العولمة لا تزال حية لكنها تواجه تحديات جوهرية

لا يمكن لدولة بمفردها مواجهة الرهانات العالمية الكبرى مثل التغير المناخي والأوبئة والإرهاب

ذكي بن مدردش كاتب رأي

العولمة ليست مجرد عملية اقتصادية بل تشمل جوانب ثقافية عبر تبادل الأفكار والقيم بين المجتمعات المختلفة وأخرى سياسية وفيها تسعى الدول إلى التعاون وحل النزاعات عبر المنظمات الدولية.

العولمة كمفهوم وممارسة تعبر عن تلك العملية التي تدمج العالم في شبكة واحدة من الترابط الاقتصادي والثقافي والسياسي، ومنذ نهاية الحرب الباردة وتسارع التكنولوجيا في أواخر القرن الـ 20، أصبحت العولمة ظاهرة لا يمكن تجاهلها، وسعى العالم إلى توحيد الأسواق، وتعزيز التبادل الثقافي، وتسهيل حركة السلع والأفكار عبر الحدود، ولكن مع مرور الوقت وظهور تحديات جديدة، بدأ السؤال يطرح: هل انتهت العولمة أم لا تزال باقية؟

للإجابة عن هذا السؤال يجب علينا أولاً فهم ماهية العولمة، ثم النظر في التفكيك الحديث للعولمة وتأثيراته في الجوانب الفلسفية والتجارية والسياسية.

ماهية العولمة

العولمة هي تلك العملية التي يتم من خلالها زيادة الترابط والتداخل بين دول العالم وشعوبه على مختلف المستويات. تشمل هذه العملية مجالات عدة من بينها الاقتصاد، وهنا ينظر إلى العولمة على أنها تسهيل حركة السلع والخدمات ورأس المال عبر الحدود الوطنية.

لكن العولمة ليست مجرد عملية اقتصادية، فهي تشمل أيضاً جوانب ثقافية، إذ يجري تبادل الأفكار والقيم بين المجتمعات المختلفة، وجوانب سياسية أيضاً وفيها تسعى الدول إلى التعاون وحل النزاعات عبر المنظمات الدولية.

الفلسفة وراء العولمة

تقوم فلسفة العولمة على فكرة أن العالم أصبح قرية صغيرة، إذ لا توجد حدود تمنع التفاعل والتبادل بين الأفراد والمجتمعات، وساعدت التكنولوجيا الحديثة، بخاصة الإنترنت على تسريع هذه العملية من خلال تسهيل التواصل وتبادل المعلومات بسرعة لم تكن متخيلة من قبل.

تفكيك العولمة

منذ العقد الماضي ظهرت علامات على ما يمكن تسميته “تفكيك العولمة” أو “العولمة المعكوسة”، يتمثل ذلك في اتجاهات متزايدة نحو الحمائية الاقتصادية، وصعود الحركات القومية، والتشكيك في المنظمات الدولية عدة الأطراف، ويمكن تفسير هذا التفكيك من خلال جوانب عدة.

الاقتصاد التجاري

أدت الأزمات الاقتصادية المتتالية، مثل الأزمة المالية العالمية عام 2008 وجائحة كورونا، إلى انكشاف ضعف العولمة الاقتصادية، وأدت العولمة إلى تعريض الاقتصادات الوطنية لصدمات عالمية، مما جعل بعض الدول تعيد التفكير في مدى اعتمادها على التجارة الدولية وسلاسل التوريد العالمية، وأسهمت هذه العوامل في تعزيز الحمائية الاقتصادية، وبدأت الدول تتجه نحو تقوية صناعاتها المحلية وتقليل الاعتماد على الواردات.

السياسة الدولية

مع ظهور قوى عالمية جديدة مثل الصين وصعود التيارات القومية في الغرب، شهدنا تحولات كبيرة في النظام الدولي، وأصبحت التوترات الجيوسياسية بين القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، تعوق التعاون الدولي وتحد من فعالية العولمة السياسية، وهذه التوترات تسببت في انقسامات جديدة وأعادت توجيه الاهتمام نحو تعزيز السيادة الوطنية بدلاً من التعاون الدولي.

التداخل الفلسفي

من الجانب الفلسفي كانت العولمة تمثل الوعد بعالم أكثر انفتاحاً وتسامحاً، لكن تفشي الثقافة الاستهلاكية وانتشار القيم الغربية أثار ردود فعل سلبية في كثير من المجتمعات التي شعرت بأن هويتها الثقافية مهددة، وأدى ذلك إلى تصاعد التيارات المحافظة والتي تدعو إلى الحفاظ على القيم التقليدية ومقاومة العولمة الثقافية.

اللحظة الراهنة

في عام 2024 يبدو أن العالم يعيش مرحلة معقدة بين بقايا العولمة وظواهر تفكيكها، وهناك عوامل عدة تجعل من الصعب إعلان انتهاء العولمة بشكل قاطع.

استمرار الترابط التكنولوجي

على رغم من التحديات لا يزال العالم متشابكاً بفضل التكنولوجيا، وتظل منصات التواصل الاجتماعي والإنترنت وسيلة قوية لربط الناس عبر القارات، مما يحافظ على نوع من العولمة الثقافية والمعرفية، حتى مع محاولات الرقابة والسيطرة على المعلومات لا تزال الأفكار تنتشر عبر الحدود بسرعة كبيرة.

التجارة الدولية

وعلى رغم الحمائية المتزايدة لا تزال التجارة الدولية جزءاً أساساً من الاقتصاد العالمي، ولا تستطيع الدول الاستغناء عن الأسواق العالمية لتصدير سلعها أو استيراد ما تحتاج إليه من موارد، وتشير البيانات الاقتصادية إلى استمرار وجود طلب عالمي على السلع والخدمات، مما يضمن بقاء العولمة الاقتصادية بشكل أو بآخر.

التحديات العالمية المشتركة

لا يمكن لدولة بمفردها مواجهة التحديات العالمية الكبرى مثل التغير المناخي والأوبئة والإرهاب، وهذه التحديات تفرض على الدول التعاون والعمل الجماعي عبر المنظمات الدولية، مما يعزز من بقاء العولمة كضرورة وليست خياراً.

الصراعات الدولية

مع تزايد التوترات الجيوسياسية، بخاصة بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، يظل العالم في حال عدم استقرار، وهذه الصراعات قد تؤدي إلى تقليص التعاون الدولي وإضعاف العولمة، لكنها في الوقت نفسه تبرز الحاجة إلى أطر جديدة للتعاون والحوكمة العالمية.

خاتمة

العولمة كظاهرة لا تزال حية لكنها تواجه تحديات جوهرية قد تؤدي إلى تغيير شكلها أو تقليص نطاقها، ونحن في لحظة تاريخية يتداخل فيها التفكيك مع محاولات الحفاظ على الترابط العالمي. في عام 2024 يبدو أن العولمة لم تنته لكنها بالتأكيد تعيش مرحلة من إعادة التشكيل والتكيف مع الواقع الجديد، فهل ستتمكن العولمة من البقاء والتطور في مواجهة هذه التحديات؟

الإجابة عن هذا السؤال ستتحدد بناء على كيفية تعامل العالم مع التحديات الراهنة ومدى القدرة على إيجاد حلول تعيد توازن النظام العالمي المتشابك.

كتبت هذه المقالة عبر “تشات جي بي تي” وأجريت عليها تعديلات لغوية بما يناسب أسلوب “اندبندنت عربية”