“في غياب نظام عالمي جديد من الوهم الحديث عن نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط”
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
المؤرخ الأميركي بول جونسون متفائل بواقعية. لا شيء في استخلاصه للعبر التاريخية يدفعه إلى رؤية العالم ومصيره من وراء نظارة سوداء. وكل شيء يعزز وقوفه على الضفة المعاكسة لجون أوزبورن في مسرحية “أنظر إلى الوراء بغضب” التي شغلت لندن والعالم في خمسينيات القرن الماضي، بعد الحرب العالمية الثانية ومآسيها. فجونسون ينظر إلى الوراء برضى ويقول، إن “أهم إنجاز في القرن العشرين هو حكم القانون”. ويتطلع إلى المستقبل بأمل ويقول، “أهم إنجاز في القرن الحادي والعشرين يجب أن يكون حكم القانون الدولي”. غير أن حكم القانون لم يشمل كل الأنظمة والبلدان في القرن العشرين. فهناك أنظمة تصوغ القوانين في خدمة حكامها وأهوائهم، وتنفذ ما يسميه الخبراء “قانون الحكم” لا حكم القانون. وهناك أنظمة وصلت إلى أن تصبح دولة قانون، من دون أن تصل إلى المرتبة الأعلى: دولة الحق والقانون.
وحكم القانون الدولي في القرن الحادي والعشرين، لا يزال أسير الكبار أصحاب حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي. إذا اتفقوا جرى تطبيق حكم القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية في حق البلد المخالف. وإذا اختلفوا بسبب تضارب المصالح، فلا قرار ولا حكم قانون ولا إنقاذ شعب من ظلم حكامه بموجب المبدأ الذي أُقرّ في الأمم المتحدة تحت عنوان “مسؤولية الحماية”. والعالم عملياً، كما يقول أستاذ التاريخ في أوكسفورد تيموتي غارتن آش، في “نظام متعدد الفوضى”.
ذلك أن الصراع على القمة بين أميركا وروسيا والصين يُدار حتى اليوم بأقل قدر من الضوابط. ولا أحد يعرف إن كانت الحرب الباردة الجديدة ستقود إلى مزيد من الضوابط التي حكمت الحرب الباردة السابقة بين الجبارين الأميركي والسوفياتي. لكن البارز في الصراع على الأدوار العالمية هو صعود الأدوار الإقليمية، سواء في ظل الكبار أو في معزل عنهم. فعلى طريقة “الفتنمة” التي مارسها الرئيس ريتشارد نيكسون، ووزير خارجيته هنري كيسنجر في حرب فيتنام، يراد تعميم “الأقلمة” في الشرق الأوسط وإلى حد ما في الشرق الأقصى.
حجة الإدارة الأميركية من أيام الرئيس باراك أوباما إلى أيام الرئيس جو بايدن مروراً بأيام الرئيس دونالد ترمب، هي أنها تريد التفرغ للصراع الكبير مع الصين وروسيا. وما تقوله للحلفاء والأصدقاء والخصوم في الشرق الأوسط هو: واجهوا مشكلاتكم وحلوها بأنفسكم، ونحن نساعدكم من دون أن نتولى المواجهة والحلول بأنفسنا كما كانت الحال في الماضي. ومنطق الصين هو أن تقوية الدول الإقليمية وإفادتها من مشروع “الحزام والطريق” وتنامي الاستثمارات فيها تسهم في تقوية الدور الصيني المساعد. ومنطق روسيا هو أن دورها العسكري في حرب سوريا الذي أعاد لها دور القوة العالمية، جعلها في الوقت نفسه قوة شرق أوسطية، تتعاون بمقدار ما تضبط العلاقات مع القوى الإقليمية الصاعدة: تركيا، وإيران، وإسرائيل، ومصر، والسعودية.
سياسة “الفتنمة” فشلت بالطبع وانتهت بانسحاب أميركي مذل من سايغون. وسياسة “الأقلمة” لعبة خطرة في الشرق الأقصى، لأنها تخيف القوى المحلية المدعوة إلى مواجهة مشكلاتها بنفسها، سواء في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان أو في الهند. “الأقلمة” في الشرق الأوسط تقود إلى صراعات لا حلول لها من دون تدخل الكبار. فلا العرب يمكن أن يسلموا بأن تستمر إيران وتركيا وإسرائيل في اللعب على المسرح العربي. ولا التنافس التاريخي بين الإيرانيين والأتراك من أيام الإمبراطورية الصفوية والسلطنة العثمانية إلى اليوم، يدور إلا على الأرض العربية. ولا الحرب بالوكالة بين إيران وإسرائيل تؤدي إلى تغيير فعلي في فلسطين، وإن قادت إلى مخاطر على لبنان وسوريا والعراق.
وفي غياب نظام عالمي جديد، فإن من الوهم الحديث عن نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط. أوروبا قضت وقتاً طويلاً وبذلت جهوداً كثيرة للتوصل إلى اتفاق الأمن الأوروبي في هلسنكي. والدعوات إلى “هلسنكي شرق أوسطية” في أوضاعنا الحالية، هي أحلام في الجو فوق أرض مدججة بالأسلحة والصراعات والإرهاب والأحقاد، ومسوّرة بمصالح الكبار.