كان أمامها فرصة ذهبية لترميم الجراح ورأب الصدع لكنها اختارت الغطرسة والعدوان
مصطفى الفقي كاتب وباحث
سياسيات إسرائيل تمضي على عدد من المسارات، فالحرب الميدانية والعمليات العسكرية في جانب بينما الاستطلاع والحرب النفسية وجمع المعلومات والنشاط الاستخباري تمضي كلها في جانب آخر، ولا تقاطع بين المسارين
سوف تبقى الحرب الإسرائيلية الفلسطينية وما تبعها من عدوان غاشم على لبنان وغيره من الأراضي العربية، أقول ستبقى في ذاكرة شعوب المنطقة لقرون مقبلة، إنها حرب تجاوزت الحدود والأعراف وخرجت عن المسار المعتاد للحروب الإقليمية والمواجهات العسكرية، حرب فيها قدر كبير من العدوانية ومشاعر الانتقام وخطاب الكراهية.
لقد حذرنا كثيراً من غياب الحسابات الموضوعية والدقيقة لقرارات كل طرف والتي تؤدي في نهاية المطاف إلى نزف من الدم، فضلاً عن الخسائر السياسية والخراب الاقتصادي الكبير وتحويل المدن إلى خرائب وأشلاء تحت الأنقاض وأحزان لا تزول مع الزمن، فقرار حركة “حماس” –مع تسليمنا بحق المقاومة المشروعة ضد الاحتلال واتباع مسار الكفاح المسلح– جانبه التوقيت المناسب، كما لم يكن الأسلوب معتاداً والنتائج لم تكن محسوبة، فكانت خسائر الجانب الفلسطيني واللبناني والعربي عموماً من هذه الحرب أكبر من كل التصورات وأضخم من كل التوقعات، كما أعطى ذلك لإسرائيل مبرراً لارتكاب جرائم غير مسبوقة في التاريخ المعاصر.
نؤكد أنه مع تسليمنا أيضاً بأن مقاومة الاحتلال –أي احتلال- هي حق مشروع لمن اغتصبت أرضه وتحول شعبه إلى مئات الألوف من اللاجئين والنازحين، إلا أن الخطوات المحسوبة والمواقف المدروسة تحتاج دائماً إلى رؤية بعيدة وحصافة تدرس الأحداث وتستطلع المواقف وتتخذ القرارات خلال الوقت المناسب، كما أن مقاومة الاحتلال ليست بالضرورة سيفاً ومدفعاً ولكن السند السياسي يبقى في كل الأحوال أمراً لازماً يتقدم المسارات ويشد قاطرة العمل الوطني إلى طريق يدرك الأبعاد كلها ويرى الآفاق على اتساعها ويتفهم كل ما يدور حوله.
الشعب الفلسطيني ومن ورائه الشعب اللبناني ودول العراق وسوريا واليمن شكلت في مجموعها جبهة مساندة أمام السلاح الأميركي الباطش والدعم الغربي اللامحدود، والغطرسة اللامتناهية لرئيس وزراء إسرائيل جزار غزة وقاتل الأطفال والنساء ومدمر جسور التواصل الإنساني واحتمالات التعايش المشترك ذات يوم، فالحروب ليست أبدية ولكن ما تزرعه في النفوس وتدسه في الصدور هو الأبدي الذي قد يستعصي علاجه مدى طويلاً، ولعلي أطرح ملاحظات على هامش ذلك العدوان الكبير والحرب غير المبررة وردود الفعل الإسرائيلية التي ترقى جميعها إلى جرائم حرب بشهادة المجتمع الدولي، فأقول…
أولاً، إن حصاد ما جرى منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 والتي اتخذتها إسرائيل مبرراً لإبراز وجهها الدموي العنصري العدواني وذريعة للانتقام من الشعب الفلسطيني على نحو غير مسبوق، ستظل في ذاكرة الأجيال الجديدة جراحاً لا تندمل ورصيداً لا ينضب من الشعور بالظلم والإحساس بالقهر من آلة القمع العسكرية الغاشمة، بل وانتقلت إلى تعرية المجتمع الدولي وكثير من مؤسساته والإدارات الأميركية المتعاقبة بل والغربية عموماً التي دعمت جرائم نتنياهو والممارسات غير الإنسانية واللاأخلاقية لليمين المتطرف في إسرائيل، وإذا كنا نقول دوماً إن الحروب ظاهرة موقتة وإن ذاكرة الشعوب تعرف النسيان وتملك الغفران إلا أن ما جرى يجعل السابع من أكتوبر 2023 مرادفاً للحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، ليدرك الجميع أن شهوة الانتقام دائرة مفرغة لا تنتهي أبداً.
ثانياً، إن الصراع مع إسرائيل له عدة مسارات عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية، ولكن يجمع بينها جميعاً ذلك الخبث الأسود والحمق الشديد فقد تراجعت بعض محاولات التطبيع التي سارت مع إعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه والتمسك بالثوابت التي تغطيها الشرعية الدولية التي لا تعترف بها إسرائيل وتتجاوز الأطر المتعارف عليها حتى في تاريخ الحروب.
والملاحظ هنا أن سياسيات إسرائيل تمضي على عدد من المسارات، فالحرب الميدانية والعمليات العسكرية في جانب بينما الاستطلاع والحرب النفسية وجمع المعلومات والنشاط الاستخباري تمضي كلها في جانب آخر، ولا تقاطع بين المسارين. فالأهداف بعيدة المدى ولدى إسرائيل تصور تاريخي عدواني يشكل المستقبل أمامها ويسقط من حسابه دوماً حقوق الشعب الفلسطيني وكرامة الشعب اللبناني وسلامة باقي الشعوب العربية.
لقد كان أمام إسرائيل فرصة ذهبية لترميم الجراح ورأب الصدع ولكنها اختارت التمادي في أساليب الغطرسة والعدوان واغتيال القيادات واصطيادهم كالعصافير! وأنا أزعم هنا أنني لست متطابقاً مع سياسات “حزب الله” اللبناني وأساليب حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على رغم اعترافي الكامل بحقهما في المقاومة ما دام الاحتلال الغاصب مستمراً، ولكني أهمس في آذان قادتهم، إن للمقاومة أساليب مختلفة وطرقاً معروفة ليست كلها عسكرية بالضرورة ولا مواجهات ميدانية، ولكن يمكن أن تنصرف أيضاً إلى أساليب أخرى يمكن أن تحقق بها المقاومة نتائج أكبر على المدى الطويل بدلاً من الخطوات غير المحسوبة أو الشعارات الزاعقة، ولننظر إلى ملايين النازحين واللاجئين على خريطة الوطن العربي لندرك أن حساباتنا ليست صحيحة دائماً وأنها تمضي أحياناً على طرق غير مدروسة بل وحسابات خاطئة.
أنا أدرك أن من يده في الماء ليس كمن يده في النار، وأنا لا أقف موقفاً تعليمياً للمناضلين بعد أن دفع الفلسطينيون ومعهم أيضاً قطاع من اللبنانيين ضريبة الدم وأعلم جيداً أن الشهداء والجرحى والأسر المكلومة تفكر بطريقة مختلفة أحياناً، وأجد مبرراً دائماً لمشاعر الحزن والأسى التي يعانيها الملايين من العرب والأحرار في أنحاء العالم بعد أن غطت جرائم إسرائيل على جرائم أخرى أكبر في التاريخ لا يمكن أن تنساها ذاكرته أو تسقطها من حساباته.
ثالثاً، إن التوازن الإقليمي واستقرار الشرق الأوسط وعودة الأمور إلى طبيعتها ستحتاج ولا شك إلى أعوام مقبلة، وقد لا يتحقق ذلك أبداً إذا ما استمرت سياسات إسرائيل على ما هي عليه، وظلت الغطرسة ونشر الأكاذيب وترويج الافتراءات هي مقدمات تدفع بها الدولة العبرية التي لا تريد العيش في سلام مع جيرانها، ولكنها تتصور أنه بالقهر والعدوان والتسلط يمكن أن تجد لها مكاناً على خريطة الشرق الأوسط، فالقضية الفلسطينية ليست هي تلك التي كنا نتحدث عنها منذ أعوام عدة، ولا يمكن أبداً أن تكون رهينة التعاطف الإنساني بعيداً من التأييد السياسي.
كما أن إيران لن تظل هي تلك الدولة التي تصدر أيديولوجية فارسية في غلاف إسلامي، ولن يظل لبنان ممزقاً في غياب رئيس الدولة والقيادات اللبنانية الواعية، كما أن الشعب الفلسطيني لن يظل منقسماً على نفسه بالصورة التي تسمح بتجزئة القضية وإزالة عناصر تماسكها وعوامل وحدتها.
إن شرقاً أوسط جديداً سيطل على هذه المنطقة من العالم تختلف منطلقاته وتتنوع مظاهره وتتسع آفاقه بعد تجربة الحرب المريرة وآثارها الباقية ما لم يظهر في إسرائيل جيل جديد يتحدث بلغة مختلفة ويدرك أن القوة والعنف والإرهاب ليست الوسائل المطلوبة لمسيرة المستقبل، ولكن التعاون المشترك والعيش في سلام واستعادة الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه والشعب اللبناني في استقراره وكرامته هي مقومات لا بد منها لارتياد المستقبل الذي نريده لأجيالنا المقبلة.
هذه قراءة مبدئية لمسرح العمليات السياسية بعد أن ينتهي الفصل العسكري وتتوقف الطائرات عن إلقاء المتفجرات على العباد والبلاد، وتظهر من بين الركام أصوات جادة تدعو إلى السلام والأمن وتنبذ الكراهية والعنف وتؤمن بأن الجوار الآمن هو الوسيلة المثلى والأسلوب السليم لإقرار الحقوق وتأكيد الكرامة وفتح الأبواب أمام الشعوب لكي تبني مستقبل أبنائها وحياة أجيالها المقبلة.
إن سرعة وتيرة العنف والحروب خلال الأسابيع الأخيرة قد توحي بأن المشهد سيتغير وأن الفصل الأخير سينتهي ولن تعود الأمور أبداً إلى المعاناة الكبرى التي شعر بها الجميع في كل أقطار الشرق الأوسط ودوله، دعنا نبحث عن مستقبل أفضل لأولادنا وأحفادنا والمقبلين من بعدنا بعد كل هذا الدمار.
المقاله تعبر عن راي كاتبها
اندبندنت عربيه