حرب غزة الرابعة والانتفاضة الكاملة والهدنة بين معركتين
طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني
ينصّ إعلان الاستقلال الأميركي في فقرته الثانية على تأكيد “الحقائق البديهية” التالية: أن “جميع البشر خُلقوا متساوين، وخالقهم منحهم حقوقاً معينة ثابتة لا يمكن انتزاعها منهم، بينها حق الحياة والحرية والسعي من أجل السعادة، وأنه من أجل ضمان هذه الحقوق، تُقام الحكومات بين البشر مستمدة سلطاتها العادلة من موافقة المحكومين، وعندما يؤدي أي شكل من أشكال الحكومات إلى هدم هذه الغايات، فإن من حق الشعب أن يغيّر أو يُبطل هذه الحكومة ويؤسس حكومة جديدة مقيماً قواعدها على مبادئ، ومنظماً سلطاتها بصورة تجعلها تبدو الحكومة الأكثر ملاءمة لتحقيق أمنه وسعادته”.
في الفقرة الأولى من الإعلان المذكور مقدمة لازمة لمضمون الفقرة الثانية تنص على أنه “عندما يصبح ضرورياً لشعب ما خلال مجرى الحياة الإنسانية، أن يخلّ بالروابط السياسية التي تربطه بشعب آخر، ويتخذ لنفسه مثل بقية شعوب الأرض وضع الانفصال والندّية التي تخوّلها له قوانين الطبيعة وخالقها، فإن الاحترام اللائق لآراء البشر يتطلب أن يعلن أبناء ذلك الشعب الأسباب التي تدفعهم إلى الانفصال”.
الحق بالانفصال، أي تقرير المصير، والحق باختيار الحكومة الملائمة هو ما يحدثنا عنه إعلان الاستقلال الأميركي، وهو النص الذي يعتبره الأميركيون خلاصة مبرر قيام دولتهم العظمى على يد آباء مؤسسين تجري العودة إليهم في المحطات الفاصلة. فهل هذا ما تفعله الولايات المتحدة اليوم، خصوصاً إزاء أقدم قضية احتلال لا تزال قائمة في عصرنا وعالمنا؟”.
لم يعُد ممكناً تجاهل حق الشعب الفلسطيني بأرضه وبدولته المستقلة، ولم يعُد ممكناً إيجاد التبريرات لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي وعمليات القضم والضم وطرد السكان من منازلهم كما حصل في حيّ الشيخ جراح بالقدس، الحدث الذي فجّر الحرب الدموية الدائرة اليوم على أرض فلسطين. وليست مسألة مساكن الشيخ جراح قضية قانونية عندما يكون القانون سلاحاً في يد سلطة قاهرة، وإلا كان يمكن لآلاف الفلسطينيين الذين طردوا من أرضهم منذ عام 1948، أن يرفعوا دعاوى تطالب بمنازلهم وأراضيهم في حيفا ويافا وعكا والجليل، ليعودوا إليها من مخيمات اللجوء في لبنان وسوريا والأردن وغيرها، ولن يمنع ذلك قيام اليهود العرب الذين أُجبروا على ترك ممتلكاتهم في بلدانهم العربية من التقدّم بدعاوى مماثلة.
لكن الأمر ليس كذلك، فإسرائيل لم تتغيّر طوال 73 عاماً منذ قيامها، لم تجعل العرب الذين حملوا جنسيتها يشعرون بأنهم متساوون مع اليهود، واستمرت في سياسة الاستيطان وقضم الأراضي وطرد السكان ومنع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة فوق الأراضي التي احتلتها عام 1967.
لذلك لم يكن مفاجئاً أن ينفجر الصراع على الشاكلة التي نشهدها اليوم. ولا يكفي الغوص في تحليل الارتباطات والدوافع الإقليمية لتفسير ما يجري. فالمعركة الراهنة لم تقتصر على انتفاضة القدس والضفة ولا على صواريخ غزة، وإنما امتدت تفاعلاتها إلى قلب المجتمعات العربية في إسرائيل لتطرح مجدداً السؤال القائم منذ اندلاع القضية الفلسطينية، الذي يحيلنا إلى إعلان الاستقلال الأميركي وكل ما تلاه من مواثيق، توصّلت إليها البشرية خلال القرنين الماضيين وثبّتتها في إعلانات وقرارات الأمم المتحدة.
لقد جرّبت الولايات المتحدة بإداراتها المختلفة سياسات عدة تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكان مشروع صفقة القرن الذي صاغته الإدارة السابقة فشلاً ذريعاً على مستوى التسوية المطلوبة ودعماً غير محدود لسياسة الحكومة الإسرائيلية. واليوم بإمكان الإدارة الجديدة برئاسة جو بايدن أن تتبع وسائل أخرى تفرض على إسرائيل ومختلف الأطراف السير في تسويات قابلة للحياة.
إنها الحرب الرابعة بين الفصائل المسيطرة على غزة والقوات الإسرائيلية. وهي حروب متشابهة بظروفها وأسلحتها ونتائجها المدمرة، خصوصاً في غزة. في الحرب الأولى (2008)، استمر التقاذف 21 يوماً. وأسفر عن مصرع 1436 فلسطينياً، ثلثهم من النساء والأطفال، وتدمير أو تضرر أكثر من 21 ألف مسكن، وقُدّرت خسائر القطاع بأكثر من مليار دولار.
الحرب الثانية في 2012، شنّت خلالها إسرائيل 60 ألف هجوم جوي وبري وبحري وهدمت 12 ألف منزل وهجّرت 60 ألف فلسطيني، وفي المقابل، أطلقت “حماس” 1573 قذيفة صاروخية وصل بعضها للمرة الأولى إلى هرتسليا وتل أبيب والقدس. واستمرت الحرب الثالثة 51 يوماً (2014). وفي نتيجتها ظهرت المجزرة: قُتل 2322 فلسطينياً وجرح نحو 11 ألفاً، ودمرت آلاف المساكن.
في الحروب الثلاث، خسرت إسرائيل عدداً من الجنود وانكشف أمنها أمام الصواريخ وظهرت هشاشة حالة الأمان المسلح في مستوطناتها، لكن المعارك كانت تنتهي من دون أي نتائج على المستوى السياسي، وسرعان ما يتم الانتقال من هدنة إلى استئناف للتراشق، لتنطلق الحملات الإنسانية والتمويلية مجدداً، تحت عنوان “التضامن مع مأساة أبناء القطاع”.
آن لهذا المسلسل أن ينتهي بخطوات حقيقية تسمح للشعب الفلسطيني تقرير مصيره وقيام حكومته المستقلة، والحرب الرابعة الدائرة اليوم يُفترض ألا تذهب تضحياتها سدى. ولن يتم التقدّم إذا كانت هذه الحرب ستكرّس المزيد من الانقسام الفلسطيني. بالعكس يُفترض استخلاص الدروس من معنى عمق التلاحم الفلسطيني على أرض الوطن وفي العالم لتحديد البرنامج الوطني الفلسطيني وانتخاب قيادة لتنفيذه. ويُفترض بأميركا أن تستعيد دورها المحوري في الدفع نحو السلام، والعالم ينتظر منها ذلك، وما إلحاح روسيا على إعادة تفعيل الرباعية الدولية من أجل فلسطين التي تضمها إلى جانب أميركا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، إلا إشارة إلى نضوج المناخات الدولية من أجل الانطلاق في عمل ينهي دائرة الحروب المقفلة، ويفسح في المجال أمام تسوية، تبدو المنطقة بأطرافها المتناقضة، مفتوحة عليها.