يجب أن تدرك الدول العربية أن محاولة التهام فلسطين ستكون البداية
مصطفى الفقي كاتب وباحث
إذا كان الكل يتشدق بحل الدولتين، وهو الذي يرفضه نتنياهو وحكومة اليمين المتطرف، فإننا نقول صراحة إن أقرب الحلول إلى العدل هو قيام دولة واحدة تضم العرب واليهود على قدم المساواة
شاعت قصة رمزية تعبر عن اضطراب تفكير أطراف الصراع في الشرق الأوسط، وهي أن عقرباً حمل نحلة من شاطئ إلى آخر ودار بينهما حوار وهما يعبران المياه، ولكن لدغته النحلة فرد عليها العقرب بالمثل وغرق الاثنان المعتدي والمعتدى عليه.
معضلة الشرق الأوسط تفوق اليوم كل التصورات وتضع رقماً قياسياً جديداً لطول مدة الصراع وتعدد أطرافه وعمق الكراهية بينها، فالذين وعدوا اليهود بوطن قومي في فلسطين هم أكثر الناس إدراكاً لحجم الجريمة التي ارتكبوها تحت مسمى النظر بعطف إلى آمال اليهود وتطلعهم إلى وطنهم القومي المزعوم.
والذي يتأمل تطورات ذلك الصراع سيدرك أن كل الأطراف ارتكبت أخطاء حتى من جرى الاعتداء عليه واحتلال أرضه وإزاحته من وطنه، بحيث أضحت المشكلة معقدة ومركبة ومتعددة الجوانب، وأصبحت دول المنطقة بلا استثناء مطالبة بأن تدفع ثمناً لذلك الصراع الدامي حتى لو كان ذلك بدرجات متفاوتة.
لقد عشنا وعاش جيلي كله، بل ربما أيضاً الجيل الذي سبقه وجيل ثالث يتلوه، على أمل حسم الصراع والقبول بمنطق التعايش المشترك وتوقف إسرائيل عن تبني سياساتها العنصرية الهمجية الخرقاء وأساليبها الاستيطانية العدوانية التي لم تتوقف على امتداد ما يزيد على قرن كامل، بل ونضيف إليه أيضاً عشرات السنين منذ مؤتمر بازل 1897 حتى يومنا هذا.
ولعلنا نجمل المراحل التي تقع تحت الملف الكبير لذلك الصراع الطويل بين الفلسطينيين واليهود أو بين العرب ودولة إسرائيل في النقاط التالية:
أولاً: مع بدايات الدعوة إلى إقامة كيان صهيوني تحت مسمى “دولة” يجري اعتبارها نواة لوطن قومي في إسرائيل لم يلتفت العرب إلى ذلك الأمر من البداية، واعتبره كثر جزءاً من نزاع الطوائف داخل أقطار دول المشرق العربي، وهو أمر اعتادت عليه بعض الطوائف في مراحل سابقة، لكن الأمر تطور ودخلت بريطانيا على خط المواجهة في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1917 حين نظر وزير خارجيتها بلفور نظرة العطف البريطانية على آمال الشعب اليهودي في الشتات، وكان ذلك في غضون اتفاق “سايكس بيكو” بتقسيم مناطق النفوذ بين بريطانيا وفرنسا في الشرق الأوسط، وهي التي ظهرت معها خريطة جديدة لدول عربية برزت بعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة الأتراك وإخفاق المشروع العربي للشريف حسين، وظهور عدة عروش هاشمية بقيت منها المملكة الأردنية الهاشمية بتألقها ودورها الحيوي في المنطقة.
وأنا أستدعي هذه المحطات لكي يتبين الجميع أن إسرائيل قفزت فوق الزمن وحاولت انتزاع ما ليس من حقها والسطو على أرض غيرها ودفعت بأطروحات يختلط فيها الخيال مع الحقيقة معتمدة على أوهام الماضي وتزييف التاريخ وتشويه المسار الإنساني لواحدة من أقدم مناطق العالم وهي منطقة الشرق الأوسط مستخدمة، شعارات توراتية وأساطير عبرانية تزحف كلها لتلتهم حقوق الآخرين وتعلن نفسها صاحبة السيطرة العليا والكلمة الأولى على أرض فلسطين العربية، ضاربة عرض الحائط بالمقدسات الإسلامية والمسيحية، فضلاً عن ترهيب البشر وترويع الآمنين وزرع بذور الفتنة على مسار التاريخ في العقود الثمانية الأخيرة.
ثانياً: جاءت بعد ذلك مرحلة المواجهة التي حاولت فيها الحركة الصهيونية ليّ ذراع الحقيقة وتطويعها لخدمة الأهداف طويلة المدى للدولة العبرية، ولم يقبل الفلسطينيون المساس بأرضهم والاستيلاء على تراثهم وسرقة وطنهم، فبدأت ثوراتهم بالاشتعال بفورات وانتفاضات منذ عشرينيات القرن الماضي واتخذت شكلاً دامياً في ثلاثينياته حتى أطلت النكبة بوجهها الكئيب بعد قرار التقسيم وإعلان قيام دولة إسرائيل التي باركت ظهورها الدول الكبرى بما فيها الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي حينذاك، إضافة إلى مجموعة الدول الغربية المتعاطفة تاريخياً مع الحركة الصهيونية والداعمة بصورة مطلقة لقيام دولة صهيونية في قلب الوطن العربي.
بدأ العرب في حالة استيقاظ متأخر لمواجهة أغرب الأعداء الذين يناصبون الشعب الفلسطيني العداوة بخطاب كراهية عميق لا يخلو من رتوش الماضي وأدران عصور الظلام التي سرق فيها اليهود وطناً وشردوا شعباً وهدموا المنازل على رؤوس سكانها، بل وأصبحوا ينكرون على الفلسطينيين حق الحياة، في مشهد إرهابي مقيت اهتز له وجدان الإنسانية.
لقد كنت شخصياً في زيارة لمدينة لندن التي درست في جامعتها وعملت في السلك الدبلوماسي بها، وراعني كثيراً ونحن نتجول في شوارع المدينة أن معظم الطرق مغلقة وهدير الهتافات يصك الآذان لكي أكتشف أنها مسيرات للتعاطف مع الشعب الفلسطيني وأطفاله القتلى ونسائه الثكلى بعد مشاهد مرعبة استمرت لما يقارب عام كمل حتى الآن، ورئيس حكومة إسرائيل يعربد وجيشها يمارس مزيداً من العدوان والاغتيال العلني وتنفيذ الإعدامات بدم بارد في الشوارع والأزقة الفلسطينية، وتفجير الأجهزة الإلكترونية لتقتل أصحابها وتهجير مئات الألوف من موقع إلى آخر في رحلة نزوح لا يتوقف، يحملون فيه المتاع القليل ويفترشون الأرض ويلتحفون السماء من دون طعام أو ماء، إنها مأساة العصر وأحزان ملايين البشر في سابقة لا نظير لها في العالم المعاصر.
ثالثاً: إذا أردنا تحليل الحاضر لكي نقيم المستقبل فإنه يتعين علينا أن ننتقل من أوهام الماضي إلى تحقيق وقائع العصر وحقائق المجتمع الدولي وأبعاده المختلفة، فالرواية لم تتم فصولاً ولا تبدو أمامنا في المنظور القريب أمور تدعو إلى التفاؤل أو تسمح بتحقيق الغايات المشروعة للشعب الفلسطيني، وإذا كان الكل يتشدق بحل الدولتين، وهو الذي يرفضه نتنياهو وحكومة اليمين المتطرف، فإننا نقول صراحة إن أقرب الحلول إلى العدل هو قيام دولة واحدة تضم العرب واليهود على قدم المساواة، وتسمح بالتداول العادل للسلطة والتناوب السياسي في الحكم، بحيث تكون دولة ديمقراطية كاملة لا تعرف التمييز بين مواطنيها ولا التفرقة بين أبنائها، بل تمضي مع روح العصر تحترم الشرعية الدولية وتقبل بمفهوم التعايش المشترك. وقد يقول قائل إنها أضغاث أحلام، فمن ذا الذي يستطيع أن يضع الأمور في نصابها ويقيم موازين العدل على الأرض الواحدة التي تحترم الوجود الفلسطيني التاريخي الراسخ إلى جانب الوجود الإسرائيلي الزاحف في غفلة من الزمن وغياب للرؤية وتلويث للحقيقة.
رابعاً: إن الدول العربية يجب أن تدرك أن محاولة التهام فلسطين ستكون البداية، وأكرر مع كتاب كليلة ودمنة على لسان الثور الأسود عندما قال (أكلت يوم أكل الثور الأبيض)، فالحركة الصهيونية حركة عنصرية عدوانية تمثل نمطاً خاصاً من الاستعمار لا نكاد نعرف له نظيراً بين أمم الأرض وشعوب العالم، فالمأساة مستمرة والظلم واضح وسياسة الكيل بمكيالين في عصرنا الذي هو عصر تحكمه موازين القوى وليس عصراً تحكمه شريعة الحضارة وفكر الإنسان الذي لا يتوقف عن التجدد والتحضر والرقي، حتى ولو ساد الظلام طويلاً وغابت الحقيقة لعدة عقود، فإن مهرجان الفجر يأتي ذات يوم، وتشرق الشمس على دولة جديدة يعيش كل أبنائها في مساواة بمنطق المواطنة من دون فروق بسبب جنس أو لون أو عقيدة.
دعنا نتطلع إلى ذلك اليوم الذي تتحول فيه دماء شهداء غزة وأشلاء أطفالها إلى قوة دفع جديدة تنير الطريق أمام شعوب الشرق الأوسط نحو مستقبل واعد تتحقق فيه الآمال ويتحقق السلم والأمن الدوليان وينتهي ذلك الصراع على أسس راسخة وأعمدة قوية متينة تسمح له بالازدهار والاستمرار وتتيح له ديمومة الحياة.
هذه خواطر أبناء الحضارات المتعاقبة والديانات السماوية والأوطان التي عرفت دائماً الشرائع البشرية قبل غيرها على مسرح الكون الفسيح، فهل ينتهي هذا الصراع يوماً؟
دعنا ننظر إلى السماء!