تغير الزمن الثقافي والاجتماعي والإعلامي
أمين الزاوي كاتب ومفكر @aminzaoui1
في هذا الزمن الاستهلاكي التكنولوجي الرقمي ها نحن نحضر ساعة انمحاء صورة الكاتب الإنساني الحقيقي الواقعي أمام سيادة صورة كاتب افتراضي مفبرك وهجين.
كيف تأسست وكيف تحولت صورة الكاتب العربي في المخيال الجمعي خلال قرن من الزمن الثقافي والإبداعي والسياسي؟
الكاتب في جبة الديني
منذ مطلع القرن الـ 20، كانت صورة الكاتب شاعراً أو روائياً في التهيؤات الجمعية تنحت بعض ملامحها من صورة النبي أو من صورة المجنون، ففي عيون المجتمع أن يكتب الواحد كتاباً فهذا من باب الخارق واللاعادي، فصورة الكتاب الإبداعي تحيل مباشرة إلى صورة الكتاب المقدس، فالكتابة مهما كان مضمونها، بخاصة باللغة العربية، تنتمي إلى فضاء المقدس، كانت جداتنا إذا ما عثرن على قطعة ورقة مكتوبة بالعربية ملقاة على الأرض، بغض النظر عمّن كان كاتبها وأيّاً كان مقصدها أو مضمونها، ترفع وتوضع في شق الجدار حتى لا تطأها أقدام المارة، فالكتابة مقدسة والمكتوب كذلك. من هذا المنطلق تنزاح صورة الكاتب في المخيال الجمعي إلى سلالة ليست زمنية أو بشرية.
في السابق، كانت هناك كتب قليلة وكتّاب أقل، وأن يحظى واحد من القراء البسطاء بلقاء كاتب حقيقي، من لحم وعظم، فهذه من المناسبات واللحظات النادرة جداً.
في ذلك الزمن القديم كانت صورة الكاتب مشكلة داخل هالة دينية حتى لو كان هذا الأخير ملحداً أو غير متدين، فلكل قرية مجنونها وشاعرها، وفي المرات الكثيرة مجنونها هو نفسه شاعرها!.
الكاتب في جبة الزعيم
ثم تغير الزمن الثقافي والاجتماعي والإعلامي، فمع منتصف خمسينيات القرن الماضي وبداية توسع حركات التحرر الوطنية في العالم العربي وفي أفريقيا، ودخول فكرة الحزب كتنظيم معاصر بديل عن تنظيم القبيلة، حتى إن ظلت القبيلة قائمة حتى الآن، إلا أن هذا التفكير التنظيمي الحزبي الغربي سيهزّ العقل الجمعي ويمنحه تصورات أخرى عن المجتمع وعن النخب، ومن بينها صورة الكاتب التي ستتعرض لإعادة صياغة في الذهنية الجماعية.
كان الفكر الماركسي بصورة عامة هيمن هيمنة سياسية كبيرة على المدينة وبالأساس على نخبها السياسية في البداية ثم الأدبية في وقت لاحق.
وتغيرت الأشياء، ومعها تغيرت وسائل الاتصال، تعددت الجرائد والمجلات وكثرت محطات الإذاعات، ثم وصل الهاتف العمومي، ثم دخل الأسود والأبيض البيوت شيئاً فشيئاً، وظهرت دور نشر في كثير من البلدان العربية والأفريقية، وأصبح المواطن ينعم بهذه الخيرات التقنية والمعرفية والإعلامية، وتشكلت الطبقة الوسطى المدينية كعامل فاعل ووازن في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأصبح لها صوت سياسي واضح، وتبعاً لذلك تغيّرت صورة الكاتب، وانزاحت من مكانها شكلاً ومضموناً، فتحررت الصورة أو تم تحريرها، وانتقلت من طابعها النبوي لتتقمص ملامح الصورة الثورية، هكذا عوض الالتزام الوحي أو الإلهام وأخذ مكانه، وبدت صورة الكاتب في عيون القراء متماهية مع صورة السياسي، فهما يقومان بالدور ذاته، أو أنهما متقاربان في ذلك أو متقاطعان، وهكذا أيضاً لم يعُد الكتاب ذلك “الشيء” الخارق الذي يفتح من خلال حل كودات معقدة بل إنه انتقل إلى ذلك الشيء الواضح الذي يؤدي دور تبليغ الرسائل السياسية المفضوحة المحتوى، وأصبح المكتوب عادياً وسقطت هالة المقدس منه، وأصبحت الجرائد المكتوبة بالعربية يلفّ فيها السردين والفول السوداني!. واقتربت صورة الكتاب الشعري أو النثري (القصيدة والرواية) من صورة المنشور الأيديولوجي السياسي، وأضحى الكاتب مناضلاً من خلال نصوصه ومن خلال سلوكه، أي من خلال انتمائه السياسي التنظيمي أو غير التنظيمي، وتسللت صورة الكاتب إلى جبة صورة الزعيم السياسي، وسقطت هالة التقديس عنه ولم يعُد يوشوش نصوصه بل يصرخ بها من على المنصات والتجمعات السياسية والحزبية. لقد ابتذلت صورة الكاتب ونزلت من عليه جميع الأقفال، واختفى الغموض، وكانت كلما تعددت الإخفاقات السياسية بدت صورة الكاتب قريبة من صورة المواطن العادي.
الكاتب في جبة “الروبوت”
ثم حلّ زمن آخر، زماننا هذا، بكل ما فيه من جنون تكنولوجي متهافت، حل بالبيوت الإنترنت – الشبكة العنكبوتية،، ثم أجيال الهواتف الذكية، ووسائط التواصل الاجتماعي المختلفة والمتنافسة، نحن في بداية الألفية الثالثة، فانقلاب جذري يضرب كل شيء، زلزال مدمر للقيم، تسونامي يعصف بتفاصيل اليومي، كل شيء متغير، لا ثبات ولا ثابت، حتى الهاتف الثابت اختفى، ووسائل الإعلام التقنية القديمة كالجرائد الورقية التي لم يعُد أحد يقرأها إلا القلة الناجية اختفت، ولم يعُد التلفزيون ذلك الصندوق العجيب، وفقدت الإذاعة سحرها ببرامجها المثيرة ولم نعُد نسمع الراديو إلا في السيارات وبصورة متقطعة بشلال إعلانات الهاتف الذكي، لقد تغيرت مفاتيح العالم وتبدل إيقاع الحياة اليومية رأساً على عقب، وتبعاً لذلك أصبحت صورة الكاتب غامضة، فضاع الكاتب في الزحام وتعرضت صورته للانتهاك، جيل يسكن في وسائل التواصل أكثر ما يسكن في البيوت، كل شيء يمرّ ويعاش عبر وسائل التواصل الاجتماعي، القراءة والحب والاستهلاك وصناعة الذوق تنمو على الشاشة، وأصبح البشر متشابهين كثيراً، وساد التنميط والنسخ البشري وفقدت الحياة الاجتماعية دفئها الإنساني، فثقافة الصورة تغطي على كل أشكال الثقافات الأخرى، وأصبح المجتمع ضحية ثقافة الاستهلاك المتوحشة، واختفى وإلى الأبد زمن الرسائل الورقية وساعي البريد، ويحاصر الفرد برسائل إلكترونية بلا طعم ولا روح. وفي ظل هذه القيامة البشرية يبحث الكاتب عن نفسه داخل متاهة من القيم المخترقة التي أنتجتها التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي الذي ينافس الكاتب في الإبداع، “تشات جي بي تي” يكتب بديلاً عن الكاتب أو كما يكتب، فلقد ضاع الطريق وضاع معه الكلام والمتكلم والحرف والكاتب واختلطت المنصات.
أصبحت وسائط التواصل الاجتماعي في متناول الجميع، أكتب ما بدا لك، أكتب ما شئت، أكتب باللغة التي ترغب فيها، أشتم، أقذف، مارس السياسة والمعارضة كما يحلو لك، قيم أخلاقية جديدة تشكل ماهية إنسان الجيل الجديد، ويدخل الساحة “روبوت” – نصف إنسان، ويختلط الإنسان بـ “الروبوت”، فلم يعُد الكاتب وحده من له الحق في أخذ الكلمة كما كان في زمن الإعلام التقني التقليدي، الجميع يعبر بلا حدود ومن دون حرج ومن دون رقابة، الرقابة نفسها تغيرت، من رقابة البوليس والفقيه إلى رقابة مالك وسيلة التواصل الذي يمنع بحسب ميوله السياسية والجنسية والعرقية، وتغيرت بصورة جذرية علاقة الكاتب بالقارئ، وكثر الكتاب وقلّ عدد القراء، وأصبحت صورة الكاتب جزءاً من الفرجة، يستعرض الكاتب أو الكاتبة نفسه من خلال الفيديوهات أو الصور أكثر ما يعرض نصوصه، ولم يعُد صوت الكاتب مسموعاً، المجتمع يغير من رموزه ومن قيمه.
ها نحن ندخل زمن البؤس السعيد أو السعادة الشقية!. الجميع يلعب مقابلة ولا من متفرج.
إن الحيّز الاجتماعي والسياسي الذي كان يمثله حضور الكاتب بمفهومه القديم استولى عليه المؤثرون والنجوم، وأصبح الكاتب إما معزولاً أو مضطراً إلى مجاراة الواقع بأن يجرب هو الآخر ثقافة المؤثر أو النجم، وفي مثل هذه الحالة تفقد الكتابة تأملها ويتم اختراقها بمرض الاستهلاك.
في هذا الزمن الاستهلاكي التكنولوجي الرقمي، ها نحن نحضر ساعة انمحاء صورة الكاتب الإنساني الحقيقي الواقعي أمام سيادة صورة كاتب افتراضي مفبرك وهجين.