يبدو أن ما يحدث الآن من رفض بعض الناس للتطعيم ضد فيروس كورونا ليس أمرا جديدا، حيث يذكر التاريخ أقدم وأشهر حادثة في رفض التطعيم، والتي وصلت للمحاكم في معركة قضائية طويلة، وانتهت إلى قرار لا يزال يُستشهد به قضائيا حتى الآن.0
الزمان كان ما بين عامي 1902 و1905، والمكان هو الولايات المتحدة الأميركية، وبطل القصة مهاجر سويدي اسمه هينينغ جاكوبسون، ومحل النزاع كان التطعيم ضد مرض الجدري.
ما قبل القصة
وُلد هيننغ في السويد عام 1854 في مدينة “إلليستاد” جنوب غربي البلاد، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة حينما كان عمره 13 عاما مع موجات هجرات السويديين المتتالية إلى هناك، حيث تلقى تعليميا دينيا وأصبح قسيسا، ثم استقر في كامبريدج في ضواحي بوسطن بولاية ماساتشوستس.
أسس كنيسة بروتستانية هناك، وكان له نشاط واسع في مساعدة المهاجرين السويديين الذين يصلون إلى المدينة من أجل تدبير أمور حياتهم في وطنهم الجديد، فكان رجلا له ثقله ومكانته في المنطقة.
الكنيسة التي أسسها هيننغ لا تزال قائمة إلى الآن، وتضم لوحة مرسومة له، في اعتراف من أصحاب الكنيسة بفضله وتاريخه.
انتشار الوباء
ضرب وباء الجدري شمال شرقي الولايات المتحدة بقوة عام 1901، حتى صار مخيفا، فقتل عشرات الآلاف من البشر، ومن نجا كان يحمل تشوهات عديدة في جسده، كتآكل الأنف أو الأذن، أو قد يتعرض لفقدان البصر أو السمع.
كان الجدري قد ضرب أوروبا من قبل، ولذلك يعتقد أنه وصل لأميركا مع المهاجرين الذين تدفقوا عليها من القارة العجوز، ولذلك بدأت الولايات المتحدة بوضع أماكن حجر صحي للمهاجرين القادمين إليها، وهناك صور قديمة لهم وهم خلف أسوار حديدية.
وتم احتجاز المهاجرين لحين التأكد من خلوهم من الجدري، وبدأت الولايات والمدن تتخذ العديد من الإجراءات الصارمة في حربها ضد هذا الوباء.
مدينة بوسطن قامت حينها بإغلاقات شاملة، شملت إغلاق المدارس والمكتبات والكنائس في محاولة لإيقاف انتشار وباء الجدري، فكانت معركة قاسية، بينما كان المرض ينتشر ويضرب في كل مكان، وأصاب بالفعل العديد من رواد كنيسة هيينغ.
وبما أن الجدري سبق له وأن ضرب الدول الأوروبية، منذ أكثر من مئة عام قبل وصوله لأميركا، فقد تمكن الأوربيون بالفعل من إيجاد لقاح له.
لقد كان اللقاح موجودا، وسبق أن تم تطعيم الكثير من الأوروبيين حينها. وبالتالي بدأت المدن الأميركية بتوفير اللقاح للناس في أسرع وقت ممكن.
اللقاح إجباري.. بداية المعركة
ما فعلته ولاية ماساتشوستس هو أنها أصدرت قرارا بجعل أخذ اللقاح إجباريا على الجميع، في محاولة من حكومة الولاية للسيطرة على الوباء.
القرار أعطى الصلاحية للهيئة الصحية في الولاية بفرض التطعيم على الجميع، على اعتبار أن ذلك يصب في المصلحة العامة، وكل من يرفض التطعيم عليه أن يدفع غرامة قدرها 5 دولارات حينها، وهي تعادل حوالي 100 دولار اليوم.
وبدأ التطعيم الإجباري، وكان هناك إكراه للكثيرين عليه بالقوة، إلى درجة تهديد الناس بالسلاح، ووضع الأصفاد في أيديهم، وهذا النهج خلف تذمرا.
هيننغ الذي كان شخصية بارزة في المجتمع، رفض التطعيم، ونظرا لأهمية شخصية هيننغ ومكانته، فقد زاره مسؤول الصحة في المنطقة ومعه أمر مباشر له بالتطعيم، ولكن هيننغ لم يغير رأيه، ورفض التطعيم.
هيننغ أعلن أنه يرفض التطعيم لأنه ضد حريته الشخصية التي يكفلها له الدستور الأميركي، وقال أيضا إنه أخذ التطعيم في وقت سابق ضد الجدري بالسويد حينما كان عمره ست سنوات، وكانت له أعراض جانبية سيئة عليه.
وكانت السويد قد أقرت التطعيم الإجباري للأطفال ضد الجدري منذ عام 1816، ويرى بعض المحللين الآن أن هيننغ كان خائفا من الأعراض الجانبية للتطعيم، بسبب تجربته السيئة معه حينما كان صغيرا.
وبسبب رفضه للتطعيم، فرضت عليه حكومة الولاية أن يدفع الغرامة المقررة، ولكنه رفض الدفع أيضا، مبررا موقفه بأن ما تفعله الولاية بأكمله يعد أمرا غير دستوري، ويمس حريته الشخصية، وبسبب ذلك وصلت القضية للمحكمة العليا في أميركا.
وبعد حوالى ثلاث سنوات من الصراع القانوني، حكمت المحكمة لصالح إدارة الولاية ضد هيننغ، ونص قرار المحكمة أن للحكومة صلاحية فرض التطعيم في الحالات التي تكون فيها المصلحة العامة أهم من المصلحة الخاصة للأفراد.
قرار قانوني تاريخي
يعتبر قرار المحكمة تاريخيا، حيث أنه ولأول مرة تحكم المحكمة بأمر يعطي السيادة للدولة على حق الفرد في التصرف بجسده، وهذه النقطة بالذات هي التي جعلت قضية هيننغ شهيرة وفريدة من نوعها.
يعتمد القضاء الأميركي بشكل كبير على سجل الأحكام، ويتم الرجوع إليها، لذلك تم الاستناد إلى قرار المحكمة العليا في قضية هيينغ في الكثير من القضايا التي تتعارض فيها المصلحة العامة مع المصلحة الفردية، ومن من ذلك تعميم التطعيم الإجباري ضد الجدري حتى اختفى هذا الوباء تماما من أميركا.
وكانت آخر حالة مسجلة مصابة بهذا الوباء في عام 1977. وأعلنت منظمة الصحة العالمية القضاء عليه في العالم أجمع عام 1980.
واعتمادا على ذلك القرار القضائي، تم منح الولايات في عام 1995 الحق في إجراء فحوصات عشوائية على الطلاب لمعرفة من يتعاطى منهم المخدرات، كما تم استخدامه مؤخرا في عام 2020 في منع الإجهاض في ولاية تكساس خلال أزمة كورونا لأنه من العمليات غير الضرورية، رغم أن الإجهاض أمر مسموح قانونا في الأساس، ولكن يحق للولاية منعه في هذا الوقت من ضمن إجراءاتها الاحترازية لمنع انتشار فيروس كورونا.
ما يثير الجدل تاريخيا بخصوص هذا المبدأ القانوني “التضحية بالحرية الشخصية في سبيل مصلحة المجتمع” هو أنه أدى في بعض الأحيان إلى فرض قوانين لا يراها كثيرون إنسانية، من ذلك الاستدلال بها في قضية (بَك ضد بِل) الشهيرة في عام 1927 والتي أعطت الحكومة صلاحية التدخل الطبي لمنع “غير المؤهلين” من الإنجاب، كالمصابين بأمراض عقلية شديدة الحدة مثلا.
ومع أن النمط العام في أميركا تغير بخصوص هذه القضية لعدم إنسانيتها، إلا أن المحكمة العليا هناك لم تبطل هذا القانون رسميا حتى الآن.
هل يمكن فرض تطعيم كورونا تبعاً لذلك؟
تفكر بعض الدول حاليا بإجبار الجميع على أخذ التطعيم ضد فيروس كورونا، من ذلك حكومة سويسرا التي تعاني من انتشار الفكر المضاد للتطعيم بين الناس هناك.
ولكن حتى الآن لم يصل الأمر للصدام مع معارضي التطعيم عالميا، مع إقبال الكثيرين على التطعيم وقبوله، خصوصا مع ربط التطعيم بالعديد من المصالح العامة، كالسفر وارتياد الأماكن العامة.
ويبدو أن قضية الإجبار لن تُثار إلا في حال تطعيم كل من يريد التطعيم، وعدم كفاية ذلك للحد من انتشار فيروس كورونا عالميا، حينها قد نسمع عن بدء سن قوانين تتيح للحكومات التطعيم الإجباري، في تقديم للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة.