الضوء الشاحب في نهاية النفق

هل حصيلة ما جرى حتى الآن في الشرق الأوسط توحي بالأمل والتفاؤل أم أن الأمر غير ذلك؟

مصطفى الفقي كاتب وباحث

ستفتح الإدارة الأميركية وحلفاؤها ولا شك ملف المضائق المائية بدءاً من مضيق هرمز مروراً بباب المندب وصولاً إلى قناة السويس وقد لا يقف الأمر عند ذلك بل يمتد إلى مضيق جبل طارق أيضاً وبذلك يتحكم الغرب وإسرائيل في مسار التجارة الدولية وتصبح المنطقة تحت السيطرة الكاملة، خصوصاً إذا تمكنت إسرائيل من تحقيق هدفها التاريخي في خريطة إسرائيلية في الشرق الأوسط تكون هي فيها صاحبة الريادة والكلمة العليا، كل ذلك يتم بالسلاح الأميركي والعدوان المستمر المقترن بالشقاق العربي والانقسام الفلسطيني.

إن الذي يتابع ما جرى على الساحة الشرق أوسطية منذ حادثة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023 يدرك أنها كانت إشارة بدء استغلتها إسرائيل للجهر بمشاريعها التوسعية العدوانية ذات الخلفية العنصرية التي لم تبرأ منها أبداً، فالمشهد الحالي يضيء شمعة في نهاية النفق ولكنه لا يوحي أبداً بطلوع الفجر الحقيقي على هذه الأمة، لذلك فإننا نحاول أن نرصد بأمانة الجوانب السلبية والمظاهر الإيجابية في الأفق القريب والبعيد على حد سواء، حتى تكتمل لدينا صورة شاملة للوضع في إقليم غرب آسيا وشمال أفريقيا تحت مظلة الشرق الأوسط.

إذا بدأنا بالسلبيات التي نشهدها أو “المربكات” على حد التعبير الذي خطه الاقتصادي الدولي محمود محيي الدين، فإننا نضع أيدينا على عدد من الإشارات والمخططات المكشوفة التي تمضي وراءها سياسة بنيامين نتنياهو وجماعته من المتطرفين دينياً وعنصرياً وأخلاقياً، فلا شك في أن الدمار الذي لحق بغزة وضواحيها غير مسبوق في التاريخ الإنساني كله، إذ فقدت غزة وحدها ما يقارب 150 ألف شهيد من بينهم نسبة عالية من النساء والأطفال، فضلاً عن أولئك الذين قضوا بسبب غياب المأوى وانعدام المأكل وهدم المنازل على أصحابها.

ثم تحركت قوافل الدمار إلى لبنان لتضرب بوحشية البشر والحجر وعمدت إلى أكثر الأساليب خسة في الصراعات البشرية، وأعني بها ظاهرة الاغتيال السياسي والتخلص من القيادات والزعامات بطلقات رصاص مباغتة أو انفجارات آثمة كما يفعل الجبناء دائماً عندما تعوزهم الفروسية ولا يتمكنون من تحقيق انتصار وجهاً لوجه.

ودارت الدائرة على الساحة السورية، فدمر الطيران الإسرائيلي البنية العسكرية التحتية للجيش السوري وتطاول على الأرض السورية خارج خريطة الاحتلال ليترك بصماته العدوانية عليها أيضاً، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل طاولت ما كان يسمى “ساحات الإسناد” ضربات موجعة في الشمال السوري والعراق، فضلاً عن اعتقالات عشوائية في الضفة الشرقية لنهر الأردن، وكأنما تؤكد إسرائيل ذلك المثل العربي المقيت الذي يقول “الغجرية سيدة جيرانها”.

وذلك كله يجري في ظل تحرشات وترتيبات تركية توحي بأن أنقرة طرف فاعل في ما جرى على ساحة الشام الكبير، وتجلت أسماء العثمانيين الجدد في الأراضي السورية والمدن العراقية فضلاً عن الدولة الليبية، فأحلام تركيا تمتد جنوباً حتى دول شرق أفريقيا مروراً بأعالي النيل وتمضي غرباً للعبث بمنطقة شرق المتوسط، مخزن الغاز الكبير الذي يسيل له لعاب أردوغان ورفاقه.

كل ذلك والنيران تحرق أرض السودان وتلقي بأبنائه في أتون المعارك وسعير الصراعات القبلية المدفوعة من الخارج، أما مصر فالتحرش المستتر يدور حولها والأطماع النهائية تفكر فيها، ذلك أن إسرائيل تتوهم أن يدها الطولى قادرة على إخضاع المنطقة بأسرها والقضاء على كل صوت يناهض سياساتها أو يكشف عن مخططاتها، بعدما وجهت ضربات عنيفة لأرض اليمن بدعوى تهديد الحوثيين لحرية الملاحة، بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى تفكير إسرائيلي- أميركي مختلف يدور حول المغانم المنتظرة من كل ما جرى بعد أن تسكت المدافع ويهدأ غبار المعارك.

وستفتح الإدارة الأميركية وحلفاؤها ولا شك ملف المضائق المائية، بدءاً من مضيق هرمز مروراً بباب المندب وصولاً إلى قناة السويس، وقد لا يقف الأمر عند ذلك بل يمتد إلى مضيق جبل طارق أيضاً، وبذلك يتحكم الغرب وإسرائيل في مسار التجارة الدولية وتصبح المنطقة تحت السيطرة الكاملة، خصوصاً إذا تمكنت إسرائيل من تحقيق هدفها التاريخي في خريطة إسرائيلية في الشرق الأوسط تكون هي فيها صاحبة الريادة والكلمة العليا، وكل ذلك يتم بالسلاح الأميركي والعدوان المستمر المقترن بالشقاق العربي والانقسام الفلسطيني.

هذه بعض المظاهر السلبية للمستقبل الذي لا يبدو مبشراً للمنطقة كلها، ومع ذلك فإننا نتطلع إلى الجانب الآخر من الصورة برمتها، إذ نرى الضوء في نهاية ذلك النفق المظلم يزداد وضوحاً كلما اقترب منا، فسقوط نظام الأسد في سوريا إيجابية كبرى لأن ذلك الحكم الديكتاتوري كان خنق الشعب السوري لأكثر من نصف قرن، وأحكم بيت الأسد قبضته على الحياة والأحياء، ونقل سوريا من مصاف الدول المستريحة إلى مصاف دول اللاجئين والنازحين وعرف السوريون طعم الإهانة وهم شعب الإباء والكرامة، وتحمل ذلك الشعب من ألوان التعذيب والقهر ما لم يخطر على بال بشر.

سعدت الجماهير العربية بأن الله فك أسر الشعب السوري منبع القومية العربية وعاصمته “بداية عز الشرق” كما سماها أمير الشعراء، إلا أن بعض الضباب ما زال يغلف الأجواء حول المجموعة التي قامت بتحرير وطنها وإنهاء الحكم الديكتاتوري على أرضها، لا سيما أن معظمهم ينتمي إلى فصائل المقاومة المسلحة، فكان من الطبيعي أن تلحق بهم اتهامات، صادقة أو ظالمة، بالتورط في أعمال عنف وممارسات إرهاب، ولم يكُن ذلك أمراً غير متوقع بل كان منتظراً في كل الأحوال. وهكذا انقسم الجميع بين مؤيد لهم ومبارك لدورهم وشكك فريق آخر في نياتهم، خصوصاً أننا لا نزال في البداية والعبرة بالأفعال لا بالتصريحات والأقوال.

وكانت بارقة الضوء الثانية انتخاب قائد الجيش اللبناني العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية اللبنانية بعد شغور المنصب الذي استمر لأكثر من عامين، فتضمن خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس اللبناني الجديد ما يوحي بالأمل وإن كنا ندرك أن الأمر لا يقف عنده وحده، فمنذ “مؤتمر الطائف” وتعديل صيغة 1943 وصلاحيات رئيس الوزراء تكاد تتفوق على صلاحيات رئيس الجمهورية في لبنان، فالنظام هناك برلماني يخضع للمعايير العصرية للحياة السياسية على رغم كل مظاهر الفساد والانحراف التي عرفتها الأعوام الماضية في بعض مراحل الحكم بالدولة اللبنانية الراقية تاريخاً وحضارة وفكراً.

لعلنا نشير هنا أيضاً ضمن بوارق الأمل إلى ما يمكن التعبير عنه في الفترة الأخيرة من ترجيح كفة الجيش السوداني على حركة التمرد التي قام بها قطاع منه إذ امتد القتال لما يقارب عامين، كما أن الإقبال العربي على سوريا تزايد وبدا الأمر كما لو أن أماً كبيرة تحتضن ابنها الغائب لأكثر من نصف قرن وهو يعود لها بعد عقود من الظلم والظلام.

وهنا يكون التساؤل مشروعاً، هل حصيلة ما جرى حتى الآن توحي بالأمل وتبعث على التفاؤل أم أن الأمر غير ذلك؟، والإجابة عن هذا التساؤل المحوري لا بد من أن تضع في اعتبارها حجم المعوقات التي تعترض الطريق العربي والإسلامي والأفريقي وغيرها من مناطق الجنوب في عالمنا المعاصر، إذ إن الإدارة الأميركية الجديدة تقع تحت سيطرة رئيس يصعب التنبؤ بقراراته أو توجهاته، كما أنه يحمل إرثاً من العداء المطلق لكثير من القوى الصاعدة في عالمنا اليوم.

فترمب يهوى التصريحات النارية والعبارات غير المناسبة مثل تهديده بالجحيم للشرق الأوسط ما لم تهدأ أموره قبيل تسلمه الرسمي للسلطة، فضلاً عن شطحات أخرى مثل الحديث عن الرغبة الأميركية في شراء جزيرة غرينلاند للسيطرة على القطب الشمالي، بل الحديث عن ضم كندا إلى الولايات المتحدة الأميركية والاستيلاء على قناة بنما أيضاً، فالرجل يحمل في جعبته عشرات الأفكار الغريبة، ولكنه يحمل للشرق الأوسط مزيداً من الدعم لإسرائيل وكثيراً من الأطماع في أموال العرب ورغبة دفينة في تكريس بعض مظاهر العنصرية السياسية، فضلاً عن أوهام السيطرة.

المقاله تعبر عن راي كاتبها