أبعد من الحرب المدمرة… تدمير الطوائف للدولة

لبنان هو واحد من البلدان القليلة التي تبحث أحزابها وتياراتها عن علاقات خاصة مع دول في المنطقة والعالم

رفيق خوري كاتب مقالات رأي

“حزب الله” المتحكم بلبنان والمقاتل إلى جانب النظام في سوريا والذي يضطلع بدور إقليمي في العراق واليمن وغزة ضمن الاستراتيجية الإيرانية يورط لبنان في حرب مدمرة ضد رغبة الأكثرية من اللبنانيين، ويصر على الاستمرار فيها من دون التوقف عن اتهام كل من يناقش منطق الحرب وإدارتها وأضرارها بـ”الخيانة” وخدمة “المشروع الأميركي- الإسرائيلي”.

اللبنانيون ليسوا مؤهلين لتقديم جواب عن سؤال طرحه صموئيل هنتغنتون على الأميركيين في كتاب “من نحن؟”، فهو خاطب خليطاً من كل شعوب الأرض جعله “وعاء الصهر” شعباً أميركياً تجمعه الوطنية والحرب تحت راية الاتحاد، وكان هاجسه تأثير ملايين المهجرين، لا سيما من أميركا اللاتينية، في هوية الشعب الأميركي.

وعلى العكس في لبنان، فإن شعباً “بلدياً” من أصول واحدة في بلد صغير فشل في الوحدة الوطنية، وصار يتصرف كأنه مجموعة شعوب بعضها يخشى على الهوية التاريخية من النازحين، وبعضها الآخر يراهن على الديموغرافيا والنزوح لتغيير النسيج الاجتماعي، والانقسام عميق وحاد في كل شيء.

دكتور وقاضٍ مثل نواف سلام يتولى منصب رئيس محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة في لاهاي، لكن ترشيحه لرئاسة الحكومة في لبنان اصطدم برفض قاطع من “محور الممانعة” المرتبط بإيران، والحجة المعلنة المزيفة هي أنه مرشح “أميركا”، والهدف الحقيقي هو المجيء برئيس جمهورية ورئيس حكومة تابعين لإيران، وإلا استمر الشغور الرئاسي بلا حدود.

لا بل إن “حزب الله” المتحكم بلبنان والمقاتل إلى جانب النظام في سوريا والذي يضطلع بدور إقليمي في العراق واليمن وغزة ضمن الاستراتيجية الإيرانية، يورط لبنان في حرب مدمرة مع إسرائيل ضد رغبة الأكثرية من اللبنانيين، ويصر على الاستمرار في الحرب بعد نزوح “البيئة الحاضنة” له من الشيعة إلى المناطق التي تسكنها الطوائف الأخرى، من دون التوقف عن اتهام كل من يناقش منطق الحرب وإدارتها وأضرارها بـ”الخيانة” وخدمة “المشروع الأميركي- الإسرائيلي”.

فلبنان هو واحد من بلدان قليلة، إن لم يكُن البلد الوحيد، الذي تبحث أحزابه وتياراته وطوائفه عن علاقات خاصة مع دول في المنطقة والعالم، ومن المفارقات أن تصبح العلاقات الداخلية بين القوى اللبنانية متوترة وأحياناً أسيرة القطيعة، فيما العلاقات مع القوى الخارجية قوية. حتى انقطاع الحوار في الداخل، فإنه يقف عند حدود الخارج، بحيث يبقى الحوار مستمراً. وما أكثر ما قامت قوى خارجية بالتوسط بين قوى محلية في لبنان لانتخاب الرئيس وتركيب السلطة. هكذا كانت الحال في الماضي وهكذا هي في الحاضر ولا شيء يمنع استمرارها في المستقبل.

أيام المتصرفين في جبل لبنان خلال النصف الثاني من القرن الـ19، كان الوالي مسيحياً غير لبناني من رعايا السلطنة العثمانية يعينه السلطان ويمنحه لقب باشا بموافقة الدول السبع الكبرى. وكانت كل طائفة تتكل في الرعاية والحماية على واحدة من تلك الدول عبر القناصل. الأرثوذكس في حماية روسيا والموارنة في حماية فرنسا والكاثوليك تحت رعاية الإمبراطورية المجرية-النمسوية والدروز والبروتستانت في رعاية بريطانيا العظمى، وما كان السنة في حاجة إلى حماية لأنهم على دين السلطان ورعايته.

أيام لبنان الكبير الذي أعلنه الجنرال هنري غورو في الأول من سبتمبر (أيلول) عام 1920 بعدما أسقط الدولة العربية التي مركزها دمشق في معركة ميسلون مع وزير الدفاع يوسف العظمة، فاضطر البريطانيون إلى تنصيب ملكها فيصل بن الشريف حسين في العراق، كانت فرنسا الدولة المنتدبة تمنع أية طائفة من إقامة علاقات مع دولة أوروبية، لكن طوائف قاومت دولة الانتداب، وأخرى فتحت علاقات مع لندن في ظل التنافس الفرنسي-البريطاني، وحين حدث تضامن بين قادة الطوائف وساعدهم الجنرال البريطاني إدوارد سبيرس ودعمهم السوفيات حصلوا على الاستقلال من الانتداب الفرنسي الذي جاءت به الحرب العالمية الأولى وأطاحت به الحرب العالمية الثانية.

بعد الاستقلال، تكرس نهج العلاقات بين الطوائف والأحزاب والتيارات وبين الدول إلى جانب العلاقات الرسمية مع بيروت عاصمة الجمهورية اللبنانية. زعامة مارونية تمسكت بفرنسا ورأت أن الاستقلال جاء فيه قبل أوانه، وزعامة مارونية أخرى قامت بدور بطل الاستقلال وكانت على علاقة جيدة مع مصر وسوريا، والزعامات الأرثوذكسية أقامت علاقات مع المحيط العربي، لا سيما مع القاهرة ودمشق، والزعامات السنية والشيعية مشت وراء القاهرة، خصوصاً في عصر الرئيس جمال عبدالناصر، ثم تحولت إلى العلاقات مع دمشق والرياض بعد زيارة الرئيس السادات للقدس وذهابه إلى كامب ديفيد، والزعامات الدرزية تمسكت بالعلاقات مع المحيط العربي من دون أن تهمل الباب المفتوح مع لندن وباريس وموسكو.

ثم جاء عصر الاندفاع نحو واشنطن خلال حرب لبنان التي توقفت باتفاق الطائف عام 1989 من خلال اللجنة العربية الثلاثية المشكلة من الملك فهد والملك الحسن الثاني والرئيس الشاذلي بن جديد وبدعم كبير من واشنطن ودمشق والرياض. وفي الحرب، أقامت زعامات مارونية علاقات مع إسرائيل التي اجتاحت لبنان عام 1982 وأخرجت منظمة التحرير الفلسطينية منه، ثم انفردت دمشق بالعلاقات مع كل الطوائف وإدارة السلطة الرسمية من الكواليس، ثم جاء العصر الإيراني بعد الانسحاب السوري من لبنان عام 2005 وهيمنة “حزب الله” و”حركة أمل” على السلطة في الوطن الصغير.

في كل هذه التحولات، كانت الدولة مجرد سلطة أضعف من سلطة الزعامات، وليس في بيروت اليوم سوى بقايا سلطة، وأزمة مالية واقتصادية واجتماعية حارة وحرب بين إسرائيل وزعامة شيعية مرتبطة بإيران، ولا رئيس للجمهورية منذ عامين، ولا أمل في بناء مشروع الدولة القوية دولة الحق والقانون ولو انتهت الحرب وأعيد تكوين السلطة من زعماء الطوائف أو ممثليهم.

هذا الوضع غير الطبيعي هو وصفة للامتناع عن بناء دولة. وإن لم تتوقف ألعاب الزعامات مع دول من وراء ظهر السلطة الرسمية، ويبدأ مسار العلاقات الجيدة في الداخل، فإن البلد يبقى أسير الأزمات الدائمة في دولة الطوائف، ولن يصل إلى دولة مدنية هي الخلاص الوحيد، ولا بالطبع إلى دولة دينية يعمل لها بعضهم وهي عملياً نهاية لبنان الحرية والإبداع والثقافة والفنون.

المقالة تعبر عن راي كاتبها