ما أراد ترمب فعله في الداخل هو عدد من الخطوات المتفرقة التي لا يجمعها مشروع متكامل
رفيق خوري كاتب مقالات رأي
ترمب سيجد نفسه في ورطة، فلا شيء يضمن ما طلبه، وهو وقف الحرب في غزة ولبنان قبل تسلمه السلطة، وقد تستمر الحرب على مدى ولايته من دون أن تؤذي المصالح الأميركية.
أميركا لا تزال شاغلة العالم مع أن عصر الأحادية الأميركية انتهى. وأي تغيير رئاسي في القوى الكبرى أو في ما سماها الرئيس فلاديمير بوتين “القوى الجديدة” في العالم لا يلقى الاهتمام الذي يلقاه التغيير في أميركا لا في الصين ولا في روسيا.
المرحلة الانتقالية بين فوز الرئيس دونالد ترمب في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) وتسلمه السلطة في الـ20 من يناير (كانون الثاني) 2025 تبدو كأنها مرحلة انتقالية في العالم كله. ومراجعة السياسات في عواصم العالم ترتبط سلباً أو إيجاباً بمراجعة السياسات في واشنطن. وإذا كنا منذ سنوات في ما سماه الرئيس الصيني شي جينبينغ عالم “عدم اليقين”، فإننا اليوم في أعلى مراحل اللايقين واللاقدرة على التنبؤ بما يمكن أن يفعله ترمب.
ذلك أن ترمب ليس “سوبر صقر” كما يوحي خطابه. ولا هو نسخة متأخرة من المحافظين الجدد أيام الرئيس بوش الابن والأحادية الأميركية الذين أرادوا تغيير الشرق الأوسط والعالم. ولا هو براغماتي من مدرسة “الواقعية السياسية” التي كان الرئيسان باراك أوباما وجو بايدن آخر تلاميذها.
ما أراد فعله في الداخل هو عدد من الخطوات المتفرقة التي لا يجمعها مشروع متكامل من تغيير طبيعة الحزب الجمهوري إلى ترحيل 20 مليون مهاجر غير شرعي. ومن خفض الضرائب على الأثرياء إلى الانتقام من كل الذين عارضوه. وما أراد فعله في الخارج تحت عنوان “أميركا أولاً” أقلق حلفاء أميركا في أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين وأستراليا وأراح خصومها في الصين وروسيا وكوريا الشمالية.
أوكرانيا خائفة من أن يضحي ترمب بها على مذبح علاقاته مع بوتين ويجبرها على تسوية تخسر فيها نفسها. أوروبا خائفة على أمنها من هزة أميركية لحلف “الناتو”، وعلى اقتصادها من الرسوم الجمركية التي يعتزم ترمب فرضها.
إيران في مرحلة بين بين. فالقوة “الثورية” التي أراد ترمب عزلها وأخرج أميركا من الاتفاق النووي معها وفرض عليها “الضغط الأقصى” هي اليوم القوة الإقليمية التي تدير “وحدة الساحات” في حرب غزة ولبنان، ولا مهرب من التفاوض الأميركي معها لتسوية أي مشكلة في الشرق الأوسط.
إسرائيل تنتقل من صديق ديمقراطي داعم لها مع مطالب بشأن المدنيين و”حل الدولتين” إلى صديق جمهوري داعم لا يطلب منها شيئاً. بل إن ما لا يزال ثابتاً في الشرق الأوسط هو “الاتفاقات الإبراهيمية” التي عمل لها ترمب ولم تهتز بما حدث ويحدث في المنطقة من حروب ومتغيرات. قادة الخليج مرتاحون لحليف واضح يعرفون ما يطلبه، وهو سهل، وما يقدمه، وهو مهم.
بوتين جاءه صديقاً في واشنطن يضعف “الناتو” أو أقله يلغي تهديد وصوله إلى حدود روسيا في أوكرانيا، ويرفع كابوس الخطر من حرب عالمية ثالثة واستخدام السلاح النووي. شي يواجه فرصة وخطراً. الفرصة هي امتناع ترمب عن دعم تايوان بالقوة العسكرية إذا أرادت الصين استعادتها. والخطر هو فرض رسوم عالية على الصادرات الصينية إلى أميركا. كيم جونغ أون يتوقع أن يتلقى “رسالة حب” جديدة من سيد البيت الأبيض.
أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فإنه يطلب من أوروبا ألا تسمح لنفسها بأن تكون من “أكلة الأعشاب” ضعيفة ومحوطة بمجموعة من المفترسين “آكلي اللحوم”. ويرى أنه لم يعد في إمكان أوروبا “تفويض حماية أمنها إلى الولايات المتحدة الأميركية”.
وأما قادة أوروبا الآخرون، فإنهم منقسمون بين من يفضل التقارب مع الكرملين وبين من لا يتحمل “ناتو” من دون تمويل أميركا وعسكرها ومظلتها النووية، مع أن الدخل القومي للاتحاد الأوروبي يوازي 12 ضعفاً للدخل القومي الروسي.
والواقع، كما لاحظ إيبان بريمر في مجلة “تايم” تنامي “حركة كونية ضد الستاتيكو” في أوروبا وأميركا وبلدان عدة. ما تريده الحركة هو “تغيير الحزب الحاكم”. والرابحون من المعارضة لم “يفوزوا بسبب برامجهم بل بسبب ملل الناس من الحكام الحاليين”. لكن الطابع العام للتغيير هو صعود قوى اليمين المتشدد أكثر من يمين الوسط. ومثل هذا التغيير ليس نحو الأفضل بل نحو الأسوأ والأخطر. فماذا لو فاز حزب “البديل” من أجل المافيا في برلين إلى جانب أمثاله في هولندا والنمسا والسويد وفرنسا. ويقابلهم في واشنطن حزب جمهوري قاعدته من نوع المخربين الذين اجتاحوا مبنى الكونغرس قبل أربع سنوات لمنعه من إعلان فوز جو بايدن بحجة أنه “سرق” الفوز من ترمب. وماذا لو انتصر بوتين في أوكرانيا، وصارت أوروبا كلها، لا فقط أوروبا الشرقية التي كانت في المعسكر الاشتراكي، تعيش في ظل هيمنته؟ كل من سمع ما قاله ترمب في الحملة الانتخابية ينتظر ما يقوله ويفعله في السلطة.
وترمب سيجد نفسه في ورطة. لا شيء يضمن ما طلبه، وهو وقف الحرب في غزة ولبنان قبل تسلمه السلطة، وقد تستمر الحرب على مدى ولايته من دون أن تؤذي المصالح الأميركية. هو لا يحب القراءة العميقة، لكنه يدرك أن شعار “أميركا أولاً” يصطدم باستحالة الانعزالية الأميركية بعد الانفلاش الكبير. وهو يدعم مشروعاً إسرائيلياً خطيراً، ويواجه مشروعاً إيرانياً مزعزعاً للاستقرار، ويساير مشروعاً روسياً كبيراً، ويجابه مشروعاً صينياً كونياً، ويدعم مشروعاً عربياً لم يكتمل، من دون مشروع أميركي كامل الأوصاف. وإذا أراد بالفعل إخراج أميركا من كل الحروب، فإن المشهد هو إما أن تتوقف الحروب في كل العالم، وإما أن تتكاثر الحروب وغياب “الضابط الكل”.
يقول ألكسيس دو توكفيل، “كلما بدأ عهد جديد سنشاهد في فرنسا دور الحكومة، وفي بريطانيا دور حاكم عظيم، وفي أميركا نتأكد من فن الترابط”. لكن الانقسام العميق حالياً يجعل فن الترابط في حال صعبة.
المقاله تعبر عن راي كاتبها