الرواية الكاملة لهروب بشار الأسد – المجلة
عضوان الأحمري
بهدوء تام وصمت كبير وسرية تامة، أعدت “هيئة تحرير الشام” لمعركة لا تشبه غيرها من المعارك. المعركة التي ستغير سوريا وربما المنطقة. معركة “إسقاط النظام” عسكريا وأمنيا وإداريا. الانخراط التركي عميق في ذلك، لكن ليس إلى الحد الذي يُعتقد. لم تكن صفقة إقليمية–دولية كاملة قبل بدء “عملية ردع العدوان” فجر 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
كيف حصل كل ذلك وأين كان بشار الأسد؟ تزامن إطلاق “ردع العدوان” مع وصول الأسد إلى موسكو لحضور حفل نيل ابنه حافظ درجة الدكتوراة في الرياضيات. لكن صوت المعارك كان أكبر، فغاب عن الحفل ولازم غرفته في “فورسيزونز”، ليتابع أخبار تقدم الفصائل. وصادف يوم سيطرة الفصائل على حلب يوم الجمعة وجوده في الطائرة عائدا الى دمشق من موسكو.
وعندها بدأ العمل على مسارين: مواصلة الإعداد لاحتمال مغادرته دمشق عبر تهريب وثائق وصناديق بطائرة مدنية من مطار المزة العسكري، ومن جهة ثانية، الإعداد لمعركة مضادة واستنجاد حليفيه الإيراني والروسي وعقد لقاءات مع أمنيين وعسكريين في نظامه. بشكل مواز، قاوم “النصيحة” التي أتت من روسيا بعد سيطرة المعارضة على حلب، بضرورة الاستعداد للرحيل لتجنب إراقة الدماء في العاصمة.
فوجئ الجميع بسرعة تقدم “الهيئة” وسلاسة دخولها المدن، وتهاوي النظام وقرار الجيش بعدم القتال واستسلام عناصره. لم تحصل ترتيبات هروب الأسد ودخول الفصائل إلى دمشق، في اجتماع وزراء خارجية “منصة آستانة”، بل جرت بعدها في ليل 7/8 ديسمبر/كانون الأول. يومها تحديدا، تلقى الأسد “اتصال اللحظة الأخيرة” وهرب من دمشق إلى قاعدة حميميم ثم إلى موسكو، من دون أن يخبر شقيقه وابن أخته وحراسه وعاملين معه، بل إنه رفض أن يأخذ معه رئيس موكب الحراسة اللواء فائز جمعة. أما عائلته، فان بعض أولاده كانوا بالفعل في موسكو اكتفى بشخصين أحدهما وزير شؤون الرئاسة منصور عزام (شقيقه رجل أعمال في روسيا) والثاني العميد محسن محمد وعناصر أخرى.
فرار الأسد المفاجئ، أربك مستشاريه وأقاربه، فهربوا على عجل إلى الساحل ولبنان والعراق، وانتهوا في دول أخرى.
كانت هذه خلاصات سلسلة اتصالات ولقاءات كثيرة أجريتها مع مسؤولين في المعارضة المسلحة والسياسية وفي دمشق ومسؤولين عرب وغربيين في الأيام الأخيرة، لتقديم رواية واسعة لما حصل بين 27 نوفمبر و8 ديسمبر.
الأسد في موسكو… والجولاني في حلب
وهنا الرواية التفصيلية: حصلت مصادفتان مذهلتان بين دخول “الهيئة” وأبو محمد الجولاني إلى حلب وزيارة سرية للأسد إلى موسكو في نهاية نوفمبر.
يوم الثلاثاء 27 نوفمبر، التقى الأسد مجموعة من “القبيسيات” في القصر الرئاسي في دمشق، ثم توجه “حاملا الكثير من الهدايا” إلى موسكو للانضمام إلى زوجته أسماء التي تعاني من انهيار في صحتها وعدم استجابة جسمها لعلاج “لوكيميا” وحضور حفل تخرج ابنه لتلقيه درجة الدكتوراة في الرياضيات من جامعة موسكو الحكومية (لومونوسوف) الروسية في 28 نوفمبر.
وصل مساء إلى فندق “فورسيزونز” بالعاصمة الروسية، ذهبت أسماء إلى حفل التخرج، ترتدي كمامة مع أطفالها. لكن بشار لم يذهب وبقي في الفندق يتابع أخبار المعارك. لماذا؟
أطلقت “هيئة تحرير الشام” وفصائل حليفة عملية “ردع العدوان” فجر 27 نوفمبر لـ”توجيه ضربة استباقية” بعد خرق النظام اتفاق وقف التصعيد في إدلب الذي رعاه الرئيسان التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين في موسكو في مارس/آذار 2020. تزامن لافت بين إطلاق العملية ووصول طائرته إلى العاصمة السورية.
استطاعت فصائل المعارضة في اليوم الثالث من العملية الوصول إلى تخوم مدينة حلب، والسيطرة على 400 كيلومتر مربع ضمن 56 بلدة وقرية في حلب وإدلب. وقتذاك، اتصلت بمصدر قريب من غرفة عملية “ردع العدوان”. ودار الحوار الآتي:
ماذا يحصل غرب حلب؟
اتخذنا قرارا بإسقاط النظام عسكريا
من؟ أنتم؟ هل لديكم دعم عسكري تركي؟ هل هناك قرار دولي-إقليمي بذلك؟
هذا قرار “الهيئة” والشيخ أبو محمد. سنسيطر على حلب ثم حماة. بعدها سنرى مصير حمص ودمشق
ستصلون إلى دمشق؟ هل هذا ممكن؟
نعم. ولدينا إمكانات إدارية لحكم سوريا من دمشق. و”حكومة الإنقاذ” التي تدير إدلب، لديها وزراء وخطط لإدارة كل سوريا. الوزراء وضعوا خططا كي تدير وزاراتهم كل سوريا.
ماذا عن الجولاني؟
هناك إجماع على أنه حاكم سوريا المستقبلي.
تناول الحديث، عبر تطبيق “واتساب”، تفاصيل إضافية كثيرة. دونتها على أوراق (مرفقة)، لكنها كانت مفاجئة جدا لي، وكانت أقرب إلى آمال المعارضة. سبق أن سمعت كلاما مماثلا في السنوات السابقة. لكن هذه المرة قال المتحدث بثقة كبيرة: “هيئة تحرير الشام هي جيش منظم وأنت لا تعرف حجم الإعداد والاستعداد لهذه المعركة منذ أشهر طويلة”. زاد أنها أعدت العدة مع فصائل حليفة و”هناك 40 ألف مقاتل في الميدان و80 ألفا آخرين بين احتياط وإمداد.
بالفعل دخلت “هيئة تحرير الشام” إلى حلب، ثم جال أبو محمد الجولاني في قلعة حلب. والقيادي نفسه قال لي في اتصال آخر: “لدينا خطط لليوم التالي في حلب. العسكر سيدخلون المدينة ثم يخرجون. ستترك للمدنيين. لن تمس الممتلكات والمدنيون وسنوفر الكهرباء والخبز والخدمات ونشغل المدينة”. وأضاف: “هناك تعليمات من الجولاني بأن أي شخص يخرق التعليمات ويعتدي على المدنيين أو الممتلكات، سيعدم ميدانيا”.
في المقابل، فوجئ مسؤولون وعسكريون بغياب الأسد عن السمع. وبدأت أعصاب بعضهم “تغلي”. رئيس فرع الأمن العسكري العميد أحمد العلي، قبل مقتله، قال لشخص اتصل به: “لا نعرف ماذا يحصل قوافل كبيرة من المسلحين. انسحابات وإخلاءات من الجيش. اتصلت برئيس الشعبة (اللواء كمال حسن) الذي قال: يجب أن تصمدوا”. اتصل بوزير الدفاع علي محمود عباس الذي قال له : “طوّل بالك. الإمداد من الحلفاء قادم والطيران سيقصف”.
واقع الحال أنه منذ بدء معركة “ردع العدوان”، حرص قادة العمليات العسكرية على إرسال رسائل مطمئنة: التمسك بمؤسسات الدولة، المحاسبة وعدم الانتقام، وحماية حقوق وطقوس الأقليات، حماية الملكيات الخاصة والعامة، الإبقاء على آلة الحكومة، عدم الاعتداء على العسكر في حال سلموا سلاحهم.
وخصصت “إدارة العمليات العسكرية” ناطقا لها يقدم إيجازات يومية تفصيلية ودقيقة وفق البرنامج والمواعيد. ولا خلاف أن تمسك المقاتلين بهذه المبادئ، قولا وفعلا، سهل عليهم السيطرة على حلب ثم حماة ثم حمص وصولا إلى دمشق وهروب الأسد.
الصورة من دمشق… “فخ”
دخلت الفصائل إلى حلب بعد سيطرتها على “الفوج 46” وانهيار خطوط الدفاع وهروب عناصر الجيش من دون أي تنظيم.
من المفارقات هنا، أنه بينما كان الأسد في الطائرة عائدا من موسكو إلى دمشق، العاصمة السياسية لسوريا، دخلت المعارضة إلى حلب، العاصمة الاقتصادية للبلاد.
تفسير دمشق لخسارة حلب، كانت هناك “اختراقات”. تم اغتيال نائب اللجنة الأمنية من قبل “حراس اللجنة”. كما “جرى اختراق اتصالات الجيش فصدرت تعليمات لهم بالانسحاب”. انهيار خطوط الجيش كان مفاجئا. لم يكن انسحابا منظما، بل عدم القتال وهروب العناصر.
مصدر في دمشق بث وقتذاك إن ما حصل في حلب هو “فخ”، إذ إن الجيش سيأخذ من ذلك “مبررا كي يذهب للسيطرة على إدلب”. ثم أضاف أنه تم سحب الجيش إلى حماة حيث ستحصل “المعركة الكبرى”، وستتم “استعادة حلب وإدلب”.
بالفعل، حشد الجيش قواته في حماة وعين الأسد، سهيل حسن، قائدا لـ”جبهة الشمال” وشاركت روسيا بتوجيه غارات وضربات. كما فتح الجيش والروس باب توقيع عقود مع مقاتلين برواتب مغرية لسنة أو خمس سنوات، لتعويض انهيارات الجيش، في حلب.
هنا حصل تطور مهم. عاد الأسد من موسكو. اتصل برئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني ورئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد. طلب الأسد دعما عسكريا من “الحشد العراقي” وماليا من الإمارات.
واكب ذلك اتصالات كثيرة. اتصل وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بنظيريه التركي هاكان فيدان والإيراني عباس عراقجي. إيران منهكة مع “حزب الله”. وروسيا مشغولة بحرب أوكرانيا. أما أميركا، فإنها أبلغت السوداني بوضوح بعدم إرسال “الحشد”. كما قصفت بعض عناصر الميليشيات على الحدود العراقية-السورية الذين جاءوا للمشاركة في معركة حلب. تركيا أبلغت روسيا وإيران: “إذا تدخلتهم عسكريا سنتدخل عسكريا”.
في دمشق، كانت “الخطة” المدعومة إيرانيا، قصف إدلب واستهداف أهالي المقاتلين للضغط عليهم وتخفيف معركة حماة والانسحاب من حلب. لكن الجولاني ظهر بثقة في قلعة حلب.
في الأول من ديسمبر/كانون الأول. الفصائل تحكم سيطرتها في حلب وتواصل التقدم وتسيطر على مراكز عسكرية كبيرة، والجيش السوري يعزز خطوطه في حماة. أميركا تقول في أول بيان رسمي إن “انهيار خطوط النظام بسبب اعتماده على روسيا وإيران ورفض الحل السياسي”، ويحصل تنسيق مع إسرائيل.
اتصلت مع المصدر ذاته في المعارضة يوم السبت، فقدم شرحا تفصيليا للفصائل المشاركة في “إدارة العمليات العسكرية” وخططها، بين ذهاب “الهيئة” وحلفائها إلى حمص ودمشق بعد إحكام السيطرة على حلب وحماة، وبين تركيز “الجيش الوطني السوري” على شرق حلب وشمالها لمحاربة “قوات سوريا الديمقراطية” في تل رفعت ومنبج.
معركة حماة… وما بعدها
تستولي الفصائل على منظومات صواريخ روسية ومسيرات إيرانية في مطار كوريس في ريف حلب. والطيران الروسي يقصف ساحة الجامعة في حلب ومخيما للنازحين في إدلب. والأسد يستقبل وزير خارجية إيران في الثاني من ديسمبر ويقول: “ماضون في محاربة الإرهـاب على كامل أراضيها”. كما أن العاهل الأردني الملك عبد الله، يقول: “نقف إلى جانب الأشقاء في سوريا ووحدة أراضيها وسيادتها”. أما نتنياهو، فيعلن أنه يتابع أحداث سوريا و”مصممون على حماية مصالحنا”. من جهتها تعلن بريطانيا: “نظام الأسد هيأ ظروف التصعيد… رفض الحل واعتمد على روسيا وإيران”.
احتدمت معركة حماة. وتتقدم الفصائل شمال حماة وتقترب 7 كيلومترات من المدينة وتمتد جبهة المعارك مع الجيش السوري بامتداد 40 كيلومترا، وتقتحم “الفصائل” 4 مواقع عسكرية: مطار حماة، مدرسة المجنزرات، الفوج 86، اللواء 47. وتصدر بيان طمأنة لمسيحيي ريف حماة.
واصلت روسيا والنظام قصف إدلب بـ45 غارة في 24 ساعة، فيما واصلت “الهيئة” التمكن في حلب. أما أميركا، فقد بقيت في الوسط بين النظام “الدكتاتوري” و”الهيئة الإرهابية”.
بعد معارك كر وفر في جبل زين العابدين وشمال حماة وسط غارات روسية، دخلت “الهيئة” إلى المدينة في 5 ديسمبر. كانت ضربة كبيرة لمعنويات الجيش والنظام والموالين. وقال أحدهم: “يمكن القول إن معركة حلب مفاجئة ولم يشارك فيها الروس، لكن حماة حصلت بعد تحضيرات كبيرة وشارك فيها الطيران الروسي”.
تحليل خبراء كثر، كان أن المعارك ستقف بعد سيطرة “الهيئة” على حماة، ثم سيجري الرئيس أردوغان اتصالا ببوتين، ويجريان اتفاقا يعكس التطورات الميدانية وخطوط قتال جديدة تختلف عن التي كانت في مارس/آذار 2024. وما عزز هذا الاعتقاد أن روسيا قصفت جسر الرستن الذي يفصل حماة والشمال عن حمص والجنوب.
من حمص إلى دمشق
“الهيئة” تغير اسم أبو محمد الجولاني، إلى أحمد الشرع، اسمه الحقيقي. و”هيئة تحرير الشام” والفصائل تسيطر على حماة وتتجه لحمص على بعد 48 كيلومترا. ويؤكد الجيش انسحابه من حماة إلى حمص. وباتت المعارضة تسيطر على حلب وإدلب وحماة.
خلال معارك حمص وقبل دخول “الهيئة” والفصائل إليها، كان تقدير دمشق أن “الفصائل” لن تصل إلى العاصمة. ووزير الخارجية بسام صباغ أبلغ مسؤولا عربيا في اتصال غير معلن: “سنصعد قصف إدلب… لا تدعونا لخفض التصعيد ضد الإرهاب”. وأضاف: “جميع الدول العربية معنا في هذه المعركة”.
في موازاة ذلك، استأنف الجيشان الأميركي والروسي العمل بـ”الخط الساخن” الذي تأسس في سوريا في 2017، على خلفية تغير المشهد العسكري واقتراب الصدام منهما وحلفائهما. وجرت اتصالات لترتيب لقاء وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا على هامش “منتدى الدوحة” في 7 ديسمبر. أردوغان يقول إن المرحلة الجديدة “تتم إدارتها بهدوء” في سوريا. وبدأت دول عدة بينها الصين دعوة رعاياها لمغادرة دمشق.
مساء الجمعة 6 ديسمبر، عزز الجيش الإسرائيلي قواته في الجولان السورية وبدأت تحركات عسكرية لفصائل معارضة في درعا جنوب سوريا قرب الأردن. أما “قوات سوريا الديمقراطية” فقطعت بوابة البوكمال التي تربط إيران بسوريا عبر العراق.
خلال معارك حمص وقبل دخول “الهيئة” والفصائل إليها، كان تقدير دمشق أن “الفصائل” لن تصل إلى العاصمة. ووزير الخارجية بسام صباغ أبلغ مسؤولا عربيا في اتصال غير معلن: “سنصعد قصف إدلب… لا تدعونا لخفض التصعيد ضد الإرهاب”. وأضاف: “جميع الدول العربية معنا في هذه المعركة”.
في موازاة ذلك، استأنف الجيشان الأميركي والروسي العمل بـ”الخط الساخن” الذي تأسس في سوريا في 2017، على خلفية تغير المشهد العسكري واقتراب الصدام منهما وحلفائهما. وجرت اتصالات لترتيب لقاء وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا على هامش “منتدى الدوحة” في 7 ديسمبر. أردوغان يقول إن المرحلة الجديدة “تتم إدارتها بهدوء” في سوريا. وبدأت دول عدة بينها الصين دعوة رعاياها لمغادرة دمشق.
مساء الجمعة 6 ديسمبر، عزز الجيش الإسرائيلي قواته في الجولان السورية وبدأت تحركات عسكرية لفصائل معارضة في درعا جنوب سوريا قرب الأردن. أما “قوات سوريا الديمقراطية” فقطعت بوابة البوكمال التي تربط إيران بسوريا عبر العراق.
كما سحبت الأمم المتحدة موظفيها “غير الأساسيين” من دمشق. والجيش السوري يؤكد الانسحاب من السويداء ودرعا، فيما توسع الفصائل سيطرتها على حدود الأردن. مسؤول عربي يقول إنه يدعم “حلا سياسيا يحافظ على وحدة سوريا ومؤسسات الدولة، يمنع الفوضى، ويلبي تطلعات السوريين”، فيما يشير مسؤول غربي إلى “ارتباك في موقف واشنطن وتوقع انهيار خطوط الجيش السوري وعدم رغبته بالقتال”.
وأمام التصريحات المتناقضة أو البعيدة عن الواقع، يعلن الرئيس أردوغان يوم الجمعة 6 ديسمبر أنه “يأمل” بتقدم الفصائل “من دون مشاكل” إلى دمشق بعد حمص.
ساد الارتباك دمشق. واتصلت بالمصدر ذاته القريب من “إدارة العمليات”، وسألته: “هل ستتوقفون في حمص أم إنكم قادمون إلى دمشق؟”. أرسل رسالة نصية على “واتساب”: “إن شاء الله سنكون في قلب دمشق الساعة العاشرة مساء”. وقتذاك، قال أردوعان في تصريح صحافي إن المعارضة سيطرت على حلب وحماة وستسيطر على حمص ثم دمشق.
لم تكن “الهيئة” والفصائل في حمص بعد، لكن كانت هناك ثقة بأن دمشق في متناول اليد. وبالفعل، لبت فصائل “غرفة عمليات الجنوب” بقيادة أحمد العودة ودخلت على عجل إلى دمشق مساء 7 ديسمبر.
اجتماع الدوحة
كيف كان المشهد يوم السبت 7 ديسمبر؟
عائلة الأسد في موسكو. والرئاسة السورية تعلن أن الأسد في دمشق ويمارس مهماته ولم يزر الإمارات، فيما يؤكد وزير الداخلية السوري وجود “طوق أمني على دمشق”. كما أن رئيس الأركان يقول إن “الجيش يؤمن دمشق ويسيطر على الفوضى”. وتواصل “هيئة تحرير الشام” تقدمها وخطابها المطمئن للأقليات والمؤسسات، فيما يواصل وجهاء المدن التسليم والترحيب.
يوم السبت، في دمشق ارتباك وترقب. كما أن المكتب الإعلامي باشر بتجهيز خطاب يلقيه الأسد في القصر الرئاسي، في المكان ذاته الذي ألقى فيه خطابه عندما استعاد السيطرة على حلب في نهاية 2016.
أيضا، كان هناك اجتماعان دوليان إقليميان: “حوار المنامة” و”منتدى الدوحة”. حضرت الأول وكنت على تواصل دائم مع حاضرين في الثاني. كل البيانات والتصريحات التي صدرت من الوزراء والمسؤولين كانت تشير إلى أنهم بعيدون عن إدراك حجم التغيير الحاصل في الواقع الميداني.
علنا، قال لافروف من الدوحة: “لن نسمح لـجماعة إرهابية (إشارة لـ”تحرير الشام”) بالسيطرة على دمشق”، فيما قال عراقجي إن “الحوار بين الحكومة والمعارضة يجب أن يبدأ”. أما وزير خارجية قطر محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، فقال إن “الأسد لم يغتنم الفرص لعودة اللاجئين أو المصالحة”. ودعا المبعوث الأممي غير بيدرسون إلى “محادثات سياسية عاجلة في جنيف لتطبيق 2254″، قائلا إن “سوريا بحاجة لترتيبات انتقالية شاملة وذات صدقية”. وأبلغ عراقجي ولافروف بيدرسون موافقة الأسد على التفاوض في جنيف.
تدخل الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب وقال إن المعارضة تهدد الأسد وروسيا غير قادرة على وقف هذه المسيرة وأنه “إذا أجبرت روسيا على الخروج من سوريا… هذا أفضل شيء لها”.
في الجلسات المغلقة، قال مسؤول عربي من دولة مجاورة لسوريا: “نحن مع النظام. وإذا خيرنا بين الأسد والجولاني سنختار الأسد ولا نريد الفوضى في سوريا”.
“الجيش لا يريد القتال”
خلاصة مسؤولين اثنين التقيا لافروف وعراقجي، هي أن لافروف وعراقجي، قالا إنهما متفاجئان لأن “الجيش السوري اتخذ قرارا بعدم القتال”. وأشار كل منهما على حدة، إذا كان الجيش لا يريد القتال، لا يمكن لطهران وموسكو أن تقدما أي دعم. وقال أحد الوزيرين: “أريد أن أساعد جيشا يقاتل”.
وقال شخص التقى لافروف: “بدا أنه مستسلم للواقع الجديد ولم يكن قادرا على فعل شيء”. وأشار إلى قبول روسيا مشاركة “هيئة تحرير الشام” في هيئة حكم انتقالية في سوريا. وأبلغه مسؤول غربي: “لا أحد يريد سقوط العاصمة. إذا حصل قتال ستحصل دماء كثيرة ولا نريد انهيار الدولة”. وحث على ضرورة “تحرك روسيا بسرعة ويجب أن نطوي صفحة الأسد وعائلته ونبقي على الجيش”.
أما فيدان، فبدا واثقا. وقال أكثر من مرة إنه لا علاقة لتركيا بما حصل، بل إن الفصائل هي التي شنت الهجوم وتحقق تقدما سريعا. وقال مسؤول عربي التقاه: “الجيش قرر أن لا يقاتل حتى في دمشق”. وأن “تركيا أبلغت الجميع أنه في حال تدخل أي طرف خارجي عسكريا، فستتدخل عسكريا”.
وصدر بيان ختامي عن “صيغة آستانه” وآخر مشترك بينها وبين وزراء عرب. وكان البيانان متأخرين كثيرا عن الواقع الميداني.
المشهد من دمشق
بالتزامن مع تقدم الفصائل من الشمال إلى الجنوب، كانت تحط طائرة مدنية في مطار المزة العسكري وقربها طائرات عسكرية. قال متابعون إنها كانت تحمل صناديق وتقوم بجولات خارجية. وبعثوا لي فيديوهات وصورا لهذه الطائرة. أيضا، زار مبعوث عربي الأسد والتقاه يوم الجمعة. وقال أحد الشهود: “بدا أن الجو بينهما عادي”. تم توديع الضيف العربي الذي غادر دمشق الساعة الرابعة بعد ظهر الجمعة.
كيف كان مشهد دمشق مساء السبت؟
وزير الداخلية ورئيس الأركان قالا في بيانين علنيين يوم السبت إن “طوقا أمنيا” فرض على دمشق لحمايتها بموجب تعليمات من الأسد، الذي التقى قادته العسكريين والأمنيين. كما أنه طلب من مدير مكتب الأمن الوطني كفاح ملحم البقاء في مكتبه.
ما بين الساعة 12–1 ظهرا، أكد شهود عيان لدى كل من مكتب الأمن الوطني والحرس الجمهوري و”الفرقة الرابعة” أن عناصر من الجهات المذكورة كانوا يقومون بإحراق وثائق وحواسيب، نتيجة اقتراب قوات المعارضة باتجاه العاصمة.
منذ صباح يوم السبت كانت هناك حالة اختناق مروري وازدحامات وحالة من الهلع والذعر والخوف لدى سكان المدينة، وامتلأت الأسواق والمتاجر بالمواطنين الذين هرعوا لتموين المواد الغذائية بشكل كبير، ووصل الأمر لوجود أزمة في مواد غذائية معينة كالسكّر والزيت والأرز، وبقي اليوم كذلك حتى مساء ذلك اليوم، حيث بدأت المظاهر الأمنية في العاصمة تختفي شيئاً فشيئاً، بمن فيهم شرطة المرور في شوارع العاصمة، حسب نص أرسله لي شاهد عيان.
وقال: “شوهدت قوات للجيش تدخل العاصمة منسحبة ابتداء من الساعة السادسة مساء من خلال المتحلق الجنوبي باتجاه المربع الأمني في كفرسوسة، حيث مر رتل كبير من سيارات الدفع الرباعي وعربات الرشاشات الثقيلة”.
تلقى الأسد بعد ظهر السبت ومساء السبت اتصالات من وزير الخارجية بسام صباغ والمستشارة بثينة شعبان ومن رئيسة اتحاد الطلبة دارين سليمان ومن نائبة الأمين العام للرئاسة لينا كيناية. أكد لجميعهم أنه “لا داعي للقلق” وأن “الدعم الروسي قادم” و”أننا سنقاتل ونستعيد المدن”. وقال أحد الذين اتصلوا بالأسد: “فوجئنا بالذي حصل. قال لنا: نحن ذاهبون إلى معركة. يبدو أنه ضللنا”.
وافق الأسد مبدئيا على إلقاء “خطاب الحرب” وليس الاستقالة أو التنحي مساء السبت. وجرت إعدادات لذلك، بل إن مصوريه جهزوا المكان، وجهزت قناة “روسيا اليوم” شارة الانتقال لبث “الخطاب المباشر” للأسد.
ألح عليه مستشاروه كي يظهر، سأله أحدهم: “ماذا يحصل في حمص ودمشق؟ هل أعطيت تعليمات بعدم إطلاق النار؟ من أعطى التعليمات؟ هل هناك اتفاق في الدوحة بين وزراء صيغة آستانه؟”. لكنه قال: “لا داعي للقلق. الدعم من حلفائنا الروس قادم. ولا عجلة في إلقاء الخطاب. الوقت تأخر الآن (9:30 مساء السبت). غدا سألقي خطابا”. بالفعل بقي بعض الموظفين في مكاتبهم إلى ما بعد منتصف “ليلة الهروب”.
واتفق مع دارين سليمان على تناول الفطور صباح الأحد ومع شعبان على إعداد مسودة خطاب وعرضها على اللجنة السياسية في الساعة الثانية عشر ظهر الأحد، ثم عرض مسودة الخطاب عليه كي يلقيه بعد ظهر الأحد.
في الساعة الثامنة غادر الأسد مكتبه. تلقى اتصالا روسياً مهماً، مفاده بأن عليه مغادرة دمشق لتجنب إراقة مزيد من الدماء وحماية ما تبقى من المصالح الروسية.
أما المستشارون، فذهبوا إلى النوم بما في ذلك قائد الموكب في الحرس الجمهوري اللواء فائز جمعة. أيقظهم أقاربهم ومساعدوهم على مفاجأة مدوية جاءت من وسائل الإعلام: “الأسد هرب”. اختار شخصين فقط، أحدهما وزير شؤون الرئاسة منصور عزام (شقيقه رجل أعمال في روسيا) ومسؤول الحماية العميد محسن محمد. وذهبوا إلى قاعدة حميميم. ومن هناك طار إلى موسكو.
أسماء من جهتها كانت قد اتصلت بأحد مساعديها كي يعود على عجل من مؤتمر في الخارج لعقد اجتماع مهم. عندما وصل أحدهم من دبي إلى مطار دمشق، وجده تحت سيطرة الفصائل. وقال باكيا: “أبكى على حالنا. لقد ضللونا وخدعونا”.
عندما تسرب خبر مغادرة الأسد، استيقظ أو تم إيقاظ مستشاريه وهربوا إلى لبنان أو الساحل السوري ثم إلى دول عربية. إحدى العاملات بالقصر عادت للعمل، فيما ذهب آخرون إلى دول أخرى مثل الإمارات وروسيا ولبنان والعراق. وتردد أن عددا من الضباط والمسؤولين لجأوا إلى إحدى السفارات في دمشق.
في مقر قيادة “الفرقة الرابعة” كان هناك من يريد القتال. جرت “معركة داخلية” في مكتب ماهر الأسد بحضور نائبه ومدير مكتب وقائد عسكري. قتل أحدهم بطلقة رصاص والثاني بقنبلة، ثم هرب ماهر إلى العراق برفقة رئيف قوتلي وقادة ميليشيات عراقية. قال أحدهم: “الفرقة الرابعة التي أنشئت للقتال في دمشق، تبخرت وتلاشت في ساعات وهرب العناصر الى الساحل”.
جاء الأمر الأخير للانسحاب في الساعة 3 فجر السبت–الأحد، لعناصر “الحرس الجمهوري”، بعد خروج أخبار عن أنه فر هارباً دونما إخبار ضباطه المرافقين أو رئيس مكتب المهام الخاصة، اي اللواء فائز جمعة. وحتى ذلك الوقت، كانت عناصر الحراسة في قطاعات القصر تقوم بمهامها على أكمل وجه وتقوم بتفتيش السيارات بشكل دقيق، على عكس ما درج خلال السنوات الماضية من السماح لمرور السيارات دون أي تدقيق.
وأكثر من مسؤول قال إن الأسد لم يبلغ شقيقه ماهر بموعد هروبه، كما أنه لم يبلغ باسل ابن شقيقته بشرى بموعد خروجه من دمشق. ولم يسمح لرئيس موكب الحماية بالسفر معه. وأبلغ أحد سائقيه: “لدينا وثائق للحلفاء الروس، يجب أن نسلمها في حميميم… وطار دونه”، حسب قول السائق لأحد أقاربه. قال أحد المطلعين: “كان خائفا من أن يقتله أحد مرافقيه”.
واستمرارا للمبادئ التي أعلنت منذ معركة حلب- بينها الحفاظ على مؤسسات الدولة- جرى استلام وتسليم بين الحكومة الرسمية و”الحكومة المؤقتة” التابعة لـ”الهيئة”، ودخل الشرع دمشق “فاتحا” من بوابتها الشمالية، وذهب الأسد وعائلته إلى موسكو من دون يأخذ أقرباءه أو مستشاريه أو أن يتنحى عن منصبه. لم يتنح من منصبه ولم يعتذر. بقي صامتا. في 16 ديسمبر صدر بيان على وسائل التواصل الاجتماعي نسب إليه، حمّل فيه الجيش السوري وروسيا مسؤولية هروبه. وكرر مواقفه التي أعلنها منذ
مجلة المجلة