رعاية الماعز بين حقول “المشمش الهندي”

أساطير أرض البهارات تضيع مع الوقائع في ثلاثية “الكاهن الأكبر” و”الإله الأسود” و”حياة الماعز”

مصطفى الأنصاري كاتب وصحافي @mustfaalansari

 أوقدت حكاية الراعي نجيب والفيلم الذي رواها أو حرَّفها شرارة بين العرب والسعوديين دفعت إلى استدعاء الصور النمطية الواقعية والافتراضية، التي ظلت شعوب العالم تتقاذف بشررها على نحو يثير السخرية والدهشة أحياناً، فلا يكاد الرامي يصوب نحو الهدف حتى يصير هو نفسه هدفاً.

ولربما بلغ الترامي بذلك الشرر حداً يجعله من قبيل النيران الصديقة والتسجيل في مرمى الفريق اللاعب بدلاً من المنافس أو على طريقة قول ذلك العربي القديم عن تحكم نوازع الغزو في النفوس لدرجة الإغارة أحياناً “على بكر أخينا… إذا ما لم نجد إلا أخانا”.

هذا أو قدر كبير منه حدث هذه المرة، يوم استفاق السعوديون والعرب على فيلم “حياة الماعز” الذي حمل ما يشبه الهجاء المقذع ومحاولة تنميط شخصية العربي في شخص عديم المروءة والإنسانية، وهو يُخضع عاملاً هندياً ضل طريقه لأبشع صنوف العبودية الغابرة.

أين الماعز من طقوس “البذل الرباني”؟

لكن الفيلم الذي نشر لاحقاً في ترجمته العربية على “نتفليكس” ما لبث أن أشعل حملة ضارية اتخذت كل طريق بما في ذلك حشد ما يبطله ويثبت النقيض، إن كان على سبيل رواية حكايته الأصلية التي حرفت حسب المتتبعين لتفاصيلها أو بإثبات جناية بلد المخرج وبطل القصة (الهند) في ميدان حقوق الإنسان وبخاصة المسلمين منهم والطبقات المهمشة، أو بفتح النوافذ على كل أساطير أرض البهارات والوقائع فيها التي اتسمت بالغرابة والسوء، حتى صار “فيلم هندي” مثلاً في المنطقة الخليجية وبعض العربية لأي أمر لا يمكن تصديقه، أو أي شأن فاضح موغل في التعقيد.

ولا يحتاج الأمر كبير بحث فالسينما الهندية نفسها تكفي الباحث المؤونة، وغنى البلاد بآلهتها ودياناتها ولغاتها وتنوعها كفيل بما أشغلت عجائبه القدامى قبل عصر الصورة والسوشيال ميديا، فما بالك باليوم.

ففي “نتفليكس” غير بعيد من “حياة الماعز” كانت هناك قصة أشد غرابة وموثوقية وامتهاناً للكرامة الإنسانية وثقها فيلم “تحدي الكاهن الأكبر”، الذي وثق طقوس “البذل الرباني” التي كانت شائعة بين طوائف في الهند إلى عهد قريب، إذ تُقام على شرف الزعيم الروحي احتفالات صاخبة يختار في ثناياها إحدى الفتيات الراقصات بوصفها ذات الحظ السعيد بوقوع عين معبود الجماهير عليها، حين يمنحها الفرصة بأن تبذل روحها وعذريتها للكاهن، الذي يعاشرها على مرأى من الملأ وخصوصاً زوج المستقبل إن كانت مخطوبة.

WhatsApp_Image_2024-08-31_at_7.01.50_PM.jpeg

من بين طقوس “البذل الرباني” التي كانت شائعة بين طوائف في الهند إلى عهد قريب اختيار الكاهن لفتاة الحظ الراقصة من أجل معاشرتها أمام الملأ (الفيلم)

لكن الذي كشف الغطاء عن القصة التي شهدت وقائعها محكمة مومباي خلال عام 1962 هو تبرم صحافي في البلاد من تلك العادة المشينة التي استغلها الزعيم لتلبية رغباته الجنسية بعد أن ذاع صيته، إثر شكاوى الضحايا من الحوامل والمريضات بأعراض جنسية وأهالي المقتولات في ظروف غامضة من المحظيات، مما جعل الصحافي الشجاع يشن حملة صحافية ضده في مقالات عدة قبل أن تضغط عليه الشخصية الروحية النافذة بكل الأساليب غير القانونية، وحين لم تفلح في إسكات صوته لجأ إلى رفع دعوى التشهير ضده أمام المحكمة التي كان قضاتها البريطانيون في موقف محايد.

“جسر الوصول”

لكي يضيف المخرج بصمات من الإثارة على المشهد جعل القضية التي فجرت نقمة الصحافي وقوع خطيبته في اختيار الكاهن مما دفعه إلى التخلي عنها، وانتحارها بعد ذلك تحت وطأة العار الذي لحق بها وبأسرتها، إلا أن القصة الحقيقية كما الدرامية خلصت إلى انتصار الكاتب في مداولات المحكمة حين تضامنت معه أطياف واسعة من الضحايا وأدلت بشهادتها بغتة في المحكمة التي أمتها الجموع، بعد أن كان يئس من ذلك جراء استخدام الإله المزيف كل نفوذه وحيله لإسكات الشهود المتوقعين.

وفي نهاية المطاف سجلت سابقة قضائية، ليس فقط حظرت طقوس “البذل الرباني” المهينة ولكن كذلك أن الشخصية الروحية نفسها ليست فوق القانون، وكان من الممكن تحريك دعوى قضائية ضده من جانب الراغبات من ضحاياه الأحياء. وبهذا خلد الفيلم بطولة الصحافي كارسان داس مولجي الذي بث روح الثورة ضد الخرافة في نفوس مدينته، و”علم الناس أن المرء ليس في حاجة إلى جسر للوصول إلى الإله فالدين وسيلة كي يصبح المرء شخصاً أفضل، وليس كي يصبح الإنسان رباً”، وفق نص الحوار المتشبع بقيم الاستقلالية للفيلم الذي بث تزامناً مع “حياة الماعز” عبر المنصة الأميركية.

WhatsApp Image 2024-08-31 at 6.57.30 PM.jpeg

واجهة الفيلم على منصة “نتفلكس” (اندبندنت عربية)

فضائح السينما الهندية

لم تكن الفضائح القديمة وحدها ما انكشف للعرب لدى النبش في السياق الداخلي الهندي، فقد جاءت سورة الغضب السعودية تزامناً مع فضائح هزت أوساط السينما الهندية نفسها التي أثارت الجدل، إذ اهتمت الصحافة الدولية بحوادث تدور حول ولاية كيرالا في جنوب الدولة، إثر انتشار موجة من ادعاءات الاعتداء الجنسي ضد بعض كبار النجوم منذ صدور تقرير بحث المشكلات التي تواجهها النساء في الصناعة بعد منتصف أغسطس (آب) من هذا العام، وهو قطاع من السينما عريض في الهند ينتج وفق أحدث الإحصاءات ما بين 150-200 فيلم باللغة المالايالامية سنوياً.

 وفي هذا السياق كشف تقرير أصدرته لجنة مكونة من ثلاثة أعضاء – تسمى لجنة هيما – والمكون من 290 صفحة “أوضح بالتفصيل المشكلات التي تواجهها النساء في السينما المالايالامية، ومن بينها ظروف العمل السيئة والتحرش الجنسي المتفشي”، وفق مراسل “بي بي سي” البريطانية، إلا أن التقرير حتى كان متحفظاً بوصفه لم يخف هويات الناجيات لظروفهن الاجتماعية فحسب، ولكن ساواهن في الحماية مع “المتهمين بالتحرش”، في خطوة رآها بعض العرب الشامتين تناقضاً من صناعة السينما في بلاد الألوان الزاهية بين ما تفعله لصون سمعة محيطها، وما تفعله في حق مجتمعات أخرى، وسعت دائرة الخطأ الفردي ليعمم ضد شعوب عدة لا ذنب لها، صورة نمطية سلبية.

WhatsApp Image 2024-08-25 at 1.50.08 AM.jpeg

ملصق فيلم “حياة الماعز” على نتلفلكس.

لكن نقاداً سعوديين كباراً مثل عبدالله الغذامي رأوا أن طبيعة العمل الدرامي تقتضي المبالغة التي انتهجها فيلم “حياة الماعز” التي أزعج مواطنيه، وأن ردود الفعل المبالغة نحوه قد تكون هي غاية المخرج التي تحققت. وبدا أن “نتفليكس” خضعت لضغوط الجمهور العربي الغاضب وحذفت الفيلم لجمهورها السعودي، وربما تمهيداً لإجراء مماثل في مناطق أخرى، بسبب ما قيل إنه حملة إلغاء اشتراكات ومقاطعة من أعداد واسعة من المشتركين، الذين رأوا في إخراج القصة حتى وإن صحت نوعاً من التجني ضد العرب، بل اعتبرته جمعية حقوق الإنسان المستقلة في السعودية “مسيساً ومريباً”، وهي التي كثيراً ما دافعت عن حقوق العمال ونددت بأي انتهاك ضدهم من جانب أرباب العمل والكفلاء، حتى قبل أن تخصص الرياض محاكم متخصصة للعمال جعلت إنصاف العامل أولوية.

وأظهر استطلاع ألماني ارتفاع ترتيب السعودية إلى المركز الثاني كأفضل دولة للعمالة الوافدة في العالم، بعد رحلة التحول التي عاشتها البلاد، حين اعتبرها أكثر من نصف المشاركين سوقاً إيجابية للعمل، وذلك بعد أن قفز ترتيب الرياض  من المرتبة الـ 14 في عام 2023.

ويقيس استطلاع الرأي السنوي لـ “InterNations” عدداً من عناصر الرضا الوظيفي والمرتبطة بكل جوانب العمل والحياة حول العمل والأجور والتوازن بين العمل والحياة، وغيرها، وهو الذي وثق أن  75 في المئة من العمالة الوافدة إلى السعودية، يعتقدون أن خطوة الانتقال إلى المملكة حسنت آفاقهم المهنية.

القصة الواقعية والمتخيلة

أما أشد المواقف التي خلص إليها تقصي النشطاء السعوديين المضادين لرسائل فيلم “حياة الماعز” الاتصالية، فهي أنهم بعد تتبع خيوط القصة الأصل التي جرى توظيفها في نص الفيلم، وجدوها مغايرة تماماً. فعلى رغم وجود كفلاء أو أرباب العمل (ألغي مصطلح الكفيل في السعودية منذ أعوام) يظلمون عمالهم، فإن ذلك لم يكن بتأييد رسمي أو حتى مجتمعي.

وهذا ما كشفت عنه القصة الحقيقية لا المحرفة لقصة بطل الفيلم المثير للجدل، فقد كان العامل بحسب ما وثق الراوي عبدالرحمن الدعيلج “تعرض بالفعل لظلم كبير من رب العمل لدرجة جعلته يمنعه من السفر إلى بلاده أو إعطائه أجره، حتى قاده ذلك إلى مشاحنة بينهما انتهت بالهندي إلى قتل كفيله”.

بعد أن أخذت الإجراءات القانونية مجراها وتقرر إعدام الجاني طبقاً لحكم لجنة من قضاة المحكمة، سعى أهل البلدة التي وقعت فيها الحادثة إلى إقناع أولياء الدم بالعفو عن القاتل بحجة أن والدهم هو الآخر ارتكب خطأ كبيراً، “ولربما كان ذلك كفارة له على هضم العامل حقوقه”، إثر ذلك قال إن قلبهم رق لذلك وعفوا عنه، وفوق ذلك أعطى أهل المسعى النبيل العامل مبلغاً مالياً كبيراً يقدر حينها بنحو 30 ألف دولار تعويضاً عن أعوام عمله التي لم يأخذ عليها أجراً.

وسواء كانت تلك القصة تعود لبطل الفيلم نفسه أم لغيره، فإنها وكثير سواها بين البراهين التي ساقها كثير من العرب والسعوديين على أن إكرام العمالة كان شائعاً هو الآخر وليس فقط امتهان حقوقهم في ذلك الوقت، حسب السردية التي روج لها الفيلم الذي أوحت دلالات رموزه بأبعد من خطأ فردي، إلى تواطؤ أجهزة حكومية مع التمييز المقيت ضد آدمي يجب صون كرامته في كل الديانات.

الغرائب سمة “المشمش الهندي”

لكن التعاطي مع الجدل في هذا السياق أخذ حظاً من النقاش العقلاني حتى بين الغاضبين، فعدد من المهتمين أعاد القصة إن هي خلت من الأيادي السياسية الخفية التي تدس الإساءة إلى السعودية بقصد، إلى طابع الغرائب الذي طبع أرض العجائب والألوان، حتى غدا مقصد هواة التحليق بالخيال إلى أبعد مدى، ولذلك أعيد الفضل في بعض نفائس الأدب العربي إلى ترجمات عن الهند في أيام الاتصال القديم بها إبان الفتح العربي والإسلامي، في مثل فرائد “ألف ليلة وليلة” و”كليلة ودمنة” وسواهما.

ومن بين الأعمال الحديثة في هذا السياق “المشمش الهندي” للروائي والصحافي السوداني عماد البليك الذي وظف تلك الغرائبية باقتدار في عمله، حين جعل الهند وأساطيرها ميداناً خصباً لروايته المثيرة بالتفاصيل والمعاني الفلسفية، والحيوات الوجودية بين الخرطوم ومومباي ودبي على رغم قصر حجم الرواية الواقعة في 150 صفحة متوسطة، عن دار “بلاتنيوم بوك”.

WhatsApp Image 2024-08-31 at 6.54.54 PM.jpeg

وجد بطل الرواية نفسه محاطاً بأبهة من الجلال خارج السجن بوصفه “إلهاً أسود” (اندبندنت عربية)

وهنالك يلتقط القدر أربعينياً سودانياً إلى بلد خليجي لم يشأ تسميته صراحة، لكن إيحاءاته أظهرت أنه دبي بحثاً عن عمل لم يتحقق قط بعد أن استكان الوافد الجديد للراحة بين عزبة مواطنيه، يقضي لياليه في الشرب ولعب الورق من دون أن يسعفه حظه العاثر بأية علاقات نسائية ظل يمني نفسه بها مثل أقرانه المغتربين على رغم إمكاناته الثقافية الفائقة، لولا أن القدر يبتسم له أخيراً في شخص زوجة صديقه، التي ظهرت فجأة كما لو أنها لعنته، فقد زج في غياهب السجن جراء ولعه بها يوم قبضت عليه شرطة الآداب في خلوتهما.

بدلاً من أن يتم ترحيل الأربعيني الفيلسوف إلى بلاده وجد نفسه محاطاً بأبهة من الجلال والتكريم خارج السجن بوصفه “إلهاً أسود” استقبلته الجموع في مومباي بهالة من التقديس والورد والتبرك، “يُسجد له وتوهب لأجله كل الأشياء والأغراض”، لكن انتكاسة ما حدثت في المسيرة غير المتوقعة أصلاً، جعلت “الزول” الذي كان قبل أيام إلهاً يصبح قرباناً للآلهة مذبوحاً على أنغام عصافير حدائق “المشمش” الملونة.

ومن كل الألوان والأجناس كان للهنود عبر العصور آلهة وقديسون، من البقر إلى الحيات والأنهار والمجسمات. ولكل الثقافات القديمة أصنامها وتناقضاتها وعشاؤها الأخير، إلا أن الهند تظل في تقدير كثيرين تحتفظ بالقدر الأكبر منها حتى مع ثورة التقنية الحديثة، وصفقات “بوليوود” والذكاء الاصطناعي و”وادي السليكون” ومجموعة الـ20.

وهكذا يمكن فهم أي شيء يأتي منها، حتى وإن رعت “ماعز الربع الخالي” في أفلامها أطايب “المشمش الهندي”.

المقاله تعبر عم راي كاتبها

اندبندنت