يمر العرب بمنعطف خطر يجسد أصعب مراحل التطور في الصراع القائم بالشرق الأوسط منذ 80 عاماً
مصطفى الفقي كاتب وباحث
توافدت على الصراع العربي – الإسرائيلي بعد الحرب العالمية الثانية قوى استعمارية قديمة وجديدة، زحفت على الوطن الفلسطيني ودول الجوار لتجدد روح المأساة وتبعث في المنطقة عوامل القلق وأسباب الاضطراب.
تحتل منطقة الشرق الأوسط مكانة خاصة على خريطة العلاقات الدولية وفي إطار الصراعات الإقليمية لأسباب متعددة، منذ أن بدأت وزارة المستعمرات البريطانية وصف تلك المنطقة (بالأوسط) بدلاً من الوصف السابق (الأدنى). والشرق الأوسط يقف على قدمين إحداهما إقليم غرب آسيا الذي يبدأ من حدود باكستان وينتهي عند سواحل المتوسط، والقدم الثانية تبدأ من المحيط الأطلسي إلى قناة السويس شرقاً، ولذلك فإن هذه المنطقة تتأثر سلباً وإيجاباً بمتغيرات ممتدة على رقعة كبيرة من قلب العالم القديم، نضيف إلى ذلك أهمية ثقافية وروحية ترتبط بالحضارات التي وفدت على المنطقة والثقافات التي تركت بصماتها في الإقليم وجعلته محط الأنظار وبؤرة الاهتمام.
ويحسن هنا أن نشير إلى الأهمية الجيوسياسية للشرق الأوسط منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، واضعين في الاعتبار أن جزءاً كبيراً من أهميته تنبع بالتأكيد من ذلك التراث الثقافي والحضاري لإقليم عبر عليه الفراعنة المصريون والآشوريون والفينيقيون وغيرهم، وصولاً إلى الإغريق والرومان ثم بناة الحضارة العربية الإسلامية، إضافة إلى ثقافات محلية محدودة تواجدت في أركان الإقليم وتركت تأثيراً اجتماعياً في معظمه بدءاً من القبيلة وصولاً إلى المدينة. وتميز الفكر العمراني الشرق أوسطي بخصائص جاذبة جعلت منه إقليماً متألقاً من حيث البيئة والمناخ معاً، فهو إقليم أشجار الزيتون وأشجار الأرز وزهور اللوتس، إنه الإقليم الجاذب للاعتدال والوسطية أو هكذا كان يجب أن يكون، ولكن الاهتمام به والأطماع التي لا تنتهي فيه غيرت الصورة تماماً وجعلت الأرض التي ورثت الحضارات مسرحاً للحروب والمواجهات العسكرية، فهي أرض تمثل بؤرة للأطماع في ظل الظاهرة الاستعمارية قديمها وجديدها، ونحن نلفت النظر هنا إلى أن العلاقات الأوروبية الشرق أوسطية كانت ذات تأثير حاكم في طبيعة الحياة ونوعية التواصل بين دول المتوسط والشمال الأفريقي ودول البلقان ودول الجوار، وقد شكلت طبيعة الساحل والصحراء هذا الإقليم ونوعية الحياة فيه، فإقليم الكروم والأعناب والجو المعتدل نسبياً والآفاق الرحبة في كل اتجاه ابتلي بعديد من الحروب وصور العدوان وأنماط الغزو الأجنبي والعدوان الخارجي، ومثلت القضية الفلسطينية خلال العقود الأخيرة المحور الذي تدور حوله العلاقات وتمضي نحوه مظاهر الحياة في هذا الإقليم الحيوي من قلب العالم.
ولعلي أوجز هنا في استعراض سريع مصادر المواجهة ودوافع العنف التي دفعت بشرق البحر المتوسط، وهو بحيرة الحضارات الكبرى للعالم القديم والتي كانت تناطح حضارات الشرق الأقصى في الصين وإقليم جنوب شرقي آسيا، ليكون بؤرة للظاهرة الاستعمارية الأوروبية وتصديراً شرساً لكل مظاهر المسألة اليهودية بحيث دفعتها أوروبا دفعاً إلى المنطقة، ولنا هنا عدد من الملاحظات.
أولاً، إن الحروب المسماة بالحروب الصليبية لم تكن مواجهة دينية فحسب، ولكنها بداية لدخول الظاهرة الاستعمارية عبر السواحل الشرقية للمتوسط باتجاه العالمين العربي والإسلامي، وحرص الآباء المؤسسون لذلك التوجه العدواني على أن يرفعوا الصليب شعاراً زاعمين أن هناك حقوقاً تاريخية في تلك الأرض المقدسة التي ولد فيها السيد المسيح ومشى على أرضها، بعد أن كلم موسى ربه في طور سيناء ثم انتهى الأمر بإسراء النبي محمد نبي الإسلام إلى بيت المقدس في رحلة روحية تعتمد على الإيمان بالدرجة الأولى، وها هي تلك البقعة المقدسة تتحول مرة أخرى إلى بؤرة للصراع الدامي والعدوان المتوحش من جانب دولة إسرائيل على الشعب الفلسطيني مستهدفة نساءه وأطفاله، حتى تقطع الطريق على أجيال جديدة تطالب بالأرض وتتطلع إلى الوطن السليب.
ثانياً، توافدت على الصراع العربي – الإسرائيلي بعد الحرب العالمية الثانية قوى استعمارية قديمة وجديدة زحفت على الوطن الفلسطيني ودول الجوار، لتجدد روح المأساة وتبعث في المنطقة عوامل القلق وأسباب الاضطراب، ثم بدأت الصحوة العربية في مواجهة الخطر الإسرائيلي ولكن بريطانيا سلمت مفاتيح فلسطين تحت الانتداب إلى العصابات الصهيونية، مؤمنة بأن ذلك أفضل طريق لحماية مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة، فكان وعد بلفور 1917 هو المقدمة لإعلان قيام دولة إسرائيل بعد قرار الأمم المتحدة بالتقسيم عام 1947، وبذلك تغيرت المعالم واختلفت مظاهر الصراع لكي تصبح وقوداً لحركة صهيونية عنصرية عدوانية استيطانية في هذا المكان من العالم.
ثالثاً، برع العقل اليهودي في توظيف إمكاناته واتصالاته مع القوى الاستعمارية الغربية وخلق مصالح مشتركة معها، والذي يتابع تصريحات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب –على رغم شطحاته وآرائه المختلفة- يدرك أن إسرائيل قطعت شوطاً كبيراً في الوصول المستقر إلى مراكز صنع القرار السياسي والعسكري داخل العواصم ذات التاريخ الاستعماري البغيض، الذي زحف من الشمال إلى الجنوب ثم هو يحاول الآن إغلاق أبواب الهجرة الاضطرارية من الجنوب إلى الشمال. إنه ازدواج المعايير وسياسة الكيل بمكيالين التي برع فيها الغرب الاستعماري وجيوبه التي زرعها في أحشاء الإقليم كله، بحيث أصبحنا في النهاية أمام مواجهة حضارية تعتمد على الفوارق بين ما يملكه كل طرف من تراث فكري وتقدم تكنولوجي، وقدرة على حصار الطرف الآخر وتجويع شعبه وتعذيب البشر ودك الحجر في تصرفات همجية استعمارية عنصرية تقوم على خطاب الكراهية وتزهو بالدماء التي تسيل، وتفتخر بأعداد القتلى من المدنيين ومعظمهم نساء وأطفال.
رابعاً، إن الشرق الأوسط حالياً يواجه حالاً صعبة إذ لم تعد الحروب التقليدية والمواجهات الموضعية قادرة على إيجاد اختراق للمستقبل أو خروج من ذلك المأزق الذي تورطت فيه المنطقة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، كنتيجة متوقعة للممارسات الإسرائيلية المستمرة من هدم المنازل والعدوان المستمر على المدنيين على نحو غير مسبوق في التاريخ المعاصر. وسوف تضع الحرب أوزارها ذات يوم ليرتفع الغطاء عن شعور عميق بالعداء الدفين الذي توارثته الأجيال نتيجة الحرب على غزة والعدوان على لبنان، ومحاولة زرع الفتن وتمزيق أواصر الموقف العربي الفلسطيني وإضعاف العمل العربي المشترك، حتى يمكن تمرير اقتراحات مشبوهة ومبادرات ملتوية مثل صفقة القرن التي حشد لها دونالد ترمب معاونيه وأقاربه وأتباعه في محاولة للترويج لمؤامرة حقيقية، تستهدف تصفية القضية الفلسطينية على نحو غير عادل وبمنطق منحاز على حساب الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني.
خامساً، إن المشهد الضبابي الذي تجتازه المنطقة يستدعي من العرب يقظة شديدة وحرصاً كاملاً لكي تمر الفترة الصعبة من دون أن يدفع العرب فاتورة جديدة، بدعوى تحقيق السلام وإعادة رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط على نحو يحقق به الغرب والولايات المتحدة خصوصاً ضمانات أكبر لحماية مصالحها، وإعطاء قاعدتها الكبرى في الشرق الأوسط وهي إسرائيل ميزات جديدة على حساب العرب الذين ينتقلون من النكبة إلى النكسة ثم إلى المؤامرة الكبرى، وأنا شخصياً كنت أتوهم أن ترمب سيكون الرجل القوي في البيت الأبيض والقادر على تحقيق حد أدنى من العدالة في التسوية المحتملة، ولكن المشهد ينبئ بغير ذلك ويوحي بأن وراء الأكمه خطر قادم ومصاعب جديدة تؤدي إلى تضييق الخناق على العرب والفلسطينيين، في ظل اختفاء كامل للشرعية الدولية وغياب واضح لاحترام القانون الدولي.
أيها السادة إننا نمر بمنعطف خطر يجسد أصعب مراحل التطور في الصراع القائم في الشرق الأوسط منذ نحو 80 عاماً، ونحن ولا شك نتطلع إلى السلام ولكنه ذلك السلام الذي يحترم الثوابت ويمنح الشعب الفلسطيني حقه الطبيعي في دولة مستقلة بعاصمة في القدس، وهي أمور اقترب منها العقل الإسرائيلي في بعض المراحل ولكنه نكص عما كان يبدو شبه مقبول لديه… إنها المراوغة المعهودة والتلاعب المتعمد والخداع الذي لا ينتهي من قوى الشر والعدوان أعداء السلام العادل منذ البداية.
المقالة تعبر عن راي كاتبها