب الديمقراطي المسيحي” (سي د يو). وقد خدمت بين عامي 1990 و2000 في مناصب عدة، استهلتها بعضوية حكومة كول حيث عملت على التوالي كوزيرة لشؤون النساء والفتيات ثم وزيرة للبيئة. وانتُخبت في أعقاب هزيمة كول الانتخابية عام 1998، أميناً عاماً للحزب ورئيسة له (زعيمة الحزب). وتولت عام 2002 زعامة التحالف البرلماني المعارض لحزب “سي د يو” وشقيقه حزب الـ”سي أس يو” ( الحزب الاشتراكي المسيحي)، وتلك كانت نقطة التحول التي شهدت اختيارها منذئذ مرشحة لجناح يمين – الوسط لمنصب المستشار في الانتخابات التي كانت ستجرى في عام 2005.
وتدل مراجعة الماضي على أن صعودها المطرّد لتتربع على قمة السياسة الألمانية قد تمّ بطريقة منهجية. غير أن الخط الزمني لارتقائها سلم المسؤولية مخادع. فقد سهلت جهود ميركل تقدمها بشكل أقل مما فعله آخرون ممن مهدوا لها الطريق إلى الأعلى بأخطائهم وكانوا سيعرقلون صعودها لو استطاعوا.
بيد أنها تمتعت أيضاً بحسنات وميزات حاسمة، في طليعتها أن شخصية نافذة كانت تشملها برعايتها، إذ اكتشفها في وقت مبكر هيلموت كول الذي كان حينذاك المستشار. فقد اختارها لتسلم منصب وزراي في غضون عام واحد من دخولها البرلمان واعتاد أن يدعوها بـ”فتاتي”، مع أن علاقتهما كانت طبيعية كما يبدو ولم تشتمل على علاقة حميمة أو غيرها من الأشياء غير المناسبة. لكن ربما لاحظ كول أيضاً أن ميركل لم تكن موهوبة سياسياً فحسب، بل كانت تتحلى أيضاً بشخصية مثالية لمنصب مستشار ألمانيا الموحدة في وقت كانت موجة الإثارة الناجمة عن التوحيد قد بدأت تخبو.
كانت ميركل “أوسي”، وهو الاسم غير المحبب الذي أطلقه أحياناً الألمان الغربيون على مواطنيهم من الشرق، بداعي الاستخفاف والهزء. وقد قضت حياتها في بلدة صغيرة هناك، عمل فيها والدها كاهناً للكنيسة اللوثرية البروتستانتية، هي “تيملين”، الواقعة إلى الشمال من برلين المقسمة في ذلك الوقت. كان لدى العائلة أقارب في الغرب زودوها أحياناً أشياء كانت تعتبر في تلك الأيام في ألمانيا الشرقية من الكماليات، مثل بنطال الجينز، كما قضت معهم عطلاتها من حين إلى آخر. وخلافاً لذلك، فقد اتبعت ميركل طريقاً تقليدياً. فهي تجنبت السياسة ومضت بعد تخرجها من جامعة لايبزيغ بشهادة في الفيزياء لتحصل على منصب بحثي في ما كان يسمى أكاديمية العلوم في جمهورية ألمانيا الديمقراطية التي اتخذت من برلين مقراً لها.
ولم تخطُ ميركل خطواتها المترددة الأولى في عالم السياسة حتى بدأ نظام ألمانيا الشرقية يترنح قبيل سقوطه الوشيك. وعندئذ تحولت إلى عضو نشط في “التحالف الديمقراطي” الذي اندمج لاحقاً في “الحزب الديمقراطي المسيحي”. وفي عام 1990 ترشحت لاحتلال مقعد في البرلمان كنائبة عن ميكلينبرغ – فوربوميرن، وذلك في وقت كانت السياسة في الشرق لا تزال منفتحة على نحو فريد وكان حزبها الـ”سي د يو” رائجاً للغاية في أعقاب توحيد الألمانيتين. يُشار إلى أن المستشارة الألمانية لا تزال تمثل هذه الدائرة الانتخابية منذ ذلك الحين.
وكانت ميركل شخصية تدعو إلى الفضول في “الحزب الديمقراطي المسيحي” بوصفها بروتستانتية، وامرأة، ومطلقة علاوة على ذلك، إذ كانت قد انفصلت عن زوجها أولريخ ميركل بعد زواجهما المبكر الذي دام خمس سنوات. بيد أن مصدر ذلك الفضول كانت امرأة نفيسة، جسّدت مسيرتها السياسية حتى ذلك الوقت كل ما كانت ألمانيا الموحدة تطمح إليه.
ولاحظ البعض حتى في تلك المرحلة المبكرة أنها تتمتع بطموح طاغ وعزم لا يلين يخفيهما مظهرها الخارجي الخجول الذي ينمّ عن التواضع وإنكار الذات. لكن سواء كانت تلك الحماسة لديها في البداية، أو أنها طورتها في مرحلة لاحقة، فهي أثبتت أنها على مستوى المسؤولية التي كانت تُناط بها في كل ترقية حصلت عليها في ما بعد، ولم تكن لتستطيع المضي قدماً إلى الأمام في حزب ومؤسسة سياسية تهيمن عليهما العقلية الذكورية لو أنها لم تثبت تمتعها بكفاءة قياسية.
ثمة حادثان على وجه الخصوص يوضحان الطموح الذي كانت تتحلى به ميركل. يتمثل الأول في خطوتها الجريئة التي كانت قاسية وتاريخية فعلاً، للانشقاق عن كول، مع الاعتراف بأن عبء الفساد الناجم عن تورطه في مشاريع تمويل حزبية غير قانونية، كانت أكبر من قيمته للحزب بوصفه المستشار الذي قام بتوحيد الألمانيتين بعد انهيار جدار برلين.
واعتبر كول أن ما جاء في مقال نشرته ميركل لاحقاً في صحيفة “دي تسايت” الأسبوعية بعد عام على هزيمة ائتلاف حزبي “سي د يو” والـ”سي أس يو”، في انتخابات عام 1998 أمام الاشتراكيين الديمقراطيين، كان ذروة الخيانة وأشبه بطعنة نجلاء جاءته من سياسية تتلمذت على يديه. ومع أنه لم يكن مستشاراً أو زعيماً للحزب في ذلك الوقت، فهو كان لا يزال نائباً في البرلمان ورجل الدولة الأكبر في الحزب بلا منازع. مع ذلك، وجهت إليه ميركل في مقالها ذاك كلمات كانت كالرصاصات، جاء فيها: “يجب أن يتعلم الحزب أن يمشي الآن وأن يجرؤ على خوض معارك المستقبل ضد خصومه السياسيين من دون حصان الحرب القديم، كما كان يروق لكول أن يسمي نفسه غالباً… نحن الذين نتحمل حالياً مسؤولية قيادة الحزب، وليس هيلموت كول، سنقرر كيف نقارب المرحلة الجديدة”.
لم تكن ميركل تهدف من خلال هذه الكلمات إلى دعوة الحزب للتخلي عن كول فقط، بل إلى طرح نفسها بجسارة لتسلم زعامة الـ”سي د يو”، وهو المنصب الذي فازت به بعد عام واحد. كما أظهرت خطوتها تلك الإحساس الحاد بالتوقيت الصحيح الذي تميزت به في مسيرتها المهنية. وقطعت لاحقاً شوطاً طويلاً على طريق رأب الصدع مع ذلك الرجل العظيم حين عينته مستشاراً غير رسمي بعدما أُسند إليها منصب المستشار. وبحلول ذلك الوقت، كانت ميركل قد مضت بالحزب إلى “عصره الجديد”، وبات بوسعها أن تتخذ موقفاً شهماً كهذا حيال كول.
وكانت الفرصة قد سنحت بإلقاء نظرة خاطفة على مدى طموحها، المحاط بالكتمان ولكنه معبر بشكل جيد، وذلك بعدما صارت الأمين العام لحزب الـ”سي د يو”، وبات يُنظر إليها كزعيمة مستقبلية للحزب. ويُقال إن عدداً من كبار أعضاء الحزب قد انتُدبوا في تلك المرحلة للتحدث إليها على إنفراد عما رأوه من التنافر بين نمط حياتها والأفكار المسيحية التي يعتنقها الحزب. وكان المقصود من ذلك الإشارة إلى أنها كانت تعاشر منذ وقت طويل يواكيم سوير، وهو بروفيسور في الكيمياء بجامعة هومبولت في برلين، من دون أن تكون متزوجة منه، باختيارها، كما تردد. ونُقل عن هؤلاء المندوبين الكبار تحذيرها ووضع النقاط على الحروف قائلين اجعلي علاقتك معه نظامية، وإلا عليك أن تقطعي الأمل من إمكانية تسلم أي منصب أرفع. هكذا لم يمض وقت طويل حتى عمد الزوجان إلى عقد قرانهما، من دون ضجيج، في ديسمبر (كانون الأول) من ذلك العام.
تتوافر الأدلة الكافية على حنكة ميركل السياسية وحماستها الرصينة، غير أنها لم تستطع اكتساب بعض المهارات السياسية بسهولة. لا بل كانت لا تزال عاجزة عن القيام بحملة انتخابية فعّالة حتى بعد ما يزيد على عشر سنوات في الصف الأول للسياسة الألمانية. لقد تابعتها في الأسابيع التي سبقت انتخابات 2005 حين كانت مرشحة حزبي “سي د يو” والـ”سي أس يو” لمنصب المستشار ووجدت أن خطاباتها في التجمعات والمسيرات كانت بائسة حقاً، وقد أضحت أكثر بؤساً مما كانت عليه بفضل اللمسة السياسية البارعة التي تمتع بها منافسها الرئيس غيرهارد شرودر، المستشار الديمقراطي الاشتراكي. وأدت الأخطاء التي ارتكبتها في مناظرات تلفزيونية وأدائها الباهت في أثناء جولاتها على الناخبين، إلى تفويت فرصة الفوز بالغالبية الكبيرة التي أظهرتها استطلاعات الرأي في الأسابيع الأخيرة من الحملة الانتخابية، وبدا المرشحان في ليلة الانتخابات متقاربين للغاية.
لكن ميركل برهنت بعد ذلك من جديد على أنها تملك ذلك المزيج من القدرة على البقاء في السلطة وعلى التركيز، الأمر الذي خدمها جيداً. فقد جاءت للمشاركة في الطاولة المستديرة التقليدية التي يبث التلفزيون وقائعها بثاً حياً ليلة الانتخابات ويتحلق حولها قادة الأحزاب، وهي تعكس على الهواء مباشرة بشكل مؤلم الجوانب الخاطئة والصحيحة. وكان على ميركل أن تستمع في تلك الجلسة إلى ما لا نهاية لشرودر وهو يتباهى بفوزه المزعوم. وتركته يتحدث ويطيل الحديث كما يشاء، قبل أن تعلن بهدوء إن حزبي “سي د يو” والـ”سي أس يو” كان يتقدمان على حزب شرودر، وكانت مصيبة في ذلك تماماً.
واستطاعت ميركل أن تعلن في غضون ثلاثة أسابيع تخللها الكثير من جولات المفاوضات، عن تشكيل “تحالف كبير” ضم حزبي “سي د يو” والـ”سي أس يو” إلى جانب الحزب الديمقراطي الاشتراكي، بقيادتها كأول مستشارة في تاريخ ألمانيا. أما شرودر منافسها، فترك السياسة نهائياً.
راج في ذلك الوقت الكثير من التكهنات بأن التحالف كان أكثر هشاشة من أن يستطيع الاستمرار. لكنه في الواقع، لم يبقَ حتى نهاية الولاية الكاملة فحسب، خلافاً لتحالف “الأحمر- الأخضر” الذي سبق وأقامه شرودر، بل فتح الباب أمام ميركل للفوز بعدد أكبر من النواب والاحتفاظ بمنصبها، إذ أعيد انتخابها لأربع سنوات أخرى.
يمكن القول بصورة منطقية إن ميركل قد استفادت خلال حملتها الانتخابية وأيضاً حين كانت على رأس عملها كمستشارة، من الإصلاحات العمالية الضرورية وغير الشعبية التي طبقها سلفها شرودر. لكنها أثبتت حين تولت السلطة أنها سياسيّة ماهرة بفضل كفاءاتها هي، ونجحت في تخطي الصعوبات والأخطار التي أحدقت بتحالفها بسبب التوازنات الدقيقة التي قام عليها. ويعود نجاحها هذا إلى المهارات نفسها التي أوصلتها إلى منصب المستشارة، وهي الصبر، وحسن التقدير والقدرة على اتخاذ القرارات والالتزام بها، على الرغم من أنها طورت هذه القدرة غالباً بعد الكثير من المداولات.
صحيح أن هذه السمات باتت موضع مساءلة ولفت البعض إلى أن لها جانباً سلبياً، وذلك في حين كانت ميركل على رأس السلطة. وسنّ النقاد كلمة جديدة بالألمانية هي “ميرلكن” التي تعني المراوغة أو التردد من دون إنجاز أي شيء. وفي الوقت نفسه، لم يكن قليلاً أن تكتسب سياسيّة مثلها نادراً ما تعبر عن عواطفها، الاحترام على نطاق واسع، مع أنهم خصّوها به أول الأمر على مضض. وعلى الرغم من أنها لم تُرزق بأي طفل، وإن كان لدى زوجها سوير ابنان بالغان، فهي نالت لقب “الأم”، أم ألمانيا.
وإذ مرت الانتخابات واحدة تلو الأخرى، فهي باتت أكثر مهارة وثقة بالنفس بكثير وأشد إقناعاً لجهة قدرتها على القيام بحملات انتخابية، وصار أداؤها في كل مرة أفضل بشكل غير محدود مما كان عليه في المرة التي سبقت. وبدت قبل أربع سنوات في الانتخابات، التي أسرّت للبعض أنها ستكون آخر انتخابات تخوضها، مختلفة كل الاختلاف عن تلك الشخصية الخجولة والمرتبكة التي كانتها حين ألقت خطاباً في أول تجمع وطني لها قبل ما يزيد على عقد من الزمن. وبحلول ذلك الوقت الذي عقدت فيه العزم على عدم الترشح مجدداً، ربما كانت قوة ميركل الانتخابية قد تراجعت ولم يعد تأثيرها في ذروته التي صارت على الأرجح شيئاً من الماضي.
وهي كادت أن تفوز بغالبية شاملة في انتخابات عام 2013، وهي ثالث انتخابات تخوضها. بيد أنها عجزت عن الاستفادة من تلك القوة الانتخابية لأن حزب “الحرية والتنمية ” (أف دي بي) المؤمن باقتصاد السوق الذي كان من الأحزاب التي أوردتها في خياراتها الأولى لشركائها في ائتلاف تأمل بتشكيله، لم يستطع الوصول إلى العتبة المطلوبة لدخول البرلمان، ما أجبرها على إقامة “تحالف كبير” آخر. هكذا كانت ثلاث من حكوماتها الأربع أكثر وسطية مما كانت ترغب، مع أن حكومتها الثانية التي شارك فيها “أف دي بي” كانت الأقل نجاحاً، كما يقال.
ويصعب التنبؤ تماماً ما الذي سيبقى من سنواتها الـ16 في الحكم، لدى تأمل الماضي، ربما في وقت سابق لأوانه. أو حتى أين كانت لحظات الصعود والهبوط ذلك أن النجاحات والاخفاقات، غالباً ما تكون مرتبطة مع بعضها بعضاً.
كانت أزمة اليورو من دون شك واحدة من تلك اللحظات، وهي في الأساس من نتائج الانهيار المالي العالمي في 2007-2008. كانت ميركل وقتذاك لا تزال في ولايتها الأولى، وتفتقر إلى الثقة والصلاحيات التي اكتسبتهما في وقت لاحق في الاتحاد الأوروبي. ربما كانت المهمة التي واجهتها مستحيلة، إلا أنها لم تستطع أن توازن بين ميلها الغريزي هي ودول شمال أوروبا إلى الادخار، من جهة، وبين ما رآه العديد من الألمان وكأنه ضعف الأوروبيين الجنوبيين، وبخاصة اليونان، من جهة ثانية. وكشف الخلاف الذي تلا ذلك عن العديد من الانقسامات الأساسية في الاتحاد الأوروبي وهو ما عولج بفضل تعهد ماريو دراغي الشهير، الذي أطلقه حين كان رئيس البنك المركزي الأوروبي، بأن يفعل “أي شيء يقتضيه الأمر” بغرض إنقاذ اليورو.
ويمكن القول، مع هذا، أنه حتى ولو تمسك معظم الألمان بميولهم الغريزية المالية، فإن ميركل قد تعلمت من تلك التجربة ولم تسمح بالتشكيك مرة أخرى بالتزام بلادها تجاه الاتحاد الأوروبي. ودعمت بعد سنوات، التشدد الذي أبداه الاتحاد الأوروبي في مفاوضات الـ”بريكست”، وذلك بعدما كانت قد رفضت الاستجابة لمناشدات ديفيد كاميرون بتقديم تنازلات قبل استفتاء المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد الأوروبي. إن الاستمرار في إيلاء الاتحاد الأوروبي أهمية بالغة في السياسة الألمانية، هو السبب الذي يفسر جزئياً لماذا صار يُنظر إلى ميركل بشكل متزايد داخل القارة وخارجها كرئيسة لأوروبا.
وشكلت أزمة اللاجئين في عام 2015 نقطة عالية – منخفضة بالنسبة لولاية ميركل كمستشارة ألمانية. فمن جهة، كان قرارها بقبول ما يزيد على مليون لاجئ مدعاة للإعجاب ودليلاً حياً على كيفية عمل ألمانيا الحديثة التي صارت في أعقاب الحرب شاملة لا تميز بين شخص وآخر ومتسامحة إلى حد بعيد. لكن من جهة ثانية، سرعان ما تلاشى الترحيب الشعبي وأخذ قرار ميركل يراكم سلفاً صعوبات محتملة، حتى بالنسبة لدولة كألمانيا معروفة باتباع طرق فعالة في استقبال الوافدين الجدد. وكانت الأعمال الإرهابية علاوة على سلسلة من الاعتداءات الجنسية في كولون وأماكن أخرى بعد رأس السنة الجديدة، بمثابة الهدايا الثمينة لليمين المتطرف، الأمر الذي جعل فوز ميركل بولاية رابعة في عام 2017 أشد صعوبة مما لو لم تكن أزمة اللاجئين وتداعياتها موجودة.
كانت نتيجة تلك الانتخابات متقاربة، واستطالت المدة التي استغرقتها محاولات تشكيل الحكومة، التي جاءت على شكل “تحالف كبير” آخر، إلى ستة أشهر وهي مدة قياسية. وكانت ميركل قد أعلنت في بداية ولايتها الثانية أن التعددية الثقافية عبارة عن “فشل ذريع”، مشددة على ضرورة اندماج الوافدين الجدد بالمجتمع الألماني السائد. وقد يكون جيل العام 2015 هو الاختبار النهائي لذلك.
يُعتبر سجل ألمانيا في مجال البيئة وتغير المناخ الوجه الثالث للإرث الذي ستتركه ميركل. ويُذكر أن الحقيبة الوزارية الثانية التي أُسندت إليها في عام 1990، كانت البيئة. ومنذئذ حافظت على اهتمامها بالقضايا التي تتصل بالمناخ وسياساته. وفيما صار حزب الخضر في ألمانيا قوة سياسية مؤثرة، تعهدت ميركل كمستشارة بالتخلص التدريجي من محطات الطاقة التي تعمل بحرق الفحم الحجري وبإلغاء الموقف المناهض للطاقة النووية الذي اتخذته حكومة شرودر. وانتهى كل هذا نهاية متعجلة، مع ذلك، حين اتخذت القرار بين عشية وضحاها تقريباً بإغلاق كل محطات توليد الطاقة النووية في ألمانيا بعدما وقعت كارثة فوكوشيما في اليابان عام 2011. واعتمد تنفيذ هذا القرار على تبني توجه جديد تمثل في التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة وتقليل استخدام الطاقة، وهي نقلة لم تتم بسلاسة.
ومع هذا، كان لقرارها بالإسراع في إنهاء الطاقة النووية في ألمانيا تأثير غير مباشر على وجه آخر من وجوه سجل ميركل، وهو العلاقات مع روسيا. فقد باتت علاقة الحكومة الألمانية وثيقة أكثر بالخطط لمدّ أنابيب غاز جديدة من روسيا إلى نوتردام2، وهي الخطط التي قوبلت بمعارضة قوية في أنحاء أوروبا ومن الولايات المتحدة، باعتبار أن ذلك أدى إلى زيادة اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية كما حرم أوكرانيا من رسوم عبور الأنابيب.
لقد اكتمل خط الأنابيب هذا عملياً الآن، غير أن المشروع يساعد في تسليط الضوء على التناقضات التي تشكو منها سياسة ألمانيا بشأن روسيا في ظل ميركل، وهي سياسة مالت إلى البراغماتية، فيما كانت تحاول في الوقت نفسه الحفاظ على أجندات الأمن وحقوق الإنسان التي تأتي في المقام الأول بالنسبة لبعض دول الاتحاد الأوروبي الأخرى. غير أنه بسبب قوة ألمانيا التي بلغت هذا المستوى الكبير، فإنها تستطيع عادة أن تتجنب الثبات في موقف واحد، بل تعمد إلى الذهاب تارة في هذا الاتجاه وأخرى في ذاك، كما يدل توفيرها المعالجة الطبية للمعارض الروسي أليكسي نافالني، في الصيف الماضي بعد تسميمه. ووصلت التناقضات إلى علاقة ميركل مع فلاديمير بوتين، التي بدا أنها كانت في أحسن الأحوال باردة ينقصها الكثير من الدفء. والواقع أن كلاً منهما ترعرع في ظل نظام شيوعي، وعاش مرحلة سقوط هذا النظام كما غيّر ولاءه الحزبي في الوقت نفسه تقريباً، وكل منهما يتقن لغة الآخر، كما أنهما وصلا إلى السلطة في الوقت نفسه تقريباً. ولعلهما يعرفان عن بعضهما بعضاً أكثر مما ينبغي كي يكون بوسعهما أن يقيما علاقة خالية من الحذر والتوجس. وقيل إن بوتين، على سبيل المثال، حاول إزعاج ميركل ذات مرة بإحضار كلبه إلى أحد الاجتماعات، لا سيما أنه على علم بمدى نفورها من الحيوانات.
ومن جانبها، أخفقت ميركل أيضاً في محاولتها المشتركة مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتوجيه دعوة إلى بوتين للمشاركة في قمة مبكرة مع الاتحاد الأوروبي، وذلك في أعقاب التقارب بين الولايات المتحدة وروسيا في القمة التي عقدت في جنيف. غير أن غالبية دول الاتحاد الأوروبي رفضت الاستجابة لرغبة ميركل، الأمر الذي اعتُبر دليلاً على تراجع نفوذها مع اقتراب ولايتها من نهايتها.
لكن، من ناحية أخرى، تلقت سلطتها المتقهقرة في الداخل، وكذلك سجلها كمستشارة أيضاً، تعزيزاً متأخراً بسبب تدخل لم يكن متوقعاً على الإطلاق من جانب جائحة كوفيد. وفيما كانت الحكومات والخدمات الصحية في البلدان الأخرى تتخبط بحثاً عن العلاجات الشافية، فإن ميركل المتخصصة أصلاً في العلوم، قد استعادت مكانتها كقائدة هادئة موثوقة. وكانت المرة الوحيدة التي بدت فيها ضائعة لا تعرف ماذا تفعل حين أُجبرت على التراجع عن قرار الإغلاق في عيد الفصح. وجاء اعتذارها المتلفز عندئذ عبارة عن اعتراف كاد يكون غير مسبوق بارتكاب خطأ من جانب المستشارة التي بدت فجأة غير متأكدة مما كانت تقوله، وأكبر سناً أيضاً.
وكانت تلك اللحظة بمثابة الفرصة النادرة لإلقاء نظرة سريعة على العالم الداخلي لامرأة أبقت مسافة بينها وبين الآخرين ولم تكشف إلا عن قسط ضئيل من المعلومات عن شخصيتها الخاصة على امتداد عقدين من الزمن كانت خلالهما في دائرة الضوء. وعلى الصعيد السياسي، يمكن استنتاج أن ميركل أكثر يمينية بالنسبة للأمن والاقتصاد مما سمحت لها “التحالفات الكبيرة” الثلاثة التي أقامتها مع الديمقراطيين الاشتراكيين أن تكون. وهي دخلت السياسة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، كمؤيدة للتعاون الوثيق بين أوروبا والولايات المتحدة. وقد اشتهرت ملاحظة أبدتها في مؤتمر دافوس في عام 2013، عن أن أوروبا تضم 7 في المئة فقط من سكان العالم وتقدم مجرد 25 في المئة من الناتج المحلي العالمي، بيد أنها مسؤولة عن حوالى 50 في المئة من الإنفاق الاجتماعي العالمي، وسيتعين عليها أن تجد طرقاً جديدة للحفاظ على معايير المعيشة التي تتمتع بها.
أما على المستوى الشخصي، فهي تعيش حياة متواضعة، مفضلة البقاء في شقتها الخاصة على السكن في مقر إقامة المستشار الرسمية في برلين، كما تتسوق في مخزن السوبرماركت المحلي. وقد لوحظ مرة في المراحل الأولى لتفشي الجائحة أن سلة التسوق التي كانت تضع فيها مشترياتها لم تضم سوى بعض الكرز والصابون وورق التواليت وزجاجة نبيذ من النوع العادي. وتطهو ميركل بنفسها نوعاً من الحلوى التقليدية هي “كعكة البرقوق الألمانية”، كما تقضي عطلاتها في المشي أو التزلج بين المناطق الريفية أو في الاسترخاء بجزيرة إيشيا الإيطالية. وتحب المستشارة الأوبرا، ما حملها على حضور مهرجان فاغنر السنوي في بايرويت (البلدة البافارية التي تضم مسرحاً بناه ريتشارد فاغنر) بانتظام، برفقة زوجها الذي يعتبر شخصية أكثر تحفظاً من دينيس تاتشر، زوج مارغريت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة.
تمثل المعلومات الواردة أعلاه إلى حد بعيد كل ما كشفت عنه ميركل. لكن تجدر الإشارة أيضاً إلى أن كل سنوات عملها الطويلة في ميدان السياسة كانت نقية مئة في المئة، لم تعرف على الإطلاق أي أثر للفساد أو المحسوبيات أو أي نوع من الممارسات غير المناسبة. فميركل لم تتوسط يوماً لأحد ولم تعمد في حياتها إلى ضمان فوز بعضهم بعقد ما، كما لم تعين قريباً أو صديقاً في مجلس إدارة شركة أو مؤسسة، أو تقدم أطروحة تمت سرقة محتواها لنيل شهادة أكاديمية. وبدت المستشارة الألمانية ضعيفة مرتين، الأولى حين ظهرت وهي تستعمل عكازين بعد حادث تزلج في عام 2014، والثانية كانت في فترة أقرب عندما كانت تعاني من رعشة واضحة، ويبدو أن هذه الحالة قد انتهت بسلام. وكانت كل من هاتين المناسبتين اللتين بدت فيهما حياتها في خطر، استثنائية أثارت القلق في أنحاء العالم.
مرّ ما يقرب من ثلاث سنوات على إعلان ميركل استقالتها من زعامة حزب “سي د يو” وأنها لن ترشح نفسها في الانتخابات المقبلة وستترك السياسة بعد تشكيل الحكومة الجديدة. وعلى الرغم من فشل ميركل في تسليم عصا القيادة إلى أنغريت كرامب- كارينباور، وزيرة الدفاع الحالية التي اختارتها لتكون خليفة لها إلا أنها أثبتت أنها غير مناسبة لذلك الدور، فالمستشارة تحظى باحترام واسع، أو مودة، في دوائر السياسة الألمانية وخارجها. ولئن كانت إطلالتها الوداعية في كل من مؤتمر حزب “سي د يو”، والاتحاد الأوروبي والبرلمان الألماني، عبارة عن مناسبة هادئة تحمل طابعاً مهنياً واضحاً، فقد قوبلت في كل منها بعاصفة طويلة من التصفيق.
وقد قضت في آخر إطلالة لها في الـ”بوندستاغ” ما يزيد على ساعة كاملة في الإجابة على أسئلة النواب عن تأملاتها بشأن التحدي المقبل الذي ستواجهه ألمانيا وعن التوصيات التي ستقدمها لخليفتها. وإذ لفتت إلى أنه لم يكن هناك آي فون حين تسلمت مقاليد السلطة في البلاد، فهي خصّت الرقمنة والوصول إلى المعلومات بالذكر قائلة في ختام مداخلاتها “كلما حصلت على مزيد من المعلومات كلما زادت فعاليتك”. ثم لم تلبث أن وضعت أوراقها في حقيبتها قبل أن تنحني تعبيراً عن شكرها للحضور حين ضجت القاعة بالتصفيق.
ونظراً إلى أنها ستتقاعد من العمل السياسي في غضون أسابيع، فالأرجح أن مباحثات ميركل في واشنطن ستكون تأملية يفكر فيها الطرفان ببعض ما جرى في الماضي وبما يمكن أن يحصل في المستقبل، ولن تشتمل على صناعة السياسات. فالزعيمان يتمتعان بخبرة طويلة وقد استفادا، كل بطريقته، من نهاية الحرب الباردة. ويمكن أن تُترك معالجة مسائل مثل الخلافات الأميركية- الأوروبية بشأن التجارة والسياسة الواجب اتباعها حيال الصين، إضافة إلى شكاوى واشنطن الدائمة من قلة الانفاق الدفاعي الألماني، لخليفة ميركل. ومن المرجح أن يحل محلها آرمين لاشيت، زعيم حزب “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” الذي يُتوقع أن يفضل الاستمرارية على التغيير.
لكن قد يتمخض اجتماع البيت الأبيض عن نتيجتين محددتين بشكل أشد وضوحاً، الأولى ملموسة تتمثل في خطوة لتنسيق الجهود الدولية بشأن التعافي من الجائحة، والثانية أكثر تجريداً مثل إشارة قوية من الرئيس الأميركي أن المانيا قد حلت الآن محل المملكة المتحدة كجسر بين واشنطن وأوروبا. ويمكن لبادرة من هذا القبيل أن تكون بمثابة تكريم لائق لمستشارة ألمانية يتجلى في سيرتها الذاتية إلى حد بعيد تاريخ ألمانيا الحديثة، وينبغي أن يكون خروجها من المسرح السياسي في الوقت المناسب وبهذا الشكل الحكيم، نموذجاً يُحتذى في الأنظمة الديمقراطية حول العالم.
© The Independent